احتمال مستنقع
احتمال مستنقع
راجي بطحيش
كنت قد خططت لنهاية الأسبوع العاصفة والباردة الأخيرة من شباط على هذا النحو: أن ابدأ في قراءة كتاب "احتمال جزيرة" الصادر أخيرا بنسخته العربية وان انهيه مع سطوع فجر أسبوع عمل تل أبيبي آخر صاخب ...وكنت قد خططت أيضا ان انغمس حتى النهاية بذلك الدفء ورائحته وعبث اللاشيء ومحاكاة القطط والتصفح المرضي للإنترنت بحيث يزداد عدد أصدقائي الفيسبوكيون بمعدل 250 خلال يومين ونصف وكنت قد قررت ان أشاهد (وأنا أقرأ) كافة الأفلام التي انتجتها السينما العربية على مدى الثلاثين سنة الأخيرة وعلى كافة القنوات المتخصصة روتانا، ميلودي، آرت وغيرها بالتسلسل وبالتوازي أيضا...كما أنني كنت قد قررت ان أفترس 10 كيلوجرامات من البذورات المشكلة المملحة والساخنة وبضعة أرطال من الكستناء المستوردة مجددا (من تركيا وليس من الصين) وأن انعم بالنوم حتى الظهيرة متجاهلا أوركسترا المزاريب السيمفونية وساخرا من الحاح زجاج النوافذ الذي يتوسل من أجل خلاصه من عصف الريح به وتحطمه على الأرض فتاتا...
ولكن "احتمال جزيرة" الدفء تحول الى مستنقع حقيقي من المفارقات اللئيمة التي دمرت مخططاتي البريئة وأبرزت لها اصبعها الأوسط وذلك حين تدفقت المياه من تحت الأرض من حيث لا أعلم داخل حجرة نومي ومع أنني حاولت تجاهل الموقف(موهما نفسي أنني قد انام ليلتي في غرفة الجلوس الى ان تنقضي المياه هكذا لوحدها) إلا أن دائرة الماء كانت تقترب من بلادتي مذكرة اياها باستحقاق الواقع وبأن الداخل لا يمكنه الإنسلاخ عن اضطراب الخارج متى شاء ...ومتى قرر وبأي لحظة معطاة وطوال الوقت ..وبأن ذلك مجرد وهم نخبوي ...اقترب خط المياه واقترب.. ثم انقطع التيار الكهربائي...بمعنى أن لا مجال بعد للتجاهل وبأن محاولتي للتحايل على سيرورة الأزمة في غرفة النوم قد انهارت وفشلت الى الأبد..
ينقطع التيار الكهربائي ولا يعود...ابيت ليلتي على سرير مراهقتي البارد في غرفة لم تطأها قدم منذ أعوام في بيت والدتي... كتتمة للمأساة...
إذا لا ضوء..لا دفء...لا كتاب...لا انترنت(بالأساس) لا أفلام سبعينية متتالية ...لا محاكاة للقطط...لا كسل مخمور لذيذ...لا تحايل على الخارج...
إذا ..لا بيت(وماذا يعني البيت بحق السماء؟)...لا طمأنينة...لا أمان...
فلسفة : نحن مخلوقات موصولة بأسلاك لا تنتهي ..كي لا نفقد السيطرة على حياتنا ...كي لا يلقى بنا فجأة في زاوية من العجز...أعمدة من التوازنات إن خدش احدها سقطت بقيتها وسقطنا معها كأحجار الدومينو...
ذاك الجدار الدقيق الذي يفصلنا عما نخاف ...ذلك الخوف الذي يمنعنا من مبارحة جزيرتنا أو احتمالها...
عاد التيار وجفت الأرض في اليوم التالي ...لم أبدأ بقراءة الكتاب بعد ولكن الفيلم المصري جاء مكررا للمرة الألف!!