سَبْقُ القَدَرِ
إقبالُ أهلِ القريةِ على دروس إمامِ مسجدِهم بعد صلاة عصرِ كلِّ يومٍ دليل رغبتِهم الجادة في معرفة فرائضِ دينهم ، وما تميَّز به إسلامهم من أحكام وأخلاق ومعارف . هاهم تحلقوا حول الشيخ أبي ربعي ، وجلُّهم من الشباب الذين تحتضنُهم الجامعات والمعاهد ومراحل التعليم الأولى . حيث يستغل الشيخُ سعة العطلة الصيفية فيغني عقولهم بقيم الإسلام ، ويملأ أرواحَهم بروحانية الذكر الحكيم ، ويوجه سلوكهم إلى مكارم الأخلاق ، ويحذرهم من الأهواء والموبقات التي استشرى أذاها في هذا العصر .
كانت عينا الشيخ ترسلان نظراتهما الحانية , إلى وجوه الشباب الذين يخشى عليهم الفتنة في زمن تطاول فيه عنق الشر , و استفحل فيه تحرر الإغراءات القابلة للنفوذ إلى أحنائهم و شغاف قلوبهم . ولعله يعرف طبيعة هذا العصر , ويعرف ما تنطوي عليه نفوس الشباب فالقابض على دينه كالقابض على جمر , ولعله سمع من بعضهم , وتحدث مع الآخرين , فكان حديثه في عصر هذا اليوم حول حماية الذات المسلمة من سطوة تآكل مقومات الفطرة السليمة . وهي تواجه تيارات الغواية , وكيف يجب أن تصمد بل وتتخطى العثرات والمزالق , ولا تقبل أبدا بالتماسات أولي النزعات غير الأخلاقية , الذين يريدون كسر عنفوان الإيمان فيها , وليِّ ثباتها على مناهج الخير والنجاة . وشدد في حديثه الشيق على قدسية ما تسعى إليه الذات المسلمة , وحذر من أن التمرد على الأصول المحورية للمسلم غالبا ما يكون ضربا من التسكع على مهاوي الضياع , أو وقوعا في فخاخ المؤهلين لاصطياد الناس , ولو اضطر الأمر للعدوان على أسفار ممتلكاتهم الروحية , ونماذج سلوكياتهم النفسية في زمن الانتكاس .
وكان أحمد الشاب الجامعي واحدا من المتلهفين لسماع مثل هذا الإرشاد , فقد أمضى ثلاث سنوات في الغرب يدرس الطب , ويرى تلفت بعض شباب الشرق , والتباس المفاهيم عليهم , وإدبارهم عن قيم دينهم . والشيخ أبو ربعي يشعر بما يدور في خلد أحمد وأمثاله ويقرأ أسئلتهم في وجوههم المشرقة , فيتابع درسه اليومي بهدوئه المعروف , وقوة بيانه , وشعر كأنه فكرة تريد الانطلاق من بين شفتيه , فترجمها ببصيرته قائلا : للمسلم ذاته المتميزة , حتى لو نأى عن أفياء الطمأنينة التي يجدها الصالحون في صلواتهم ونجاواهم مع الله آناء الليل وأطراف النهار . وانتقال الكثير من عصاة المسلمين إلى حظيرة التوبة , واندفاعهم في دروب القبول عند ربهم ليس بالمفاجأة , فهم أولى بالخشوع لربهم إذا سمعوا آيات الرحمن تتلى . وظل الشيخ يحذر من فورة الشباب الذين يسخرون فتوتهم لغير مواطن الحكمة , ولا يقيدون خطواتهم بضوابط الباقيات الصالحات , وكأنهم عقدوا الصفقة الخاسرة مع الصيحات غير الواعية في فكر منحرف , وسلوك شائن مبتذل , تدعمه قوة الحرية التي تتغنى بالسيئات , وتنشئ مواطن للموبقات .
و اختتم الشيخ درسه بدعاء رغب خلاله بالتوبة , وحذر من طول أمد الغفلة , وبين أبواب النجاة من ظلمات الخطايا وفدافد الخسران , وأخذ الناس بالانصراف من المسجد إلى أعمالهم أو بيوتهم . ووقف أحمد يسلم على الإمام ويشكره ويسأله أن يدعو له بالتوفيق , ويقيه شر الأذى . وتمر سويعتان بعد نهاية الدرس ليرفع صوت أبي خباب يؤذن لصلاة المغرب , ويتراءى الشيخ في طريقه إلى المسجد وعليه السكينة والوقار , يلقي التحية على من يمر عليه , وجميع الناس يحبونه ويقدرونه , فهو إمامهم في صلاتهم , وخطيب جمعتهم , وصاحب فتواهم , تميز بصدقه وزهده . هكذا يصفونه في مجالسهم , ولا ينسون له دعاءه الميمون لهم بالعفو و التوفيق و الرزق الحلال . و يلقي الشيخ نظرة مفعمة بالشجو والأمل على صاحب هذا الدكان الذي لا يراه بين المصلين . فإذا ما سمع الأذان انسل إلى منزله القريب, وتهادت خطاه الوئيدة بتثاقل فقد قارب الستين من عمره , ويردد الشيخ عبارات في نفسه , ولكنها تأبى إلا أن يسمعها أبو محمود صديق الشيخ الحميم ... اللهم اشرح صدره , واهد قلبه , ولا تجعل الدنيا أكبرهمه , اللهم اغفر له , واصرف قلبه إلى طاعتك يا أرحم الراحمين . وأمَّن أبو محمود قائلا للإمام جزاك الله خيرا , ودخل المسجد وصلى الناس صلاتهم , وانصرفوا مأجورين بفضل من الله , وجلس الإمام مع أبي محمود يتذاكران بعض الأمور , وأحوال الناس في القرية , وما نسيا صاحب الدكان الذي ما حضر جمعة ولا جماعة . فيالها من فاجعة , ويا له من مصير بئيس إن لم تتداركه رحمة الله تبارك وتعالى , وقال أبو محمود : ويله لو أسبغ الوضوء , وصلى مرة واحدة بخشوع لعلم قدسية الصلاة ومكانتها , ولفتح الله عليه , و ابتدأ طريق الهداية , ولما حال بينه وبين أدائها بيع ولا شراء ولا أي عائق من مشاغل الدنيا . ولكن .... أتم الشيخ كلام أبي محمود قائلا : ولكن الرجل معروف بحسن خلقه , وانصرافه عن الناس , الذين يشهدون له بحسن السيرة , واحترام شيبته . قال أبو محمود : كم تدهشني مخافته لأهل السوق حين يلبون النداء , وهو ينسل في طريق آخر غير طريق إخوانه ومسجدهم . كان الشيخ أبو ربعي صامتا , وكأنه يستمع إلى صوت قادم من بعيد , وعلت وجهه ومضة تسبي التائه و تجره إلى مغنى يفوح بالوفاء والإخاء و الموده ... وقال سأحدثكم عن أمر عجيب في شأن ذلك الرجل . مررت عليه ضحى أحد الأيام السالفة , وجلست معه ساعة أذكره بالصلاة و أنها عمود الدين . وبمكانتها عند الله , فقال الرجل إنه لا يحفظ شيئا من القرآن , ولا مما يقوله الناس في صلاتهم , فأردت مداعبته , فقلت له أعطني من هذه الحاجة كيلو غراما ونصف ومن تلك الحاجة نصف كيلو , ومن هذه ربع كيلو ... وتظاهرت بشراء بعض الحاجات المنزلية , فهب يجهز الأكياس بانسيابية و ثقة . ووضع أمامي كل ما طلبته . فقلت : كم الحساب ؟ فأخذ يحسب بدقة و بسرعة ويجمع ويطرح حتى أخرج المبلغ المطلوب من غير زيادة ولا نقصان . فتبسمت و أعطيته المبلغ , وقلت له : كيف تعجز يا أخي عن حفظ سورة الفاتحة , وها أنت باشرت بالعمليات الحسابية الأربع بكل سهولة !! فغام وجهُ الرجل , وتحير لسانه في الجواب فحوقل أبو محمود , ودعا له بالخير .
في اليوم التالي خرج الشيخُ إلى السوق لشراء بعضِ حاجات بيتِه ، فشدَّت عيناه رؤيةُ أحمد جالسًا مع صاحب الدكان ... تُرى هل جاء أحمد لشراء بعض لوازم السفر ؟! فإنه سيسافر خلال هذين اليومين ، أم أنها مجرد جلسة مع هذا الرجل الذي طالما جاء على ألسنة القوم يريدون له الصلاح ؟! ولم يطل حديث النفس ... فانقاد الشيخ بهدوء شطر الحانوت ، وألقى السلام ، فرحبا به ، و وسَّعا له ، وبادر الشيخ إلى مباسطتهما بالحديث عن أحوالهما ، وانصرف وجهُه صوبَ الطالب الجامعي في حديث شيِّقٍ عن الدراسة والمستقبل والغربة ، ودعا الشيخ لأحمد بالتوفيق والنجاة ، وبرضوان الله سبحانه ، كانت أمارات العجب بادية بوضوح على وجه صاحب الدكان ، وما كان منه إلا أن أطلق لسانَه بجزيل الشكر والتقدير للشيخ على اهتمامه بأحمد وبغيره من الشباب . وتراءى للشيخ من خلال حديث الرجل أن علاقة حميمة تربطه بأحمد . فأدار بصرَه نحوأحمد وقد شعر بما يريده الشيخ ، فقال : إنه والدي ، وإنه يحبُك كثيرا ، ويثني على اهتماماتك بسائر أبناءِ القرية .
تهلل وجهُ الشيخ بالبشر ، رغم علمه برجل تارك للصلاة ، ولكن ربما حانت اللحظة التي يحيي فيها اللهُ جلَّ وعلا قلوبَ الغافلين ، وأصغى أبو أحمد إلى صوتِ الفطرة وهو يمدُّ له أجنحةَ التوبة ، وشعر أحمد بذكائه وشفافيته أن نظرات الشيخ تحمل الكثيرَ من المعاني ، وتبسَّمَ الفتى المؤمنُ وقال للشيخ : غدا السفر إن شاء الله . فادعُ اللهَ لي ، فإن الدعاء والصلاةَ هما سلاحي في غربتي ، ردَّ الشيخ بحرارة : حفظك اللهُ يابنيَّ وأقرَّ عيني والدك بك ، وأعادك سالما معافى بإذنه تعالى . والآن دعني يا أحمد وأباك ليعاهدني على أداء الصلاة . وّجَمَ أحمد ... لسرٍّ يدفنه في أعماق صدرِه ، وكاد قلبُه أن يخرج من صدرِه من شدة الفرح ... يالله أبي سيصلي !! كم من مرة دعوته ، وتفنَّنْتُ في إغرائه ليصلي ولكن ؟؟ لعلها ساعة مباركةٌ . والتفت الشيخُ إلى أبي أحمد ، وهو يمدُّ يدَه المباركة إلى يده ، وإذا بأبي أحمد يمدُّ يدَه ، وعيناه تفيضان بالدموع ، قابلتْها دموع الفرح من عيني الشيخ ، ومن عيني ابنه أحمد . قال الرجل : وهل يقبلني ربي بعد هذا العمر ، وبعد هجري لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام ؟؟
مسح أبو ربعي الدموع من عينيه ، وتلا قول الله تعالى : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ، فإنَّ اللهَ يتوب عليه ، إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم ) 39/المائدة . يا أبا أحمد إنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بشَّر التائب بفرحِ اللهِ تعالى بتوبة عبده ، فحملق الرجل في وجه الشيخ وهو يردد رواية الإمام مسلم في ذلك : ( لَلَّهُ أشدُّ فرحا بتوبة عبده حبن يتوبُ إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامُه وشرابُه ، فآيس منها . فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها وقد آيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذْ هو بها قائمةً عنده ، فأخذ بخطامها ، ثمَّ قال من شدَّةِ الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك ، أخطأ من شدَّةِ الفرح ) . اقشعرَّ جسدُ أبي أحمد ممَّا سمع . وأحس وكأنه بدأ حياةً جديدةً . أجل خرج الآن من عالم المجاهيل الموحشة ، وإذا به يستنبتُ العمرَ غضًّا ، وهويقبل على مدارج رضوان ربِّه في عالم الرضا والانعتاق . أشهدَ اللهَ على توبته ، وأشهدَ عليها إمام المسجد الحفيَّ بتوبة الناس ، وأشهدَ ابنه البار أحمد ، لم يبق سوى ساعة على موعد صلاة الظهر ... هيا لنستعد لأدائها ، نسي الشيخ حاجات بيته ... لاضير . خفَّ أبو أحمد إلى بيتِه فاغتسل وتطيَّبَ ... زوجتُه ، بقيةُ أبنائه وبناته في دهشة ... الجميع مبارك مبارك يا أبا أحمد . وردَّد أحمد : هنيئًا لك يا أبي ما أنت فيه اليوم من فرح الله بك ، وإقبالك عليه ، وانطلقا إلى المسجد ليكونا بين صفوف المصلين في جماعتهم وجُمعهم وأعيادهم . ثم عادا إلى البيت بعد أن استدرك التائب حلاوة الإيمان . تناولت الأسرة طعام الغداء على مائدة الفرحة الروحية الغامرة ، وحمد الجميع ربَّهم على نعمه التي لاتُعَدُّ ولا تُحصَى ، وأجلُّها نعمة الإيمان والهداية ، واستسلم الجميع للنوم في قيلولة هذا اليوم المبارك . ولكن لم تغمض عينا أبي أحمد ، ولم يفتر لسانُه عن ذكر ربِّه ، واعتدل في جلسته ، ثم اتكأ على وسادته المعهودة ، وارتفع صوت بالتسبيح والتهليل والصلاة والسلام على رسول الله ... ونادى : يا أُمَّ أحمد هل ترين أولئك الرجال الذين يأتون من بعيد ، من بين هذه البساتين المورقة المزهرة ، انظري انظري على رؤوسهم عمائمُ بيض كالتي على رأس شيخنا أبي ربعي ، هاهم يقتربون ... وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... أهلا أهلا حيَّاكم الله ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، نعم نعم : أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ... كانت أم أحمد تنظر وتسمع وهي في حيرة من أمر زوجها ، وإذا برأس أبي أحمد يميل ويده التي كان يرفعها أثناء ترديده للشهادتين ترتخي ، وإذا بنور لم تنكره الزوجةُ الوفية على وجه زوجها ، وإن لم تره من قبل ... هبت من الغرفة حائرة فزعة تنادي أولادها أحمد طارق خالد ... أبوكم ... أبوكم ... اجتمعت الأسرة حول معيلها يبكون ويدعون له بالرحمة ... مات مات أبو أحمد .
اجتمع الجيران والأرحام والأصدقاء يتقدمهم إمام المسجد ، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه في المسجد الذي صلَّى فيه الظهرَ مرة واحدة ، ولم يُكتب له أن يصلي العصر . فسبحان الله الذي جعل لكلِّ أجل كتابا ، فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
وسوم: العدد 830