يا ويل اللي طحينه انتعف في الشوك
وليد رباح
لا ادري ان كان زربول أبي ما زال حيا .. فقد كان فيه من الرقع ما غير لونه الحقيقي .. فهناك رقعة حمراء في الوسط وفي الزاوية اليمنى خضراء وفي اليسري بنية اللون وأبيضها في المقدمة وخامسها دون لون بحيث ضاعت معالمه .. وغدا حذاء الطنبوري نسبة اليه من المعجزات .. ولم يترك والدي رحمه الله ارثا لنا سوى ذلك الحذاء .. ولقد لقي من العناية ما لم نكن نلقاها نحن الاخوه .. فقد كانت امي تقول لنا عندما نداعبها .. ولك انت وهو.. ريحة عرق الارض مجبوله برقاقيعه .. وكنا نزيد في الدعابة فنسألها.. يا يمه .. وهل للارض عرق فتقول : قبرت اهلك .. اني لاشعر أن الارض تناديني عندما يتصبب عرقها لكي اغسل ما فيها من الشوائب.. جيل عجب .
واني لاذكر عندما اصطحبني ابي الى المدرسة أول مرة اصراره على ان البس ذلك الحذاء حتى لا يزدريني مدير المدرسه ويقول .. الولد حافي .. و كنا نحن الاخوة نتداوله في المناسبات السعيده والتعسه .. كأن نذهب الى عرس او حضور جنازة أو طهور او مولد النبي او غير ذلك.. وكثيرا ما اختلفنا اينا يلبس ذلك اليوم حذاء أبي .. وكان يشترط رحمه الله أن نذهب نيابة عنه وأن نعلن ذلك للمضيف .. ثم أن نأتي له بالحذاء بعد انتهاء المناسبه .. فكنا نقطع الفيافي والقفار حتى نصل الى المارس الذي يبعد عن القرية ميلين او اكثر .. لنقدمه سليما معافى الى ابي الذي كان الشوك قد استقر في بطن كاحله نتيجة غياب الحذاء وانتعاله التربة الحمراء النديه .. وكم من مرة تمزق الحذاء واهترأ جزءا منه بفعل الزمن.. وبانت اصابع اقدامنا بارزة كالاشواك ..وكنا نخاف ان نعطيه لابي (مشروطا ) فنهرع من فورنا الى عبد الله الخطيب الذي كان كندرجي القرية الوحيد لاصلاحه ..
ولم يكن عبد الله يتقاضى اجرته نقدا لقاء تصليح الحذاء .. بل كان يضيف الاجرة على صاع القمح الذي يتقاضاه عند نهاية السنة .. وفي كل مرة كان الحذاء يزدان برقعة جديدة فضية او ذهبية او سوداء او زرقاء لا فرق .. وكثيرا ما نشبت المنازعات بين ابي وعبد الله لآن والدي كان يتهمه بزيادة الصاع عاما اثر آخر . وانه يترك (قطبة) دون ان يثبتها حتى يخرب الحذاء سريعا .. ويثور عبد الله ويحلف اغلظ الايمان أن لا يصلح له الحذاء أو يرتقه او يحلق لابي ذقنه الا نقدا .. وكان عبد الله كندرجيا وحلاقا في الوقت نفسه . وكثيرا ما ترك اصلاح حذاء ليصلح ذقن زبون يريد الذهاب الى المدينه .. ويظل السجال بين ابي وعبد الله على اشده حتى يبوس ابي لحيته ويعزمه على كباية شاي مصفى في قهوة ابي زينه على قارعة الطريق .
واني لاذكر مرة اني هربت من المدرسة( وكم هربت ) بعد ان قفزت من النافذة وكنت انتعل ذلك الحذاء الذي كنت اسميه لعنة .. ولم يكن هروبي نتيجة تياستي او كسلي في الدراسه .. فقد كنت بين بين .. بل لاني وضعت لاصقا على كرسي الاستاذ حتى اذا ما استقرت قاعدته على المقعد صاح من الرعب ، اذ شعر باللزوجة والبرودة تسريان الى اوصال اليته .. وعندما هب سريعا كان الكرسي يرافقه في حله وترحاله داخل دهليز الصف .. ولم يجد صعوبة لأن يتهمني بذلك وكان صادقا .. ولما كنت اجلس قريبا من الشباك والقيظ في ذلك الصيف يقضي ان نفتح النوافذ كي تسري الى وجوهنا المتسخة بعض نسمات طرية .. فقد قفزت مثل الغزال الى الحديقة الصغيرة التي كنا ننعم بورودها تحت النافذه .. وهكذا شققت طريقي الى البيت الذي يبعد عن المدرسة ما يقرب من ثلاثة اميال ...ولم يخطر ببالي ان ابي وعبد الله الخطيب كانا يمارسان هوايتهما في شرب الشاي بالقهوة قبل ان يذهب ابي الى عمله في المارس وقد برزت اصابع قدميه للناظر كأنها الاشواك .. اذ كان حافيا .. وقبل ان يطرق عبد الله اول مسمار في احذية الزبائن .. أو تجر موساه الذي كان يجلخه بعد ان يبصق على الحزام الجلدي المتعفن الذي يقتنيه حتى يصبح الموسى كحد السيف .. وهكذا وجدت نفسي محاصرا بين مطرقة ابي وسندان عبد الله ونار الزبائن الذين آجر كل منهم في صفعي وركلي ، اذ لم يجدوا صعوبة في معرفة هروبي من المدرسة .. وكان الهروب في ذلك الوقت سبة وشتيمة وتياسة .. وبذا اخذت نصيبي من الصفعات والركلات .. اذ كان ابي يصفعني فيتلقاني عبد الله فيركلني ويهرع زبائن المقهى كل (حسب مقدرته ) ليشارك في فنون الضرب على اليتي المتهالكة . ولقد كنت اشعر بالصفع كأنما هي المطارق .. فايدي الفلاحين عادة ما تكون مثل شاكوش فولاذي .. وله رنة على الوجه مثل رنة القرش عندما يطرق حجارة الطريق .. وفي غمرة الصفع والركلات .. فقدت الحذاء الذي كنت اتأبطه خشية انفراط عقده او تمزقه .. فقد كان ابي يشترط ان لبسناه ان نقضي المناسبة ومن ثم نحمله تحت آباطنا .. ولكني لم الحظ ذلك الا عندما عدت في المساء ..وهكذا قبض علي بالجرم المشهود ..
وفرغت المقهى من الزبائن اذ رافقني ابي وعبد الله والزبائن في مظاهرة عارمة الى المدرسة ليجدوا الاستاذ وقد احمرت حدقتاه وهدد وتوعد .. فتركوني بين يديه حسيرا ذليلا انتظر العقاب الذي استحق نتيجة شيطنتي ..غير ان حظي الذي تنجلي له كل الشوائب قد وقف حائلا دون العقاب .. فقد كان المدرس عند حضورنا يحكي قصة لطلاب الصف الثاني عن العفو عند المقدرة .. ويحكي لهم قصة الحاكم العربي الذي قبض على معارضه واطلق سراحه عندما وجد منه فصاحة في الكلام وظرفا في الطرح وقال له : سوف اتركك لينتقم الله منك .. فهو اعز من ينتقم.. وهكذا صرخ احد التلاميذ من اصدقائي في الصف قائلا : استاذي الجليل زعيتر .. هذا افضل مثال حسي نراه دون ان ندخل في غيبيات الكتب .. او بما بمعناه .. لقد ارتكب هذا الزنديق ( ويعنيني ) اثما فلا اقل من أن تثبت لنا ان العفو عند المقدرة موجود في هذه المدرسة ايضا .. فقال له الاستاذ .. لعنة الله عليك .. انك تتحدث بامور اكبر من سنك .. وهكذا اطلقني مضيفا .. لكني ساخصم من علاماتك في آخر السنة حتى اراك وقد اعدت الصف وغربت عن وجهي واخذ يشرح ما تبقى من الدرس مطبقا ما كان يعطيه للطلاب بما حدث له جراء غباوتي .. وعندما غادرت المدرسة ناداني مدير المدرسة طارحا السؤال الذي عجزت عن الاجابة عنه قائلا : من اين حصلت على هذا اللاصق العجيب يا ولد .. ولم استطع الاجابة لاني سرقته من خزانة المدير التي كانت تحوي ادوات مدرسية متنوعة ، فخشيت ان اقول الحقيقة فتضاف تهمة السرقة الى ملفي النظيف فاطرد من المدرسه دون رجعه ولقد ظننت ان رجوعي الى المدرسة قد انهى ما عول عليه ابي .. وان حفلة الضرب والركل قد انتهت بانتهاء اليوم .. لكن فألي خاب .. فقد وجدت من ابي عنتا في المساء عند ولوجي بيتنا العتيق ، وقد خلع الحزام الجلدي الذي يقول انه اشتراه من عسكري انجليزي بقرش وقد برز ابزيمه النحاسي مثل رأس افعى الكوبرا بانتظاري .. ولم تجد توسلات امي نفعا اذ هددها ابي بان يوجعها ضربا ان تدخلت او يطلقها .. وهكذا صرف العقاب عني في المدرسة لالاقيه في البيت .. ولم انم ليلتها .. اذ كنت كلما تقلبت الى احد جنبي صرخت من الالم .. ولم تجد امي بدا من السهر بجانبي ترافقها حلة من الماء الساخن وبعض الفوط لكي تزداد جروحي في الصباح تقرحا .غير ان ابي افاق من نومه ليلا كالمذعور .. ورفسني بقدمه فنهضت مثل العفريت فقال : اين الزربول يا ولد .. وذكرني حينها فيما كنت احب ان انساه .. فقلت متوجسا ناظرا العقال الذي كان يتدلى من مسمار في حائط البيت الطيني .. اذ كان رحمه الله يستبدل العقال بالحزام الجلدي في كثير من الحالات .. قلت : لا ادري يا ابي .. فقد كان تحت ابطي عندما قررتم الهجوم علي عند المقهى .. وصفق ابي يدا بيد وقال لامي .. والله لولا ظلام الدنيا وعتمة الليل لالقيت بك في الشارع مع ابن الحرام هذا .. قالت محتده .. بل ابن حلال .. واشهد الله على ذلك .. قال : بل ابن حرام .. ودليل ذلك انه اضاع الحذاء الذي هو حيلتي ووسيلتي .. من أين لي بثمن حذاء آخر .. قالت : الصباح رباح .. قال ابي : لولا ان العفاريت تصحو في الليل واخاف ان يركبه عفريت لقطعت العقال على جسده المهترىء .. قالت امي : قلت لك يا رجل .. الصباح رباح . عند الصبح اعطى ابي تعريفة للزيني المنادي لكي يدور في الازقة والشوارع مناديا صارخا : يا سامعين الصوت صلو ع النبي .. يا مين شاف .. يا مين أرى .. زربول( رباح المرقع ).. ضاع بالامس عند القهوة .. من يجده له رغيف خبز ساخن من طابون زوجته .. ولما لم يأت احد طيلة النهار للاعلان عن العثور عليه .. قرر ابي أن لا اذهب الى المدرسة طالما ما زال الحذاء ضائعا .. ففرحت في سري .. وبكيت في علانيتي رياء بحجة حبي للمدرسة واساتذتها .. ولكن امي قالت لي : أنت مثل العاهرات يا ولد .. تتظاهر بالشرف وانت ملوث بالقمامه .. ( او بما معناه ) فتوقفت عن البكاء عندما نادى احدهم خارج سور البيت الطيني قائلا : يا رباح .. لقد عثر الشيخ عثمان على حذائك .. انتعله احد المصلين ولما تحدث الشيخ عن الجنة والنار والعقاب والثواب .. احضر المصلي حذاءك اليه واستتاب .. ولكنه يطالب برغيف الخبز من الطابون .. الم تعد بذلك ؟..نهض ابي الى الباب الخشبي الكبير ففتحه فسمعنا صريره الذي يشبه صوت النواعير في عتمة الليل .. وتناول الحذاء وأخذ يتفقده كمن عثر على ليرة ذهبية .. ووعد الزائر بان يرسل رغيف الخبز الى المسجد في صباح الغد .. وهكذا عاد الزربول الى حضن البيت آمنا مطمئنا ليس فيه سوى خدش في الرقعة الوسطى لتغيير ملامحه ، وليبدو انه ليس الحذاء الذي نبحث عنه .. لكن رفقة العمر التي صاحبت ابي مع حذائه جعلته يدرك انه المقصود .. فقد نوى من وجده ان يحتفظ به للابد .. ولكن الشيخ عثمان كان الوسيلة التي اعادته الى مستقره الاخير .ولاول مرة رأيت البسمة عريضة على وجه ابي .. فقد لاطف امي ( وقزعها ) في يدها امامي دون حياء .. فصرخت من الالم ..اذ كانت قرصته مثل لسعة الدبور .. لكنها ضحكت عن فم ادرد واسع ظهر فيه السواد واضحا لما للسوس من تأثير على الاسنان المتكسرة .. وقالت بدلال .. هذه قلة حياء يا رجل .. وامام الاولاد ايضا .. فقال ابي محتدا .. لماذا قلة حياء يا امرأة .. غدا يكبرون ويعرفون .. ثم .. هل انجبت هذا ( العر ) من الاولاد في الحلم .. قالت له : عليك اللعنه . قال مداعبا حانيا : ان كررت هذه الجملة اللعينة مرة اخرى ضربتك .. قالت بحياء .. ضرب الحبيب زبيب وحجارته( قطين )...
وكنا فيما سبق من السنوات لا نمتلك محافظ جلدية للكتب .. مثلما هي هذه الايام .. كانت امي تخيط لنا محفظة بما يشبه الكيس الورقي يتدلى منه شريط قماشي ملون تزهو به اكتافنا .. فنحشر الكتب والدفاتر مع قطعة الخبز وشيئا من الزيتون في داخل ذلك الكيس القماشي او الورقي حتى اذا ما فتحناه عند الظهيرة كي نأكل وجدنا ان الزيت قد اصاب الصفحات .. وكم ضربنا على اننا لا نحافظ على نظافة تلك الكتب .. لكننا لم نتوقف عن خلط الخبز والزيتون بالدفاتر .. وكنا نضحك عند ( الفرصة المدرسية ) لنصف ساعة لنقول لبعضنا .. رأسمالها عصا او اثنتين .. والله الموفق .
وفي يوم اذكره ولا انساه كأنما هو الساعة .. دخل مدير المدرسة الى الصف وقال لنا والحزن باد على محياه.. يا اولاد .. غدا ابقوا في بيوتكم .. فلا يأتين احدكم الى المدرسة .. وبعد غد ان كان هنالك دروس سوف نرسل ابو العبد ( فراش المدرسه ) لكي يبلغكم ان كان هنالك مدرسة فتأتون .. وكأنما سكب المدير سطلا من الماء على رؤوسنا .. ودارت عيوننا الصغيرة تبحث عن الاسباب .. ننظر الى استاذنا بشىء من الهبل .. وكثير من التساؤل .. وعندما غادر المدير الصف قال لنا الاستاذ .. سوف اكون صريحا معكم .. ولكن لا تخافوا .. انها اجراءات احتياطية خيفة ان تصابوا بالاذي .. فقد هاجم اليهود قرية سلمه القريبة منا بالامس .. وقام باقتحام المدرسة واطلاق النار على التلاميذ فسقط منهم ثلاثة .. وارتفعت الاحتجاجات من كل جانب .. قال الولد قاسم نحن لا نخاف منهم يا استاذ .. دعونا نأتي غدا .. وقال الحملاوي لماذا يدرسون في (مستعمراتهم ) ولا ندرس في قرانا نحن .. قال له الاستاذ اصمت .. يا ولد اني ارى مستقبلك عندما تكبر أن تصبح شيوعيا .. قال طالب آخر .. وما الشيوعي يا استاذ .. قال .. دعكم من هذه الامور .. ما زلتم صغارا .. قال السحتوت .. سنخرج في مظاهرة غدا .. وغدا يوم آخر .. قال الاستاذ .. افعلوا ما شئتم .. ولكن لا تأتوا الى المدرسه .
انتظرنا ( ابو العبد) ان يبلغنا الذهاب الى المدرسة لكنه لم يفعل .. وطال انتظارنا لسبعة ايام متواليه .. وكأنما حب المدرسة قد هبط الينا فجأة من السماء .. فكنا نذهب فرادى الى المدرسة لننظر اليها عن بعد فنراها خاوية لا اثر للحياة فيها .. وكثيرا ما بكى السحتوت وفاضت دموعه لانه كان من المبرزين في الصف .. اما انا فقد كنت ما بين الفرحة والحزن .. اذ كنت اكره المدارس والدروس والاساتذة .. ولا ارغب في العودة .. لكني في لحظات الصفاء كان الحزن يتسرب الى وجهي الصغير فتدمع عيناي تأسفا على أيام الرفقة المدرسية ..وفي يوم كنا نلعب قرب سكة الحديد المهجورة التي كانت تواكب الطريق الاسفلتي فرأينا جموعا من الناس ومعهم صبية يحملون على ظهورهم بعض الامتعة متجهين نحو مدينة اللد سيرا على الاقدام .. وكان الرجال الجالسين على كراسي مقهى (ابو زينه) كأنما امتلكوا كل حزن الدنيا .. وجوههم مكفهرة مغبرة .. وحزنهم عميق فسألت احد الرجال .. ما بال اولئك يا عمي .. قال : انهم يرحلون .. قلت : أين ؟ قال .. لا ادري .. كف عن هذا يا ولد ولا تسألني .. وفي غضون ذلك سمعنا بعض الطلقات النارية تأتي عن قرب .. قال لنا الرجال في المقهى .. يا اولاد .. اذهبوا الى بيوتكم .. وهرعنا الى بيوتنا مذعورين ..
اظلمت الدنيا ولم يعد ابي .. انتظرت امي عند باب البيت كي ترى ملامحه ولكنه لم يعد .. ذهبت امي الى بيت خالي مذعورة متجهمة فقال لها خالي : من الممكن انه بات هناك .. تحت شجرة البرتقال الهرمه .. فالطريق ملغم باليهود .. ولا يعقل ان يعود في مثل هذا الوقت .. قالت امي : سوف اذهب الى هناك لأرى .. قال لها بصوت مرتفع .. هل جننت يا امرأة .. اذهبي الى عيالك .. في الصباح اذهب الى هناك ..كان ذلك الليل اطول ليل في حياة امي الراحلة .. لم يغمض لها جفن .. وكنا نتظاهر بالنوم لكننا ننتظر ان يئن الباب الخارجي انته التي تشبه النواعير .. لكنه ظل مقفلا .. ومن تحت اللحاف الذي كان يغطي ثلاثتنا كنا نتبادل التفاهم بمسك الايدي والهمسات ..
وفي هدأة الليل كانت امي تغني بصوت حزين رتيب .: يا ويل اللي طحينه انتعف في الشوك يصعب عليه لمه .. وكان اخي الكبير يبكي فيمسح دموعه في مخدته .. اما أنا فقلت له .. دعني اذهب الى هناك .. ان الحذاء معي هذا اليوم .. سوف ارسله له اذ ربما البرد والصقيع قد اصابا قدميه فلم يستطع العودة الى البيت .. قال لي بصوت سمعته امي : اصمت يا ولد .. ونقطنا بنومك .. في الصباح جاء الينا حامد الهمشري .. ذلك الذي كان يستخدمه ابي لمساعدته في المارس لقاء شوالين من البرتقال سنويا وقال باكيا .. لقد جاءونا على حين غفلة .. كنا نحرث الارض فقاموا باطلاق النار على البقرة اولا .. ثم احتج رباح فقاموا باطلاق النار عليه .. وقد نظروا الي طويلا لكنهم تركوني .. قال لي احدهم اذهب وابلغ عائلته اننا وضعناه في ( البئر ) كي يكون قبره .. قل لعائلته ان ترحل من هنا .. والا كان الدور عليهم . ورأيتهم يحملون الجثة التي كان الدم يشخب من رأسها ثم يلقون بها في البئر .. ولم استطع القدوم في الليل خيفة وجبنا .. وبت ليلتي قرب فوهة البئر .. وكنت اناديه عله يرد ولكنه لم يفه بكلمه .. صرخت امي .. وصرخنا نحن .. لكننا بعد ساعات استقبلنا خالي الذي قال لنا .. احملوا بعض الامتعة ولنرحل من هنا .. فاليهود سيهاجمون القرية في هذه الليله .. وهكذا سرنا الى كمب ( بيت نبالا ) الذي كان مستقرا للانجليز قبل ان يرحلوا .. ثم تابعنا مسيرنا في اليوم التالي الى لا مكان ..
***
على مدار سنوات ظلت امي تغني اغنيتها الحزينه .. يا ويل اللي طحينه انتعف في الشوك يصعب عليه لمه.. وعاشت حتى عاصرت حرب سبعة وستين .. وعندما فتح اليهود الحدود بين الضفة الغربية وفلسطين المحتلة قال لها اخي الكبير .. سوف اذهب للقرية لرؤيتها .. قالت له امي : لا تنسى البئر .. اصرخ بصوت عال عله يسمعك .. فتأتي به الينا .. ضحك اخي الكبير .. اما انا فقد حزنت جدا .. فقد اصبحنا رجالا ونعرف معنى الحزن والفرح .. ذهبنا سويا انا واخي الى موقع البئر .. فلم نجد اثرا له .. ولم نجد بيارة البرتقال والمارس .. ووجدنا بدلا منها عمارة كبيرة بثماني طوابق .. تحيط بها شجيرات البرتقال .. قال أخي .. فلنقرأ سورة الفاتحة على من لا نعرف له قبرا .. وقرأنا الفاتحه ..
وظلت امي طوال السنوات تغني اغنيتها الحزينه .. وكانت تقوم في الليل لتقول لنا : لا تنسوا البئر .. لا تنسوا البئر .. وكنا نحزن لمرآها على هذا الحال .. ماتت امي بعد اعوام .. ووجدنا تحت مخدتها (صرة ) تحوي بعض الدنانير .. وفيها قصاصة ورق صغيرة الحجم كتبها لها ابني الصغير تقول فيها : هذا مبلغ ارصده لقبر الراحل .. أمانه اذا ما عدتم ان تبنوا له قبرا وتضعوا على شاهده هذه الجملة : الى من سألتقي به متى شاء الله .. لقد وفيت بوعدي لك كما وفيت انت بوعدك .. فقد كنت تقول : اتمنى ان اموت في هذه الارض فلا احب ان اموت غريبا .. وكنت اقول لك .. وسأبني لك قبرا كي يزورك ابناؤك .. وعند آخر كلمة كتب لها ابني .. بسم الله الرحمن الرحيم.