الإمام الجَرْصفيّ
د.عثمان قدري مكانسي
لا أدري لم تذكرت تلك الليلة التي مضى عليها في أخدود الزمان قريب الأربعين عاماً وكنا معشر الأربعة في غرفة واحدة نتدارس مقرر النحو في ( صومعة ) أخينا أحمد الخراط قريب الثانية عشرة ليلاً !!
كنا عائدين مساء من الجامعة وقد اقترب امتحان مقرر النحو ، فقررنا أن نتذاكر بعض المسائل في (مغني اللبيب )لابن هشام المصري رحمه الله تعالى ، وتوجهنا إلى بيت أهل أحمد في حي السفاحية في حلب أمام انتهاء ( خط الترام ) .. لم يكن هذا من عادتنا ، لكنه دعانا إلى الغرفة العلوية المبنية على سطح البناء فوق الدور الرابع ، فلا يرقى إلينا أحد سوى أخيه الذي أمدّنا ببعض ( السندويتشات ) وإبريق الشاي ، فنتنسم روائح أمسية حزيرانية يونيو – في ليلة هادئة ممتعة النسمات ، يتخللها بين حين وآخر صوت مقص عربة الترام المميَّز حين تغيّر مسارها عائدة من حيث أتت إلى حي الجميلية على الطرف الآخر الغربيّ .
قرأنا معاني بعض الحروف – في الجزء الثاني من الكتاب – وإعرابها ، وطوّفنا على الجمل التي لها محل من الإعراب ، ولم ننس أخواتها كذلك .
انتفض أحمد سريعاً قبيل الثانية عشرة ليلاً وانحدر مسرعاً إلى بيته أسفل الصومعة ليحمل صحناً كبيراً ، وينزل به إلى الفوّال في البناء المحاذي قبل أن ينصرف إلى بيته فيضيع علينا عشاء فولي دسم اعتدنا عليه حين كنا نجتمع – وما أكثر ما اجتمعنا – فيكون صحن الفول خاتمة المطاف ، وينصرف الأصدقاء كل إلى سبيله .
وعاد أحمد – كنت رئيساً لجمعية الفوّالين وهو نائبي في قيادتها حين كنا طلاباً جامعيين وكان الفول أكلتنا المفضلة لوجودها في رأس كل حي أو وسطه ، وفي الزواريب ومداخل الأحياء الملتوية وفي الشوارع الرئيسية في حلب – واكتشفنا بعد أن كُتب علينا الطواف في العالم العربي أن هذا الانتشار الفولي أفقياً وطولاً وعرضاً موجود في كل مكان ممتد ومتشعب كالأوردة والشرايين .
عاد أحمد يحمل صحن الفول الممزوج بالطحينة وحمض الليمون ، مشفوعاً بالبندورة والبصل ، والرشاد وبعض قرون الفليفلة ، وسبقته إلينا رائحته النفاذة ورائحة الخبز الطازج من الفرن القريب .
كنا – معشر العشاق الأربعة – نلتف حول المائدة ، في وصال محبب وشوق عارم للحبيب القادم . يسكن ثالثنا في حي ( الجُدَيدة )قريباً من الفوّال أبي عبده المشهور الذي لا يفرغ مطعمه من الزبائن أبداً وكان رحمه الله كريماً ( يصلح الصحن ) دائماً والمقصود بالتصليح أن عمّاله يمرون بين الزبائن يزيدون الفول والحمض في الصحون ما داموا منشرحين يلتهمون ما في الصحون التهاماً . وكثيراً ما كنا نشير على ثالثنا أبي زكوان – مازحين – أن يمدد أنبوباً بين بيته وبين مطعم الفوّال ليمده دائماَ بالفول الطازج مع صنبورين أحدهما للفول بالطحينة والآخر للفول بحمض دون طحينة .
أما رابعنا فهو الشاعر الجسري وحبيب القلب أبو البشر الذي عرفته في الصف الحادي عشر في ثانوية المأمون ، ولعلّه كان أقلّنا ( تفوّلاً ) .
انفصلت عن الثلاثة أقرأ مقاطع من كتاب ابن عصفور الأندلسي ( الممتع ) ويسميه بعضنا – المفقع – إلا أنه في الحقيقة - كاسمه - ممتع ومشوّق ، يتناول فيه ابن عصفور مسائل الصرف بأسلوب ظريف متدرّج . وبدأ الثلاثة يقرؤون ( المفصّل ) لابن يعيش ، إلا أن يحيى اضطر أن يتركهما حين أمراه أن يجلس إليهما ، وكان قد أمسك بكتابه مستلقياً على كنبة قريبة إليهما ، فلم يعجبهما ما فعل ، فانتقل إليّ يدّعي أنه بحاجة إلى قراءة الممتع . واستلقى قريباً مني واضعاً الكتاب على صدره موحياً إليّ أنه يتابعني .. يا يحيى ؛ ادن مني ، قال أنا معك .. وبعد قليل سقط الكتاب فوق صدره ، يا يحيى ؛ قال أنا أسمعك .. وانطلق الدم إلى معدته ينشطها على هضم الفول ، ثم سمعت شخيره يتعالى شيئاً فشيئاً ، وراح في سبات عميق .
حين أنشغل بأمر ما – وحدي - وأندمج فيه أنسى ما حولي ، و أكاد لا أسمع أو أعي ما يجري ، فانتباهي يتركز فيما أنا فيه . مرّت ساعة وأنا مستغرق في قراءة الممتع إلى أن شعرت بضيق لم أعرف مصدره أول الأمر ، لكنّه شدّني وأخرجني مما أنا فيه ، لقد كان أبو زكوان وأحمد ينادياني مرة بعد مرة ، فلما انتبهت قالا لي : بصوت عال : لماذا لم تردّ علينا إلا بعد أن علت أصواتنا ؟! قلت : ما خطبكما ؟ قال أبو زكوان انظر ما يقرؤه أحمد ؟ إنه لا يدري ما يقول .
ودنوت منهما أسأل أحمد : ما الذي أشكل عليك ؟ .. كان يقرأ : وهذه الجملة في محل (الجَرْصَفةَِ) بدل أن يقرأها في محل ( الجرِّ صِفَةً ً ) .
ابتسمت قائلاً : أيها (الإمام الجَرْصَفيّ ) خير لك أن تنام .