ألشمّاعيّة
ألشمّاعيّة
كامل علي
أتَّجهَ ياسر بسيارته نحو شمال العاصمة بغداد في طريقه الى مستشفى الشمّاعيّة للامراض العقلية الّتي كانت في احدى ضواحي العاصمة. تناوبته خلال رحلته شعوران متناقضان، شعور بالزهو لانّه اصبح عضوا في الكادر الطبي لوزارة الصحة بعد نيله شهادة الماجستير، وشعور بالقلق فهذه اوّل تجربة عملية له في ممارسة مهنته كطبيب للامراض النفسية، هذا الشعور بالقلق لَمْ يكن يفارقه منذ طفولته حين اقدامه على ايِّ عمل جديد.
أقتربت سيارته من السياج العالي للمستشفى الّذي كان يخفي ابنية المستشفى عن الانظار الفضولية، وقبل اقترابه من البوابة الرئيسية سمع صوت انفجار اطار السيّارة، فداس على الفرامل فتوقفت السيارة بمحاذاة السياج الحجري للمستشفى. هبط الطبيب الشاب من السيارة وباشر بنشاط عملية تبديل الاطار الامامي الايمن المعطوب.
فتح الصامولات الاربع للاطار ووضعها على ارضية الشارع الاسفلتي ثمّ دحرج الاطار الاحتياطي نحو القسم الامامي للسيّارة ولكنَّ الاطار اصدم بالصامولات الاربع الّتي كانت تربض في الجزء المنحدر من ارضية الشارع، تدحرجت الصامولات نتيجة الاصدام نحو الغطاء المعدني لحفرة تجميع مياه امطار الطريق ونفذت بخفّة من خلال الفراغات الموجودة في الغطاء واختفت في الحفرة المليئة بالمياه الآسنة.
حاول الطبيب اخراج الصامولات اللعينة من الحفرة ولكن جهوده ذهبت ادراج الرياح، فجلس على الاطار الاحتياطي بعد تغطيته بمنديله ليسترد انفاسه ويفكّر في حل لهذه المعضلة التي لم تكن في الحسبان. مرّ الوقت سريعا ونظر الى ساعته فادرك انّه تأخر عن موعده مع مدير المستشفى، ثمّ قام فجأة وقرر التوجه الى بوابة المستشفى لطلب العون.
في تلك اللحظة طرق سمعه ضحكة هستيرية فالتفت نحو مصدر الصوت فرأى رجلا جالسا على سياج المستشفى وكان لابسا بجامة مخططة بخطوط زرقاء، اقترب الطبيب من السياج ورفع رأسه نحو الرجل وقال بعصبية لَمْ يستطعْ مِنْ أخفاءها:
- ماذا يُضحكُكَ؟
- اضحك على حيرَتِك وعقلِكَ.
- لم افهم.
- كنت اراقبك منذ نصف ساعة وانت تحاول تبديل العجلة المنفجرة ولكنك لَمْ
تُفلِحْ في ذلك.
- كيف أُفلحُ وقد سقطت الصامولات الاربع في الحفرة العميقة؟
- الحل بسيط جداً.
- كيف؟ قالها الطبيب بنفاذ صبر.
- ساخبرك مجّانا، تفتح صامولة واحدة من كلِّ اطار سليم وتشد بها الاطار
الاحتياطي.
بهُتَ الطبيب، وقال مخاطبا نفسه كيف لَمْ يخطر بباله هذا الحل المنطقي؟
ثمّ التفت نحو الرجل قائلا:
- تبدو كمريض هارب من المستشفى، هل انا مخطيء؟
- اصبْتَ.
- اذن انت مجنون، ولكن كيف تمكنت من حل معضلة الاطار؟
ردّ المجنون بعصبية:
- قد اكون مجنونا ولكنّي لستُ غبياً مثلكَ ...... ثمَّ اطلق المجنون ضحكة مجلجلة وقفز بحركة سريعة الى الارض كالقرد وانطلق هاربا نحو عاصمة العقلاء.
بعد تنفيذ مقترح المجنون شغّلَ ياسر مُحرِّك السيارة وهو يضحك على نفسه ودلف الى موقف سيّارات المستشفى من خلال البوابة الحديدية.
استقبلَ مدير المستشفى الطبيب الشاب بالترحاب في مكتبه وكان قد جاوز العقد السادس من العمر وذو شارب ابيض كثيف وشعر اشيب، وبدأ يشرح له طبيعة عملهم في المستشفى اثناء احتساءهم الشاي، ولكنَّ ياسر قاطعه بلطف قائلاً:
- دكتور احمد، لقد رايت اثناء قدومي مجنونا يهرب من المستشفى.
- مِنْ اينَ؟ قالها المدير بقلق.
- مِنْ السياج الامامي( تَكَتّمَ الطبيب الشاب على حكاية الأطار والحوار الّذي دار بينه وبين المجنون لاحساسه بالخجل من الامر).
رفع المدير سمّاعة الهاتف وابلغ مدير الادارة بعملية الهروب وطلب منه اتّخاذ الاجرات اللازمة للقبض على المجنون الهارب، ثمّ واصل حديثه كأنَّ شيئا لَمْ يحدث قائلا:
- لدينا في المستشفى ثلاث ردهات للمرضى، الردهة الاولى للحالات المرضية الغير المستعصية، الردهة الثانية للمرضى الّذين حالتهم المرضية متوسطة،
أمّا الردهة الثالثة فهي مخصصة للحالات المستعصية، والان اقترح انْ نقوم بجولة لهذه الردهات لتطلَّع عن كثب على اسلوب العمل.
- حسنا.
دلف الطبيبان الى الردهة الاولى بهدوء حَذِر، كانت الردهة مستطيلة الشكل وتتسع لخمسة وعشرين مريضا، وكانت اسرَّة المرضى مصطفّة على جانبي ممر الحركة الوسطي.
بعد القاء ياسر نظرة خاطفة على الردهة اصابه العجب لانَّه لاحظ أنَّ جميع المرضى كانوا واقفين في طابور طويل في الممر الوسطي وامام الجدار المقابل لباب الردهة ووجهوهم متجهة الى الجدار، فالتفت نحو المدير حائرا:
- دكتور احمد، ماذا يحدث هنا؟
ابتسم المدير قائلا:
- اكتشف ذلك بنفسك.
تقدّم ياسر بتردد من الجانب الايمن للطابور محاولا الوصول الى الجدار المقابل لباب الردهة ولاحظ اثناء ذلك أنَّ المجنون الّذي في مقدمة الطابور ترك موضعه وتراجع الى نهاية الطابور. بعد وصول الطبيب الشاب الى بداية الطابور ادرك والدهشة مرتسمة على اساريره أنَّ مجانين الردهة ينظرون من خلال ثقب في الجدار، وبعد دقائق معدودة يُفسِحون المجال للذي يليهم في الطابور لأخذ دوره في النظر من خلال الثقب.
بد انهاء المجنون الّذي في المقدمة بَحْلَقَتِهِ في الثقب، بادره ياسر بالسؤال:
- ماذا وجدّتَ داخل الثقب؟
- لن اقول لك، انظر بنفسك.
تقدّم ياسر نحو الثقب لينظر فيها، ولكنَّ صراخ المجانين في الردهة جعلته يتراجع خائفا، صاح المجانين بصوت آمر تردد صداه في القاعة:
- أرجع الى نهاية الطابور والتزم بدورك.
هرول الطبيب الشاب الى نهاية القاعة متفاديا غضبة الجموع الثائرة ووقف في نهاية الطابور خانعا، ثمّ نظر الى مدير المستشفى فرآه يبتسم بحنان ابوي.
استغرق وصول الطبيب الى الثقب ساعة كاملة، وكان خلالها يفكّر بالمتاعب الّتي سيواجهه اثناء قيامه بواجباته كطبيب للامراض النفسية بين هؤلاء المجانين.
عند وصوله الى الثقب تنفس الصعداء واغمض عينه اليسرى وقرَّبَ العين اليمنى من الثقب. بعد أنْ بَحْلَقَ لعدة دقائق من خلال الثقب لَمْ يرَ شيئا سوى ظلام الثقب الدامس، فتراجع خائبا، ثمّ خاطب المجنون الّذي يليه في الطابور قائلا:
- لَمْ ارَ شيئا داخل الثقب ارجو ان تخبرني ماذا ترون هناك.
قال المجنون ساخرا:
- قضينا عاما كاملا ونحن ننظر من الثقب كلّ يوم ولم نكتشف شيئا لحد الان، أتريد أنْ تكتشف ذلك بنظرة واحدة؟
لَمْ يحر الطبيب جوابا ورجع متخاذلا الى جانب مدير المستشفى الّذي ربتَ على ظهره بحنان قائلا:
- (( صبراً آل ياسر فاِْنَّ موعدَكم الجنّة )).
الردهة الثانية كانت مماثلة في ترتيبها للردهة الاولى، دخل الطبيبان بحذر ايضا، هدوء قاتل كان يخيّم على المكان، اول شيء جذب انتباههم وجود شخص مُعلّق في المروحة السقفية للردهة، كان المجنون يمُسك بالجزء الوسطي للمروحة بكلتا يديه وكان التعب باديا عليه.
قِسمٌ من المرضى كانوا جالسين على اسرّتِهم والقسم الاخر كانوا مضطجعين على ظهورِهم وكان الجميع منهمكين في قراءة الكتب الّتي في ايديهم.
اقترب الطبيبان من اقرب المرضى وبادره المدير بالسؤال:
- لماذا علّق صديقكم نفسه في المروحة بهذا الشكل المُرهِق؟
- دكتور لا تبالي به فهو مجنون، إنَّه يعتقد بأنَّه مُصباح ينير الردهة.
تدّخلَ الطبيب الشاب في الحوار قائلا:
- لِمَ لا تقنعونه بالنزول لأن في هذا خطورة على حياته؟
اجاب المريض ساخرا:
- هل جُننتَ يا دكتور؟ لو نَزلَ هذا المجنون من مكانه، فكيف سنقرأ الكتب في الظلام؟
أحتار الطبيبان ولمْ ينبسا ببنت شفة وخرجا من الردهة مسرِعَين.
هاتفَ المدير مدير الخدمات وامره أنْ يُرسِل أثنين من العمّال لأنزال المجنون.
في الردهة الثالثة كانت تجري احداث جسام، لاحظ الطبيبان مجنونا واقفا على سرير ويردد بصوت عالي جُمَلاً مسجوعة، وكان جميع من في الردهة متجمعين حوله وهم يُنصتون بخشوع الى كلماته.
لاحظ الطبيب الشاب مريضا منزويا في ركن الردهة ولا يشارك اقرانه في الامر، أقتربَ الطبيب منه محدثاً نفسه بأنَّ هذا المريض اعقلَهُم وسيخبرني حتماً بحقيقة ما يحدث في الردهة، وبادره متسائلا:
- يبدو عليك رجاحة العقل، هل تستطيع اخباري بما يحدث هنا؟
أجاب المريض بأستهزاء مقرون بالغضب:
- أترى هذا المجنون الواقف على السرير؟
- نعم.
- إنَّه يدّعي بالنبوّة، وهؤلاء المجانين اتباعه الّذين صدّقوه.
- لِمَ لا تتبعه انت كذلك أسوة بزملائك؟
- لأنَّه كذّابْ .
- وكيف تيقَّنتَ أنَّه كذّاب؟
اجاب المريض بغضب:
- لأنني لَمْ أُرسِلْ هذا الكذّاب لهداية البشرية.
خرج الطبيب الشاب من الردهة بصحبة المدير ساهما وهو يتمتم بألمْ:
لله في خلقه شؤون.