عِمْرَان... يَحْدُث فينا
عِمْرَان... يَحْدُث فينا!
عبد الرؤوف النجولي - أبو دواة
طالب في كلية طب المنصورة
بسم الله... والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وآله، وصحبه، والتابعين... وبعدُ –أيها القرّاء-...
عمران... كيف أقدّمه؟!... ولمن؟!... أقدّمه، وأنا هو؟!... ولكم، وفيكم يَحْدُث؟!...
لا –يا قرّائي-... إنّ عمران -اليومَ- كَبْشُ فِداء... محطّةُ إسقاطات... تبثّ أربعًا وعشرين ساعة... ففتّشوا عنه في المَنَاشِف والطُّسُوت مع ميلاد نهاراتكم السعيدة... وفتّشوا عنه في الساعات الليلية... في الدموع طيَّ الوسائد... والآهات الضائعة لياليَ الوحدة والغربة...
عمران مَعِين... فانهلوا منه... وانحروه... ارجموه بالحجارة... فسِّروه كأيٍّ ما تكون التفاسير... انظروكم فيه... تجدوكم... أو قاطِعوكم!
والسلام،
بين عمران وحنظلة...
يتشرّف (عمران) بتزويد اللوحة كاريكاتورًا للفنّان الفلسطيني الراحل ناجي العلي... وضيفه البطل (حنظلة) الصبيّ...
فتحيّة من أرض مصر في (عمران)... لأهلنا الفلسطينية في (حنظلة)!
(1)
عاد عمران من جامعته بعد يوم طويل، ثيابه مرشوشة بالأوحال إثر المطر، وليلاه تثب في مخيّلته كغزال، كل الأفكار تذوب في آخر اليوم إلا ليلى!
تعثّر في أفكاره ..
-آخ !
كانت القرية تقضي في الظلام؛ التيار انقطع، والدموع أيضـًا!
أدار عمران المفتاح في خلّه -قـُفْله-، واستمع صوت الصمت.
عمران هنا -ككل لداته- (يشحذ سيفه، ويلمّع شاربه أيضـًا ؛ لوقت الشدّة)، عمران هنا وهناك -ولبضع عشرة سنة مضتْ من عمره القصير- يعاشر كتبه، يسمع إليها، يقبّلها، ويراقصها، ويناديها .. ويمزّقها!
عمران الطالب المخبت المطواع المنبطح ضامرةٌ عضلاتُه، موقوفةٌ على الكتابة، على بثّ الورق حديثَ الورق!
يحترف الصبر بكل صنوفه جميلًا ومُرًّا وحرّيفـًا!
يتردّى -ويراه الناس يترقّى- في سلّم المدارس حاضنة ابتدائية إعدادية ثانوية عالية .. وأمه -أو هكذا كانت- تلف له (الصبر) في خبزة، وتدسّها له في حقيبة الدرس!
عمران -الآن- في شقّته وحيدًا فريدًا، وإلى جواره أسيافه -كتبه- الصدئة الشائهة، وهو بالمناسبة يهوى جمع السيوف، بكل القطوع والأحجام، ويكلّف نفسه فيها فوق ما كلّفتْه (أمه الكبيرة)، عمران يلتذ بتعذيبه!
سيوف عمران صدئة، قضتْ في دموعه التي لا تنام؛ دموعه في ليلى، وفي أرقه طول الليل لأجل السيوف، وفي أهله الذين حطمهم وفرّ لأجل تحصيل المزيد في جمع السيوف!
-هنيئًا يا سيوفي؛ هنيئًا مريئًا !
(2)
استيقظ عمران في الليل، لقد نام حتى المساء كالعائدين من ساحات الحرب، نام وفوّت على الحزن هوايته!
التقط عمران دموعه، وضمّها إليها في دواته، وحشا بها قلمه؛ وراح يبكي!
دموع عمران سمراء بلون عيونه؛ يمشى بها فيه، وفي دارته، وفي الأرض؛ ويخطّ! مناشير، ومكاتيب، وإرشادات لأولاده في صلبه، وحبًا لليلاه، وشوقًا إلى العالم الآخر والناس الآخرين!
عمران ودموعه رفيقان أسمران منبوذان، اختاراهما كرهًا!، عمران يستمع الراديو والتليفزيون، ويرتّل الكتب، ويفكرّ .. ويجندل أفكاره على أوراقه دموعًا، ويقرأ دموعه!
عمران لدموعه، ودموعه له، وهما لهما، وللدنيا لو -ولو حرف امتناع لامتناع- .. وللدنيا لو أرادت!
(3)
استيقظ عمران في الفجر، وطار من سريره .. تلفّع الدفء في قلبه، واعتمر أملًا، وحمل طسطًا؛ وغدا يستقبل الوليد -اليوم- الجديد!
عمران كالطفل يضحك للعب الجديدة في الصباح، ويكسرها في المساء، ليعاود الضحك في الصباح التالي للعب جديدة!
تدهّن بابتسامة، وتعطّر بفكرة .. فكرة كحولية ثملة طيّارة!
-ليلى الآن في موقف الحافلات!
ليلى أو المضيئة -كما سمّاها لصاحبه، ولا يعلم لها اسمًا !- في ثوب كالليل، وهي في الثوب كالبدر، وفيها لغز خبيء، وعمران لا يأمن أحدًا، فقد دسّ له أحدهم في كفه لطمة، وآخر في فمه حقدًا، وكل هذا يهبّ فجأة!
عمران يهوى السلام على الجيران، ويفرّ من الجيران!
ليلى في الصباح مخفورة حييّة، ملغومة، تقفز منها روحها في كلامها مع المرضى تفحصهم، وعمران يطالعها كسيوفه التي في دارته!
لك الله يا عمران، وفي كل يوم ليلى جديدة!
(4)
دموع عمران ليلى!
ليلى الجنوب، وليلى الشمال، وليلى السيوف، ليلى بكل ما أصدروا!
ليلى الحليلة التي يرجوها عمران يومًا، ليلى الغصن يحطّ عليه يومًا، فتكفيه المراوحة والحيرة!
ليلى التي تكفكف دموعه حينًا، وتريقها أحيانًا!
ليلى التي تنظم دموعَه عقْدًا، وحُبَّه صغارًا ضاحكين بلون اللبن، ويومَه يومين، فهو يومَها روح في اثنين، يدان تكتبان لا يد واحدة!
عمران وليلى وعمارنة وليالٍ صغار!
عمران الخوّاف ورسوله خاطره؛ يظنّ محبوبه محبًّا! التقى رجلًا من العلية؛ فراح يحتضنه، ويلتقط معه الصوَر! والرجل يدير عينيه في عيني عمران .. وعمران قد ترك دموعه تحت وسادته ريثما يعود!
عمران المركول .. عمران المكسور خاطره، يكسره خجله من (الرجل)، فالرجل مثـَـله، أبوه الروحي، وأبوه الروحي غضبان عليه؛ لأنه حسب له كالذي يحسب لليلى وكل من يحبّ!
يا عمران .. يا واهم!
(5)
عمران هذه المرة في الناس؛ الناس الذين يئدون في كل لحظةٍ لحظةً!
كغيره من سكان البلاد (الأصليين) في إحدى الحافلات؛ الحافلات التي تحترف نقل (الأحزان) في جوفها من بلد؛ لتقيئها في آخر!
طالعتْ عمرانَ لوحةٌ بعرض الطريق محلِّقة:
"بكل الحب نرحب بكم .. محافظة (القمعية)!"
ابتسم عمران للوحةِ، وأيامِه التي عادت به إلى وطنه الساكن فيه!
على جانب الطريق كَمِين .. الحافلة محتجزة لتمشيط ركابها من (الأصليين)! وكلُّه في صحة (الأمن) الذي عاف نفسَه!
جمعوا الهويّات؛ هوية عمران وآخرين، وفي الآخرين رجلان، والرجولة محظورة على كل المفارق والميلات! لكنـ(ـه) -أطال الله في عمره- سمح للرجليْن بالمرور في المارّين، ولم ينزع عنهما رجولتهما!
كان في الكامِنِين جلفٌ لوّحتْه الشمس:
-احْمَدْ ربَّنا أن جنابـ(ـه) مرّقك من الكمين برجولتك!
ردَّ الرجل:
-الحمد لله!
وردَّ آخر في عمران:
-بل احمده أنك لا تزال تجد هواءً!
"أيها الأصليين .. لا زال في بلادكم هواء .. لا زال فيها هواء .. أووها .. لو لو لو لو لو لو لي!"
(6)
عمران في المنام بكاتم صوت!
عمران عينان ولسان وشفتان .. فجَأه اللص .. عمران يبحث عن صوته .. يبتلع الهواء ويبصقه ... لا صوت!
يغذ الأنفاس .. يشهق .. يخور!
-ح .. ر .. ا .. م .. ي ..
لا يقوى!
الحروف في فمه منكمشة .. تخشى البرد .. تتعلق بشفاهه!
عمران بين ضميره وصوته المفقود .. مجلود!
-يا إلهي!
عمران لا يكلم الناس ليلته سويًّا! .. كل الكلمات مباحة هذا المساء إلا "حرامي" !
عمران كالجريح لاطٍ بحلقه .. يستجير بالكلام .. لسانه يطوّح به .. وضروسه تمجّه .. عمران في حلقه .. عمران في خلفية سوداء .. "عمران يا أصحاب الضمائر .. عمران آخر مرة .. يا ناس .. يا محسنيــ ..."
-عمران .. يا عمران .. اصحَ يا بنيّ .. إنه الفجر!
-هاه! .. يا أمي .. لله أنت!
(7)
عمران يفكّر في المرحوم عمه خليل؛ عادتْه ليلةٌ قضاها في لحافه، وقد كان صغيرًا كحبّة ندى!
عرفَه عمران يدمن استماع الراديو، وفي تلك الليلة التي توسّط الراديو الرحلة بينه وعمه، ضبط عمه المؤشّر على إذاعة (الآخرين)... وراح يستمع...
عمران لا يروقه النوم إلا على (إذاعتنا)، سكن في سريره حتى هدأتْ أنفاس عمّه، وأدار المؤشر على (إذاعتنا)...
"هنا الوطن... كلّه تمام... وعَمَار -يا وطن-... أمجاد... أمجاد -يا وطن- أمجـ..."
احتضن جفنا عمران الأثير، وراحا يفتّشان عن النوم بانسجام... وفجأة...
"دقّات قلب المرء وقد أعلنتْ منتصف الليل!... هنا الآخرون... وهناك الوطن الضائع الفاسد المزوّر... إلى الجحيم... إلى مزيد من..."
إنها الإذاعة الفارةّ عادتْ أدراجها، إنهم (الآخرون) مرة أخرى!
إن العم لم يَنَمْ...
عمران يروقه النوم على (إذاعتنا)...
وعمه يروقه الأرق على (إذاعتهم)!
(8)
عمران يتمرد!
أيها القراء دونكم وعمران .. أغيثوني!
عمران الذي ما عهدتُه إلا كلامًا .. وكلامًا فحسب! .. عمران تغيّر عليّ .. تمرّد .. تسلل عبر السطور .. وجرى خارج الصفحة!
عمران يراه أكبر من كلمة .. يريده دمًا ولحمًا .. يريده!
عمران يهوى التجذيف خارج الأسراب!
يا لعمران وما يهوى!