مذاق البُنُوّة
مذاق البُنُوّة
محمد محمد البقاش - طنجة
في يوم صافٍ انحدرتُ مع والدي في خميلة " الرّْميلاتْ " نحو " أَكْلا ". ركبتُ اسْماً لم يعد يركب مُسمّاه. كانت أكْلا قرية مأهولةً في غابر الزمان، لم يعد فيها اليوم إلا مساكن تشبه النجوم المكتظّة في السماء ليلة البدر؛ تعود لفلاحين بسطاء، زارها في رفْقةٍ؛ فالق البحر بعصاه، تلك القرية هي التي استطْعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما..
ونحن منحدران رفْقة غُددٍ نشيطة لسيرنا (1)؛ يمتلأ بصري ببحرٍ يغري بعبوره نحو الأندلس التي تتراءى لنا جبالها وهضابها، يدخل سمعي زقزقة العصافير، ويدخل رئتاي نسيم عطر، يراقص خلايا أنفي شذى طيّب لشجرة الصّفصاف ومَيْموزا.. ينبت في غاباتها أنواع نادرة من الأشجار والنباتات..
لفت نظري وجود قُفّة بباب صفيحية مليئة بالتفّاح والإجّاص والتّين.. لم يتركني والدي أتجاوزها دون أن يأخذ منها شيئا ويناولني منه بعيدا عن الحرج إلا من جهتي.
لم أعترض لأنانيتي، ولم أرفض لعدم قدرتي على مقاومة فاكهة لذيذة تتوهج بالضياء، وتبرق بالإغراء، وكيف يقاوم لذّتها وحلاوتها طفل مثلي؟
سكتُّ وفي نفسي شيء من سلوك أبي، فلقد علّمني أن أستأذن في أخذ ما ليس لي، علّمني التعفُّف والترفُّع عمّا في أيدي الناس، ولكنه يسلك عكس ما علّمني..
تعمّقنا في الطريق الحجري الشاهد على رحلة صاحب العصا؛ الحيّة، ثم لفت نظري تارة أخرى قفّة أكبر من أختها يعلوها الاصفرار والاخضرار.. ولما اقتربنا منها ابتدأت الفاكهة ترقص غبطة بأوان ازْدِرادها، نشطت وكأن لها أعين تبصر بها أجرامنا، وآذان تسمع بها حسيسنا، ترْفُل بتفّاح ناضج، وتختال بتين تشَقَّق عن حلاوته، بها إجّاص يطفح ماؤه؛ويرتشفه ذوات السبعة عشر زوجا من الكروموسومات (2)، لم يقصدها والدي، ولكنه سألني إن كنت أرغب في شيء منها؛ فلم أتردّد وقد نسيت ما جال بخاطري، تقدّم إليها منتشيا بطعم الأبوة، وطالبني بأخذ ما أقدر عليه، وحمل هو لحسابي الكثير منها، ثم اندفعنا في الغابة ننْحدر إلى المُصْطاد.
مكثنا في مُصْطادنا نصطاد السمك. لأول مرة علقت بصنارتي سمكة المُراي والحنْكليس وكم سررت لبراعتي. كان صيْدنا وفيرا زانه السمكة الذئب؛ المشاكِسة، ثم قفلنا نتحرك..
مررنا من حيث قدمنا فإذا بالقفّتين بدينتين مرة ثالثة، فاستغربت لذلك، ولم أتمالك نفسي، أو أقاوم رغبتي في سؤال والدي ولو أن يغضب عليَّ لظني أنه قد خالف ما علّمني من عِفَّة، وزوّدني من زُهد، طفقت أتردد بين الِإحْجام والِإقْدام، أخشى ردة فعله على عتابي له، وبينما أنا أجندل خوفي انفلت السؤال مني وانطلق:
(( لقد أخذنا من القفّتين أكثر من نصف الفاكهة، فانظر كيف امتلأتا، فما تفسير ذلك يا أبي؟ )).
فرد علي:
ـ يا بني، إن الفلاح يسلك وِفْق عادة متأصِّلة في هذه المنطقة من شمس المغرب.
ـ لم أفهم يا أبي.
ـ ألم أخبرك بأن (( أَكْلا )) كانت قرية بخيلة؟
ـ بلى.
ـ ألم يستطعم صاحب المنّ والسّلوى (3) أهلها فلم يضيفوه؟
ـ بلى.
ـ صفة البخل التي كانت فيها محاها الفلاّح بكرمه.
ـ شوَّقتني، أوضِحْ أكثر يا أبي.
ـ عند كل موسم جنْيٍ يملأ الفلّاح قفّته بقُطوف جنّته الناضجة، ويضعها على باب بستانه، وبين الحين والآخر يتفقّدها لمعاينتها، فإذا نقصت عوّض نقصها، وإذا فرغت ملأها.
ـ ولحساب من يفعل ذلك؟
ـ تقرُّبا إلى الله تعالى، وإكراما لكلّ من مرّ على جنته ولم يسأله شيئا من ثمارها. أخرسني سلوك الفلاح فلم أقو على عتاب والدي، وكيف أعاتبه والفلاح قد أحسن إلي إذ أكرمني؟ عدتُ إلى عقْد قلبي على أفكار والدي النَيِّرة، وانشرحتُ مغْتبطا بصدقه، مبْتهجا بتطبيقه ما علِّمني، ثّم سددْتُ صَدَفتي عن عتابه.
كِدْت أضيّع أسوتي بيدي لسوء ظني، لم أكن أعرف أن لأبي أسوة حتى نضجتُ، يتأسّى هو بما تأسى والده، نتأسى جميعا بحِبّ الرحمن زارع القيم الراقية، وباسط المثل الرفيعة..
صعدتُ إلى بيتي تغمرني سعادة عارمة لسعادة جاري السعيد.
سعِدَ عمّو سعيد بولد نبيه؛ كيِّس وسيم. ترعرع بين يديه يملأ حياته سرورا وسعادة.
وهو يسير إلى جانبه لصلة الرحم في يوم عيد مطير اختطفه الموت عند منْعطف مزْدحم خالٍ من أيّة مراقبة، استوفى رزقَه وأجلَه وما قُدِّر له، ثم رحل، رحل غير منْقوصٍ من عمره شيئا. لم يحرِّك والده ساكنا. تدخّل الناس وسيق الأمر إلى نصابه وعمّو سعيد في حالة وعي ولا وعي، لم يصدِّق ما جرى، ضغط عليه القدر فأسلمه، وتملْمل له الِإكراه فشلَّه، يروّضانه لقبول ما جرى..
انتكس عمّو سعيد لفقْدان ابنه ذي الربيع الواحد رفقة أيام ولياليَ بعدد أقصوصات الليالي العارية (4)، ثم انخرط في السُّكْر لعلّه ينسيه مصيبته، فكرة تستوطن قلوب اليائسين، وموقف يغيِّب التفكير من رؤوس القانطين..
عمّر سلوكه ما عمّر فذبل له جسمه، وشاخ فيه زمنه فابتدأ ينزل من سلّم التعقل ُسلّما سلّما، يطارده الجنون وبالكاد ينْفلت منه، يتحدّث إلى نفسه وإلى الناس من غير دافع ولا داع، يخاطب الجماد، ويناجي الكلاب والقطط الضالة.. تسكنه أشباح تمنع عنه بصر البصيرة، يدخل منزله يائسا بئيسا قد جندل صبره وطعن أمله ليزيد من بؤس أمّ سعيد وشقائها، جاهدتْ لتحول بينه وبين الإدمان فلم تفلح، حرّضت أسرته وأصدقاءه دون نتيجة، دمّره غياب سعيد، ويئّسه من الحياة فُقْدانه.
كلّما قدم إلى منزله يجد في مدخل الحي أو في وسط الزنقة أو بمحاذاة سكنه؛ ابن جيرانه، يدعوه إليه ليقدِّم له قطعة من الحلوى، أو حبّات فاكهة جافة، يهيم بالشكولاتة، ويجنّ للفُسْتُق والبُنْدُق، وكم مرة يصل الحي، ثم يعود لجلبها إذا لم يصطحبها، ينتشي لقبلة سعْد على خدّه الأيمن، يطيل الاستسلام وكأنه يريد طبْع أخرى، يهيم في نشوتها وكأنها مطبوعة من سعيد.
طرق باب بيته في ليلة عيد الأضحى فلم تستجب له ثكْلاه، يخلو منزلهم في الأعياد، ولما يئس أخرج مفتاحه وشرع يحاول فتح الباب، يدفع بالمفتاح في كل الجهات؛ يبحث عن عين القُفْل فلا يجده، غضب لفشله فشرع يسبّ ويركل الباب.. لفت انتباه الجيران فخرجت جارته سُكيْنة تستطلع الأمر، أطلت عليه وإلى جوارها سعْد يرقب ما يجري، لا ينام باكرا في ليالي الأعياد.
خاطبت أمّ سعد جارها:
(( هل ألقي إليك بالمفتاح؟ )).
أمّ سعيد تترك نسخة من المفتاح لجارتها خشية أن يضيع من زوجها مفتاحه فيبيت في العراء. أعادت قولها وبالكاد انتبه إليها، فردّ بصوت عال:
(( ألقي إلي بالقُفْل، فالمفتاح في يدي، لم أجد القفل، ولا أدري أين هو؟ )).
انطلق سعيد يركض في الأدراج وهو يصيح:
(( عّمو سعيد.. عّمو سعيد.. )).
ارْتبكت لركْضه أمّه فصاحت به:
(( ارجِعْ.. عُدْ.. لا تقرب عمّو سعيد، سيؤذيك )).
اهتزّ كيان أبي سعيد لقول أمّ سعْد (سيؤذيك)، تحرّكت لكلمتها غدّته فشقَّت على خدّه أخدودا ساخنا، حُمل من بَرِّه فوق جبّار يحمل السلطعون فوق النباتات المهاجرة (5)..
ارتمى سعْد في حضن جاره المدْمِن وهو يترنَّح حتى كاد يُسْقِطه لثمالته، فطبع على خدّه الأيمن قبلة ناعمة، ثم رفع رأسه، ولكن عمّو سعيد ظل منحنيا متحمِّلا ضغط جسمه الخيْزُراني وطالبه بطبْع أخرى، فنالها، ثم استخرج له الشوكولاتة فتناولها.
وقف بين يدي أمّه سالما غانما بدينا بحبّ جاره الطيّب، فتنهّدت أمّ سعد، ثم اغتبطت، فألقت إلى عمّو سعيد:
(( ألم يان لك أن تُقْلع عن السُّكْر؟ )).
لم يجبها، دفع بالباب الذي فتحه الصبيّ ووضع قدمه اليمنى على الدُّرج، ثم رجع يترنّح، ويرفع هامته لسماع سعد ويقول: (( ماذا قلت يا سعد؟ )).
ـ هل تقبلني ابنا لك على أن أظل حاملا أصل أبي؟
جفّ الكحول في دم " عمّو " سعيد، وتيقّظ الوعي في رأسه، وطنّت الأبُوَّة في أذنه، فرد:
ـ نعم، نعم.
ـ ولكن لديَّ شرط يا عمّو.
ـ اشترطْ ما شئت يا بنيّ، اشْترطْ، اشْترطْ.
ـ أن تُقْلع عن السُّكْر.
ـ سأقْلع، أفعل والله.
استجاب عمّو سعيد لجاره الصبيّ طمعا في أبُوّة مَنْ ليس من صُلبه؛ تدفع عنه شقاءه، وينسى بها حرمانه. سعد ببُنُوّة تملأ جنبات بيته. اتخذه ابنا فغمره بعطفه وحنانه.. منحه أبُوّةً منعته من السُّكْر، فنال بنُوّةً اغتالت فيه الإدمان.
(1) الغدد أجهزة للإفراز. واللام في كلمة ( لسيرنا ) لام العلة، وعليه فنشاط الغدد هو لعلة السير حتى لا نذهب بعيدا لنشاط غدد غير معنية هنا ما دام ورودها نكرة، وإذن فنشاط غددنا لعلة السير يحدد نوعية الغدد التي تنشط بالسير وهي غدد العرق؛ إذ تفزر سائلا ملحيا ينتقل في أنابيب ضيقة إلى الفتحات أو المسام في ظاهر الجلد. العرق ينتشر على الجلد الدافئ فيتبخر آخذا معه في تبخره الحرارة، إنها ترموستات في جسمنا. وهي في جملتنا كناية عن التعرُّق.
والغدد كثيرة في جسمنا ومختلفة الأحجام منها ما هي بحجم الفاصوليا ومنها ما هي دونها، بل إن الطحال والبنكرياس غدة، والكبد أيضا يعتبر غدة كبيرة لأنه يعمل عمل الغدد بإفرازاته..
(2) ذات السبعة عشر زوجا من الكر وموسومات هي النحلة.
(3) صاحب المن والسلوى هو رسول الله موسى عليه السلام. والمن مادة حلوة، والسلوى طائر السمّان، فقد عانى نبي الله مع قومه اليهود؛ منها أنهم طالبوه بدعاء ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من ثوم وبصل وبقل مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكان لهم ذلك بمطالبتهم الهبوط إلى مصر.
(4) مجموع الأقصوصات الصحافية في (( الليالي العارية )) 27.
(5) النباتات المهاجرة لا تحمل السلطعون لوحده، بل تحمل كثيرا من الكائنات الحية مثل البزاقة البحرية. فالأعشاب البحرية تهاجر على سطح المحيط، وفي هجرتها تحظى برفقة كائنات بحرية تحملها التيارات المائية من مسافات بعيدة..