البحث عن ابتسامة
البحث عن ابتسامة
محمد المنصور الشقحاء
** لتنهار كل المبادئ وليعم الدمار العالم، لترحل الكلمات الطيبة في قارب صغير يجرفه التيار إلى أعماق البحر، وتجتاح الأعاصير والأمواج المدن وتتلاشى صرخات الهلعين.. في الضباب الأسود الذي أتمنى أن أغطي به كل شيء حولي حتى نفسي.. أنا حاقدة لأني منبوذة ، كلهم رأوا فيَّ شبح الجريمة وحقد البشرية جمعاء رغم أنني لم أقترف ذنباً يذكر .. ماتت أمي وهي تصر على أن أكون بعيدة في مدرستي الداخلية التي قرر أبي حبسي فيها , وأيد قراره جميع أفراد الأسرة .. كنت ألمح بريق الانتصار يطل من العيون حولي فأعيد بصري حسرة أبحث عند أقدامي عن الحقيقة الضائعة في زحام من حولي.. لم ينتشلني رفاقي مما أنا به ولم يخفف من مضاعفات ما أعاني رحيلي الدائب وحرصي على البحث عن الغرباء .. كنت أفر من الجميع لأحرص على اكتساب صديق..
كنت أخشى مشاهدة ذلك البريق الذي لمحته في عين أمي وهي جثة هامدة مسجاة على فراشها.. كان عهدي بها لحظة الانتصار عندما وافق أبي على إدخالي المدرسة الداخلية .. البريق الذي شعَّ من عيون الجميع إنه الآن يطل بقوة من عيني والدتي الميتة والتي أصررت على مشاهدتها قبل مواراتها التراب.. ومبعث إصراري تحدي الجميع.. وأبي المنهار الذي انهار لتلك الهمسات المسمومة التي تدور حولي.. كنت أريد منهم أن يصمتوا ولكن ذلك زاد من ثرثرتهم، وتقدم مني طبيب الأسرة يسألني إن كنت أريد مساعدة وفي بطء أزحته بيدي واتجهت إلى الكرسي الذي اعتادت أمي الجلوس عليه في غرفتها.. وأخذت أبكي ..
كان بكائي صمتي وتلفتي حولي .. وكان الفراغ يحيط به .. لم تكن هناك جدران ولا ستائر نوافذ .. أبداً لم يكن أمامي سوى فضاء رحب .. لا أعلم كم من الوقت مر .. كل شيء هادئ ، الرياح سكنت ، وأغصان الحديقة لزمت الصمت .. وأخذ الموكب المهيب يجتاز باحة الدار .. الجميع مطأطئ الرأس يأكلهم الصمت وتقرأ أفكارهم بشيء حاولت معرفته من تلفت بعضهم وهم يتبادلون أماكنهم تحت النعش، وألصقت وجهي بزجاج النافذة أتأمل الطريق والموكب يغرب.. يبتعد .. وشعرت في تلك اللحظة بالدموع تنسكب على خدي وسمعت ورائي خطوات .. كان أبي المنهوك وتلقفني بذراعيه، كنا نبكي، ودخلت عمتي، ودخل بقية أفراد الأسرة.. لقد انتهت مراسم الدفن .. طمر القبر في ثوان ، فقط شعرت فيها بأن أبي لم يكن لي شياً من الحب وأن هناك نقطة نستطيع الالتقاء عندها ، ووقفنا مطأطئي الرؤوس نتقبل العزاء .. كانت كلمتهم واحدة، كلهم يقولون كلمة واحدة حتى ذلك الصبي الذي التصق بساق أمه مع أنه لم يحرك شفتيه إلا أني سمعته يقول الكلمة نفسها.. وتحركت مبتعدة أخذت أسير وأنا ساهمة لم أبال بنظرات من حولي ولا باستعطاف أبي وهو يرجوني الوقوف إلى جانبه لشد أزره، وانتهت فترة العزاء، عاد أبي إلى مصنعه وأخذ الجميع يعودون إلى مرحهم.. كثر عدد سكان الدار هذه المرة، هكذا تصورت رغم أننا فقدنا أمي.. لقد كان الضجيج يملأ الغرف والاجتماعات الثنائية الصامتة تحطم أعصابي ..
نظرة النفور تقابلني من الجميع الذي يتجنبون الانفراد بي ، مجنونة .. زرع أحدهم هذه الكلمة في نفوس من حولي فصدقوه، وتضخمت الهمسات، سمعت الخادمة تكلم أحد عماتي..
ـ لم لا تعود سلوى لمدرستها .. ؟
وعرفت مدرستي أنها تلك الكلية البعيدة للشواذ والمشاغبين وذوي الحساسية الخاصة.
ـ محمود.. لماذا لا تعود سلوى لمدرستها .. ؟
كان أبي يتلقى هذا السؤال في كل مكان .. حتى عندما أخلو به ونجعل من الصمت رسول تفاهم كنت ألح على السؤال المرسوم على الجدران في كل مكان وصرخت في أبي..
ـ وأنت هل تريد مني الذهاب إلى المدرسة .. ؟
وذهبت إلى المدرسة وبعد أيام إذا بأبي يموت.. تدهورت سيارته .. ولم يعتن أحد بطلبي وغرقت في دموعي بشكل رهيب حتى وجدت المشرفة على القسم الذي أنا فيه أنه يجب مساعدتي (كان ذلك في ليلة مشئومة بالنسبة لي صرخت الفرحة في جنيات دارنا..) وأغلقت المشرفة فمي بيدها وهي تقول :
ـ إني أعرف كل شيء ..
ـ ولكن هل أنا مجنونة .. ؟
وطأطأت رأسها .. وحاولت أن أنسحب من أمامها ولكنها أمسكت بي..
ـ سلوى.. أنت لست مجنونة ، لكن هناك من يهمهم إلصاق هذه الصفة بك ..
ـ كلهم يتجنبون أن يعطفوا عليّ ..
ـ إنه عطف من نوع خاص .. عطف من نوع آخر .. أحدهم فرضه على الجميع .. ومع مرور الزمن صدقوه حتى أبيك صدقه، وكذلك أمك رغم أنها تقف إلى جانبك كانت تخشاك وتنعتك في فترات مجنونة..
ـ إني أتذكر أول مرة نعت بها .. عندما خرجت من غرفتها عنوة حيث كنت أحاول وأنا في العاشرة كما أظن فك الحبل الملعون الملتف حول رقبة أخي الصغير..
ـ لقد اتهمك الجميع بأنك خنقت أخاك بسبب غيرتك منه لأن الجميع يهتمون به.
ـ ولكن يا سيدتي ..
ـ أعلم .. لقد دخلت الغرفة فوجدت الحبل يطوق عنق أخيك ، وعندما لم يتجاوب مع حركاتك أخذت تفكين الحبل محاولة إيقاظه فإذا بوالدتك تدخل فجأة ويلحق بها الآخرون ..
ـ أجل ..
ـ وبعدها أخذ الجميع ينعتونك بالمجنونة ..
ـ أجل .
ـ والآن تحققت مآربهم ، وبما أني أعرف أنك لست مجنونة لذلك يجب علي مساعدتك ..
ـ إذاً لماذا أبقيتني هنا كل هذه المدة.. ؟
ـ خوفاً على حياتك ..
وخرجت من باب صغير جانبي من المدرسة وأخذت أتجول في الشوارع حتى وصلت الدار التي وجدتها مهجورة، وأخذت أبحث عن منفذ أدخل منه إليها، ودخلت.. أخذت أتجول في ردهات الدار وأشعل الأنوار حتى أصبح البيت قطعة من نور.. ويقرع الباب الخارجي، كان الحارس الليلي الذي اعتاد المرابطة أمام الدار أثناء نوبته، وتجلجل من الخوف عندما شاهدني، لكني قابلته بابتسامة رقيقة، ودسست في يده قطعة من النقود وأنا أقول..
ـ لا تدع أحداً يدخل الدار حتى تخبرني..
كانت الصور تجري أمامي وأخذت ألاحقها أبحث في الغرف المشعة بالأنوار عن شيء بينما أصوات فرامل السيارات المسرعة التي تقف أمام الباب تصك أذني، تدفعني إلى الجري، كنت أبحث عن شيء لا أعرفه.. وتصلبت أمام غرفة استعصت علي لا أذكر لمن كانت، ولكن الباب فتح.. كانت الجدران ملطخة بالصور وبالمناظر الجميلة وقد علاها التراب .. أخذت أجول أتفحص اللعب المتناثرة.. لقد كانت غرفة أخي الصغير الذي كنت سبب موته.. وشاهدت السرير المتحرك المشدود بالحبل (لأن والدتي كانت تهزه بواسطته أثناء انشغال الخادمة) وأخذت الحبل بيدي هازة السرير محاولة تذكر صورة أخي، لقد بدت تلك الصور الموضوعة في براويز حول السرير غريبة ولم أعرها انتباهي..
وتذكرت شيئاً وأنا أتأمل صورة عمي أحمد أصغر أشقاء أبي فأطلقت الحبل من يدي.. وأخذتها بين يدي وأنا أستغرب وجودها في ذلك المكان .. ورن جرس سيارة الشرطة فأسرعت والصورة بين يدي خارجة من الغرفة وهبطت الدرج ثم شرعت الباب على مصراعيه داعية الجميع إلى الدخول وأخذت أتأمل الجميع المذهولين وشاهدتها مبتسمة ، وتقدمت وهي تمد يدها ملقية تحية المساء وأجبتها بانحناءة من رأسي، ثم دعت الجميع إلى الدخول .
كان أعمامي الثلاثة وعماتي وكل المستفيدين من وفاة أبي بالإضافة إلى رجال الشرطة ومديرة المدرسة التي هربت منها، وأخذتني المشرفة جانباً، وأخبرتها بما قمت به، ثم قدمت لها الصورة فتأملتها وأخذت تجيل نظرها في الجالسين.. وعندما وصلت إليه دفعتها بكتفي فتوقفت أمامه واقتربت من ضابط الشرطة .
ـ ماذا هناك يا سيدي.. ؟
ـ لا أدري لقد اتصل بي أحدهم. ادّعى أن هناك لصوصاً بدار المرحوم محمود..
ـ إذن لماذا جلست .. ؟
ونهض الضابط مرتبكاً، فأخذته جانباً وتحدثت معه قليلاً، وعندما انتهيت، اتخذ طريقه إلى الباب الخارجي، وهو يشير لمرافقيه، ونهض العم أحمد..
ـ سيدي.. ؟
ـ وماذا تريد .. لقد أثرنا المشاكل لسيدة الدار..
ـ ولكن .. ؟
ـ أعلم ما تريد قوله، لكن ما دامت المشرفة والتي تعرف كل شيء شرحت الأمر فلا داعي للبقاء..
وخرج الضابط ومرافقوه ، ودبت الحركة في الدار المهجورة ، أما أنا فقد أخذتني المشرفة والمديرة جانباً ، وسألتني المديرة عن سبب هروبي ، واحترت في الإجابة ، لكن المشرفة شرحت الموقف ، وتحول غضب المديرة إليها ، ووعدت بمجازاتها وهي خارجة والتف أعمامي حولي بينما اختفت النسوة وران الصمت علينا .
ـ سلوى تعبة يجب أن ترتاح ..
تخلصنا منهم وأخذتني إلى غرفتي ، وأخذنا نتحدث ، كانت تعرف كل شيء عن الدار .. دخلنا غرفة أخي لنبحث في الزوايا والأدراج عن شيء .. وانتقلنا إلى غرفة أمي نبحث بالأدراج والخزائن ووجدنا "دوسيه" احتوت وصفات طبية، كتبها طبيب الأسرة، كما عثرنا على دفتر به بعض الملاحظات.. وخرجنا من الغرفة لنفاجأ بالعم أحمد يتلصص ، حيث تصلب في مكانه ، ومررنا به في هدوء – مجرمة – هكذا كنت لكني في نظر أقربائي مجنونة ، ولهذا لم يحدثني أحد عند الصباح ، ولم يشاركني مائدة الإفطار سوى المشرفة ومديرة المدرسة التي وصلت مبكرة ، وأخذت أتجول مع الاثنتين في حديقة الدار ، ولما عدنا كان الجميع في غرفة الجلوس ، وطلبت المشرفة الشرطة التي حضرت وقدمنا للضابط الملف الذي وجدناه في غرفة والدتي ثم طالبته بفك الحجز على الدار والمصنع ، وتسليم كل شيء لي ، واحتج الحضور ، وأخذت الكلمات تعلو بينما أخذ يقلب الملف ..
ـ إنها مجنونة وقاتلة ..
ورفع رأسه باحثاً عن صاحب الصوت .. ولكن ران الصمت على الجميع ونهض إلى التلفون وطلب الدكتور، وهو يتأمل الجميع.. وحضر الطبيب ، فأخذه جانباً وأطلعه على الأوراق ..
ـ وكيف مات الصغير .. ؟
ـ كما أظن طبيعياً..
ـ ولكن أين الشهادة ..
ـ هذه ..
وتأمل الشرطي الشهادة، ثم اطلع الدكتور على جملة وضع تحتها خطاً (لقد قتلت أخاها، إنها مجنونة.. ولولا مساعدة الطبيب لكانت فضيحة).
ـ ما رأيك في هذه الكلمات .. ؟
ـ لا أدري .. ولولا أني أحتفظ بسجل للأسرة لكنت صدقت هذا.
ـ هل كان الطفل مريضاً .. مرض الموت .. ؟
ـ تقريباً..
ـ ومن كان يشرف على علاجه.. ؟
ـ أحمد كما أذكر . لأن المرحوم كان مشغولاً في سفرياته ومشروعه الجديد .
ـ المصنع.. ؟
ـ أجل .
ـ وسلوى هل تذكر عنها شيئاً.. ؟
ـ أبداً ..
ـ ألا تعرف دوافع إدخالها مدرسة داخلية .. ثم عدم مشاركتها في دفن والدها؟
ـ قيل إنها اعتذرت ..
وتلفتُّ حولي أبحث عن شيء أنهي به الحديث واقتربت..
ـ ألم يقولوا لك إني مجنونة.. ؟
ـ كنت أسمع شيئاً من هذا لكنني لا أهتم..
ـ لماذا .. ؟
ـ لأنها بعيدة ..
وأخرج الضابط صورة عمي أحمد القديمة من تحت الملف..
ـ هل تعرف صاحب هذه الصورة .. ؟
ـ أجل ..
ـ شكراً ..
واقترب العم أحمد وجلس على المقعد الذي غادره الطبيب،
ــ سيد أحمد ابنة أخيك "سلوى" تطالب بتسليم مخلفات والدها، ولكن هناك اعتراضاً منك.. وتدعي أنها مجنونة ومما هو ملموس نرى أن ذلك كذب، وهناك دوافع لذلك فما هو سبب معارضتك.. ؟
ـ لا شيء.. ولكن حرصاً على المصلحة العامة .
ـ إذن لا اعتراض .. ؟
ـ أنا لا أعترض.. ولكن لو قابلت الآخرين لوجدتهم يؤيدون فكرتي وأن ما قلت حقيقة ولا مصلحة لي فيما ذهبت إليه ..
ـ وما هي علاقتك بوالدة سلوى الحقيقية .. ؟
وجحظت عينا العم أحمد عند سماعه لهذا السؤال، وأخذ يرتعش عندما لوح الشرطي بدفتر مذكرات والدتي.. وطال الحديث وحضر آخرون وتلاشى فيه إصرارهم وادعاؤهم أني مجنونة .. وتسلمت كل شيء وخرجت الصحف تحمل نبأ دخولي المجتمع وتلقفتني الأضواء ، وأخذت أبحث عن نفسي بعد كل هذا ، ولكن وجدت أني منبوذة .. لقد طغت تلك المرحلة المترسبة في أعماقي أخيراً وشعرت بأن علي أن أنزوي.. لقد وجدت أخيراً البريق، ولكن بصورة جديدة.. كان بريق الحقد الذي يطلق من مقل من حول حتى من المشرفة التي وجدت أن دورها انتهى بانتصاري.. ونسيت في لحظة انبهاري فضلها فتلاشيت في الزحام ..