هستيريا في الظلام
(2)
م. زياد صيدم
تبسم لأم العيال كديك قد أتم عمله، فنفش ريشه وقد انتصب عرفه .. كان يمسك بفانوس قديم أنزله من سدة المطبخ ، بعد أن أزال عنه لفائف من أكياس النايلون المغبرة .. أمطرته بنظرات الدهشة قبل أن تمضى إلى غرفتها، لم يكترث لها .. في السوق حفيت أقدامه سائلا عن كيروسين أبيض للفانوس .. في كل مرة كان يسمع رنات ضحكاتهم المتهكمة من خلف ظهره.. قبل أن يدخل بيته مكدرا سمعها للجارة تقول وهى تضرب كفيها: لا جاز ولا غاز ولا كهرباء.. دخل بقدمه الشمال على غير عادته ؟.. كانت لا تزال أم العيال على دهشتها منه ولا تزال ابتسامتها المستهجنة.. زارتهم العتمة بهواجسها.. تعثرت قدماه بمجسم للأقصى وضع في ركن الغرفة.. وخز أم العيال مستدركا.. الآن فقط قدرت حجم مصيبتنا.. فانفجرت ضحكاتها الهستيرية.!!
****
استنفذ الناس غاز الطبخ من بيوتهم .. وأغلقت معظم المخابز أبوابها في حصار لم يسبق له مثيل .. هرعوا إلى بواب ير الجاز القديمة ..كانت الزوجة الشابة بعمر الثلاثين تحاول جاهدة تشعله فلم تفلح محاولاتها ..التجأت إلى جارتها الحاجة أم توفيق في السبعين من عمرها .. وجدتها تخبز لأحفادها على قطعة صاج من المعدن .. وقد أوقدت من أسفلها نار من كراتين جلبها الصغار من أمام المحلات ومن زوايا الأسواق بعد عراك بالأيادي وشتائم من ألسنه قد نفذ صبرها...فجلست الزوجة الشابة لتعلمها الحاجة خبرات نصف قرن مضى ..كانت قد دأبت على صناعته ما قبل النكبة وما بعد النكسة.. بعد انتهائها طلبتها الشابة إلى مطبخها لتشعل لها ببور الجاز.. والذي استبدلت الكيروسين المفقود بمازوت معالج بملح الطعام .. شكرتها لام توفيق التي غادرت مزهوة ،على أنها ما تزال محل احترام وتقدير لخبراتها التي لا يعلمها سوى جيلها.. فأحست بقيمتها فبدت كامرأة في الخمسين من عمرها.. أوصلتها إلى الباب احتراما لها ...في طريق عودتها أدارت الشابة مفتاح الراديو تترقب أخبار فرحة لم تصل بعد إلى مسامع الفقراء والمحتسبين أمرهم إلى الله.. فكانت إذاعة الشرق الأوسط تصدح بأغنية لعبد الوهاب يكرر فيها: " يا ببور قلى رابح على فين " .. ابتسمت وراحت تقارن ما بين ببور القطار لعبد الوهاب .. وببور الطبخ الهادر من القرن الماضي.. كطائرة نفاثة تثير الرعب في قلبها تذكرها بالمآسي عقب كل صرير هادر لها كان يصعق السماء.. جاءتها رغبة مفاجأة جامحة لقهقهات عفوية صاخبة .. فوضت يدها على فاها تحول دون انطلاق ضحكاتها بشكل هستيري..!!
إلى اللقاء.
(3)
سمع بأن جاره أبو عمر قد أقسم يمينه أمام الجميع .. بأنه يُشعل الفانوس بالمازوت المهرب والمتوافر في الأسواق بثمن البنزين .. لم يصدق ذلك .. بعد صلاة العشاء انطلق إلى بيت جاره ..يتحسس عتمة الطريق بمصباح صغير في ولاعته .. قرع الباب بيده .. استقبله مرحبا .. كان شعاع ضوء ينبعث من فانوس أضاء فناء البيت القديم .. تعجب !.. أجابه أبو عمر: نخلط المازوت بملح الطعام ونتركه فترة بعد رجه وها هي النتيجة أمام عينيك .. تمتم ثم أردف : لقد ربحت الرهان أبا عمر .. شربوا الشاي جميعهم .. وفى طريقه إلى باب المنزل مغادرا.. أعاد على مسامع جاره بان العشاء غدا عندي إن شاء الله.. وقبل أن ينصرف.. ذكره بإحضار لتر من المازوت المُملح.. فزلزلت ضحكاتهما الهستيرية عتمة الحارة .!!
****
طرقت عتمة الليل معظم الأبواب كعادتها في هذه الأيام .. أشعل الأب فانوس يعمل بالمازوت المُملح.. جاءت راكضة ابنة الخامسة نحوه فرحة متهلل وجهها.. معتقدة بأنه فانوس رمضان الذي طالما طلبته باكية على مدار عامين.. ولم يلبى لها نداءها لعدم توافره في الأسواق..تساءلت ببراءتها لقد كبر الفانوس يا أبى.. اقتربت منه.. تشنجت حركتها أمامه.. فرائحته منفره و نتنة من مازوت يحترق.. تنبعث منه حرارة ساخنة لم تعهدها .. كانت واجمة، متسمرة ، حزينة، بينما كانت تنظر إلى أبيها وقد خاب ظنها بفانوس رمضان.. بألوانه وأضوائه وموسيقاه الغنائية الفرحة .. كان لا يزال يتأملها ويسمعها بانتباه شديد.. قبل أن يسارع إليها ليضمها إلى صدره ويجفف دمعها.. استدرك الوضع على مشهد لم تنتهي فصوله بعد.. ورنت في أذنه كلماتها الأخيرة بان الفانوس قد كبر.. وأصبح مريضا كجدتها الختياره .. فانطلقت ضحكاته هستيرية . !!
إلى اللقاء.