سلمان المجنون
عمرو الغامدي
[email protected]
وقعَ عليّ الاختيار , و أتى إليّ من
مسافة طويلة .. صافحَ يدي بفوضوية ونطق بوجهه البائس : (ليش طيحتني ؟!)..والخوف في
وجهي , واجه جنونَ وجههُ!
في حارتنا الصغيرة ليستْ هناك أسرار ,
فالجميع يعرف ما يدخل إلى البيوت وما يخرج من نوافذها , ومثلما ضَحكُ الجار يعانق
بكاء جارٍ آخر , وتأوّه آخر .. فجميعنا نعرف تماماً , أن في حارتنا "سلمان المجنون"
! .
الأمهات تحذرن أطفالهن عند العودة من
المدرسة , وكذلك حين يركبْن السيارة يفعل الأمر ذاته الآباء , يا أطفال .. في
الحارة مجنون , يجري خلفكم .. ويمسكُ بشعوركم , ويضرب رؤوسكم حتى تسيل ! فإن
رأيتموه اهربوا بسرعةٍ إلى البيت !
صبية الحارة يقذفونه من بعيدٍ بالحجارة
, وهو يستقبلها ويعيدها إليهم .. يقتربون منهُ ويصرخون بهِ : (يامجنووون) فيحاول
اللحاق بهم ولكنه دوماً ما يتعثر ويسقط .. ويبدأ في البكاء , كانت ملامح وجهه باكية
بلا دموع , حتى وان ابتسم فإن وجهه يزداد بكاءً , تحمل تلك الملامح موضوعَ المعاناة
, وجُمَلُ القسوة .. وتوقيع الشارع .
لو أن العقل يُباع على الأرصفة لكانَ
أبوه أول المشترين , ولو أن أمه تعلم في أي المشعوذات يكمنُ علاج ابنها لتحملّت
ذنباً عظيما لأجله , ولو أن ساكنيْ الحارة أدركوا ذلك لما جعلوه قصة يخوّفون بها
الأطفال في الليل لكي يناموا !
لذلك ليس سرّاً أن سلماناً يعرف ملامح
حارتنا أكثر من أهليها , إذ ْ أنه حين يماشيها صبحاً تُلقي عليه السلام .. وحين
يشاكسها ظهراً تبتسم له وتظلّه , وحين يضربه صبية الحارة ليلاً تحضنه كالأم الحنون
.. ليس سرّا أنه لا صديق له , ولا عدو له .. لأنهُ لا يفهم سوى أمراً واحداً .. أن
ملمس الأسفلت أكثر نعومة من كفّ البشر , و قسوة الرصيف أكثر حناناً من قلب البشر ,
وأن الشوارع تصغي إليه أكثر من آذان البشر .
هناك سلمان في كل مدينة , وفي كل قرية
.. وفي كل حارة .. وفي كل منزل , وفي كل إنسان , هناك سلمان .. قد يكون عقوبة ٌ من
الله علينا , وقد يكون رحمة .. قد يكون رجلٌ أنزله الله من الجنة , ولوّثته ذنوب
البشر .. قد يكون الرجل الأبيض والأسود . وقد يكون كل ما نحبه , وكل ما نكرهه ..
وكل مالا ندركه سلماناً .
وقعَ عليّ الاختيار مرة أخرى , و أتى
إليّ من مسافة طويلة .. صافحَ يدي بفوضوية ونطق بوجهه البائس : (ليش طيحتني ؟!)..
قلت لهُ : (تسامحني ؟!) , ابتسم وجهه الباكي , والجنونُ في وجهه , واجهَ جنونَ
وجهي.