مصب الخلاص
أحمد ناصر نور الدين
[email protected]
الصباح موعد صحوها، وإغفاؤها في المساء يكون.
ما بين الفجر والمغيب نهر طويل من الألوان والأشياء والعرق..
صبغت أشياءها الكثيرة ألوان غامقة، والعرق الذي يبلل جسدها يغمر الأشياء الملونة
فتغرق فيه وتذوب.
قال لها العجوز بابتسامة ماكرة:
- أنت عاملة نظيفة.
وبعد مراوغة قصيرة شاءت أن تذيقه حلاوة النظافة.
العاملات غارقات في إيقاع الخياطة.
لا تكف الإبر ولا تمل. ونظرات العجوز تلسع وجهها ورقبتها.
حين قامت بتفصيل قميصها الرقيق، لم يفتها توسيع الياقة بما يتلائم مع قدرات الرجل
البصرية التي تآكلت في ظلمة المعمل وطوايا السنين.
المدينة الممتلئة تنصاع لفحولة الليل، تتمدد تحت جثمانه الهائل بأثدائها المشعة،
تطلق بضعة آهات زائفة، يموج الليل في شعابها، وتضطرب الأزقة بنشوة لاهبة.
أما هي، فقد هدها إرهاق العمل، وضرب مفاصلها التعب، فتداعت فوق سريرها فريسة الغياب
الشامل.
بعد المغيب تتلاشى الحواس، وتنهض الأماني من آباراها السحيقة.
تكدست أمامها الأكياس. المحل يموج بالزبائن، وصاحب المحل لا صبر لديه.
انكبت على الأكياس فراحت تصنفها وفق محتوياتها.
أكياس الماضي تحفظ ما بها عن ظهر قلب.
أما الستقبل فلا أكياس له، بل أجراس. أجراس كنائس، وأجراس بيوت.
لا تخشى على نفسها من حدة الصراع.
فأجراس البيوت خافتة رحيمة، وأقل إيلاما من أجراس الكنائس.
ما أكثر البيوت في المدينة، وما أعجزها عن تلبية الدعوات التي تجود بها البيوت!
أيتها البيوت المتناثرة في الأرجاء، فاق كرمك جود الزمان وسعة الأحلام.
بالأمس كان الحلم واعدا، واليوم لم يعد للكابوس مقدرة على الإيلام، بعد أن تلاشى
رنين الأجراس في تهويمات الهذيان، وانتصب مكان الكنيسة ألف بيت وبيت.
انسلخ الصبح مكرها عن جسد أبيه ليسقط في حضن المدينة الجريحة.
ومر من تحت نافذتها الموصدة سيل من العابرين.
بائع الكعك يثير شهوات تهفو إلى دفئ الرغيف، وغزل البنات يقطر عطرا ورديا يلهب
حنينا هاجعا في رياض الأحلام.
النوم لا يزال رابضا فوقها بكل ثقله وأشواكه.
لم تعد تصحو كل صباح، ولم يعد المساء مصب النهر الطويل.
انطلق نداء الجارة أبحا متشكيا: قم يا إبني الله يخليك، قوم شوف رزقك، الدنيا قايمة
قاعدة وأنت غارق في نومك العميق... إلى متى تبقى في النوم غارقا؟
مع تكاثر الزبائن تصبح النظافة وحدها غير كافية.
العطر والألوان، والضحكة الرنانة.
امتلكت كل أدوات المهنة، ومضت في أدغالها تحدوها جرأة كبيرة طاوية صدرها على ما
يصطخب فيه من ورغبات وآلام.
ابتسامة العجوز الماكرة لا يوازيها إلا الضحكة الكريهة من فم أثرم لأحد الموسرين.
مات العجوز وتلاشى المعمل في ظلامه الأبدي، تقوض محل التموينات واندمل صاحبه تحت
أكوام الأكياس وأطنان الحبوب، وحجرة ضيقة مظلمة تملؤها العوانس والقاتلات احتوت
جسدها المعبئ، يسمونه السجن وتسميه ملاذ الضائعين.
قررت أن تتناسى أيام الرذيلة وتدفنها في بئر عميقة.
تطلعت روحها الى نور الشمس وتاقت نفسها الى رؤية المذبح والقبة الملونة.
تمنت أن تعثر وسط الأنقاض على جرس كنيسة يكون سليما قادرا على بعث الرنين.
بعد أن يلفظها السجن من أحشائه المقيتة، قد تجد أمامها طريقين، طريق التوبة وطريق
العودة.
أما الإختيار فهو الطريق الأصعب من الإثنين.
لن تختار، لأنها لا تريد الخروج، ولن تعبر طريقا بعد اليوم.
ويعرف الليل طريق الزنازين، يزحف إليها كل يوم، يغوص في أعماقها، وينهض من غياهبها
المظلمة ظافرا باللذات محملا بالآهات والأماني.
فتحت عينيها على ظلمة الزنزانة.
لا بد أنه الصبح.
تذكرت أن اليوم سيفرج عنها، وسرت في جسدها رعشة المجهول.
أين تذهب؟ كيف تعيش؟ وماذا تعمل؟
أخبرها بائع الجرائد بأن أوضاع البلد زفت، وقدم لها نسخة من الجريدة مجانا.
تحت شمس حارقة، حاولت أن تفك طلاسم الكلمات المرصوفة، ولكن ذهنها الحائر وجد ملاذه
في الصور، فتاه بصرها في تفاصيلها الغامقة المفعمة بالظلال.
رائحة الجريدة تبعث على شعور غامض، والبلاد ضائعة في دوامة الأحداث.
متى تهتدي البلاد؟ ومتى يصفو لها عيش الأيام؟.
هل تهتدي إلى الطريق، أم تضيع البلاد ويختفي العباد؟
الحياة تتبدل وتتحول بسرعة الضوء.
لكن النهر القديم يعاوده حلم الجريان.
ولما لم يجد له مسلكا في الزمن، إلتمس طريقه الى الشرايين المسكونة بدماء راكدة.
قالت لنفسها وهي تتأمل معالم رسم قديم لأم كانت لها ذات يوم: لن يكون الأمر صعبا،
ولن يكون مؤلما.
وشق النهر سبيله بزخم واصطخاب.
تدفق النهر في الشرايين.
وانطبق الجفنان في هدوء وسكينة.
اللحن الشجي يصدح في الهواء، آتيا من عطفة الدرب القديم.
ومر بائع غزل البنات من هنا، ثم رحل تاركا خلفه عبير الفتيات الحالمات.
فامتزج اللحن والعبير، واتخذ النهر مجرى السماء البعيدة.