عيون بلون الأشجار

م. زياد صيدم

[email protected]

شاءت الصدفة المحضة ، أن يتلقى ضمن بريده الزاخر برسائل شتى يومية رسالة من احد أصدقائه ، يخبره عن موقع جديد يلتقي فيه مجموعة كبيرة من المثقفين في شتى مجالات الأدب من قص وشعر ومقالات وأنشطة متعددة ، فوجده مناسبا يلبى فيض نشاطه الأدبي المتنوع .. لم يمض وقت طويل حتى أصبح أحد المشاركين الدائمين فيه ،عبر إنتاجه وتفاعله مع الكتاب والقراء ، كان أحد عشرات المواقع الأخرى ، لم يلتفت إلى علاقات من نوع الصداقات التى تنشأ نتيجة لتفاعل الكتاب فيما بينهم أو بين القراء على السواء ، فقد اكتفى بسطور من كلمات لم تتعدى كونها مجاملات عابرة، لأنه كان قد اندمج بصداقات متفاوتة ومتباينة في طبيعتها في أماكن أخرى سبقته بشهور بل بسنوات ، نشأت لديه وتشكلت عبر عالم شاسع ممتد أصبح بحجم قرية صغيرة ، هكذا سار الوضع معه بشكله الطبيعي .. لم يمر على وجوده شهور قليلة ليعلم لاحقا بأنه قد حرك في وجدان إحدى المشاركات اهتماما مميزا ، ومتابعة له ولكل حرف يكتبه قلمه النابض ، كانت إحدى المعجبات بقصصه ، والتي تأثرت بقلمه وأفكاره حد الإعجاب الشديد ، كانا يتبادلان الردود أحيانا التى تناقش وتثرى ما يتم كتابته ، فهي أيضا ترسم على صفحات الأثير كلمات عذبة ترتقي إلى درجة الخواطر والشعر، تعبر من خلالها عن مدى شاعريتها وأحاسيسها المتدفقة بقيم إنسانية راقية ، تنعكس على سحر الكلمات التى تنثرها في زوايا متعددة عبر الأثير.. كان يقرأ لها كما لغيرها، دون أن يترك في نفسه ذاك الشعور بالاهتمام الخاص وتحليل معاني الكلمات المنهمرة منها كحبات مطر، تصعق الأرض الجدباء لتحيلها رياض خضراء غناء تسر الناظرين ، وتزيد من إيمان المشككين بقدرة القادر على جمال إبداعاته وخلقه، كلمات تحاكى بعنف نصفه الآخر الذي يدفن فيه أسرار حياته الغابرة ، وذكرياته الجميلة لماضي لم تمت في جوانبه الدافئة الكامنة في تعاريج قلبه، ذكريات الجوى والشجن .

وفي يوم تلقى رسالة عادية منها على البريد الخاص،  تسأله عن استشارة خاصة في كيفية تعاملها مع محيطها الثقافي في أمر يخصها ، لم يفاجأ بطبيعة وفحوى رسالتها فهكذا رسائل يتبادلها دوما مع كثيرين ، فهو قاص صاعد و كاتب مرموق ،له من القراء والمعجبين الكثير من كلا الجنسين ، فكتب لها رأيه الشخصي ردا على استفسارها ، كان كريما كعادته، فترك بريده الشخصي لها وذلك لمزيد من التفاصيل التى قد تطرأ معها لاحقا ، لم يكن يتنبأ بأن هذا قد شجعها فعلا على الدخول معه في حديث مباشر عبر الأثير ، بل لم يتخيل بأنها قصدته هو بالذات لأنها فعلا كانت معجبة به تريد التقرب منه أكثر ،وهنا بدأ يكتشف حقيقة إعجابها الشديد به ، وبدأ يلمس حقيقتها المفعمة برومانسية عذبة ، وبأنها أرقى من نسيم البحر وقت الصباح ، كما تحسس خفة الظل والروح ما ينعش الفؤاد ، ويفتح أفاق من صداقة قد تكون الأغرب في حياته مؤخرا والممتدة عبر سنوات الماضي الجميل والمشرق في جانبه الآخر .

انه في العقد الرابع من عمره وهى ما تزال في عقدها الثاني، ففارق العمر يعتبره إحدى العقبات التى تزعجه في قناعاته بصداقات مثمرة وطويلة يبحث عنها دوما ، لحاجته الماسة إليها لتزويد جانبه المضيء من قلبه  بوقود وأسير الحياة يحفظ له وهجه وتدفقه بالحب والعطاء واستمرارية الإبداع لديه وحتى لا يطغى جانبه الآخر فيكون الهلاك المحتوم !، وهذا الفارق الزمني  قد خالف قاعدته في الحياة، لكن بقيت سحر كلماتها وأسلوبها وثقافتها ، التى سبقت عمرها الزمني دليل لإقناع عقله بان لكل قاعدة شواذها ، فكان قبوله لها بهذه المنطقية ، ولنقل انه استثناء للقاعدة التى ستخضع للتجربة والبرهان لاحقا ، فها هو قد سمح لذاته بان يتخطى خطوطه الحمراء التى رسمها لنفسه بناء على تجاربه السابقة، ودرايته الكافية لمثل تلك العلاقات الإنسانية ، لكنه على يقين واطمئنان وبثقة عالية من ذاته بان خبراته  في الحياة الحافلة ستلجم انفلات عقال الحصان من ثورته وجموحه ، فلن يعدو مسرعا نحو خط الأفق البعيد ، لأنه خط وهمي لا يصل بالإنسان إلى بر الأمان في أكثر الأوقات ،بغير بوصله تهديه إلى شاطئ الأمان الذي يبحث عنه وهذه البوصلة هي تلك العاطفة الصادقة المتوهجة في قلب ينبض من أجل الحياة ، بلا قيود زمنية وبلا اعتبارات أخرى مقيدة !.

هكذا بدأ يدور الحديث بينهما في أعماق سكون الليل حتى تسلل خيوط الفجر الأولى إلى نافذته ، ليكتشف اقترابها أكثر فأكثر من ثقافته وتفهمها لشخصيته بدقة متناهية ، بطريقة تركت في قلبه سعادة غامرة ، فشعر بأنه قد وجد ما يبحث عنه  والذي سيغير من حياته الشيء الكثير.. كانت قريبة من الأشياء التى يحبها في جانبه الآخر الدفين بذكرياته الزاخرة والتي عجنت من شخصيته إنسان من نوع فريد حيث يربط جانبي قلبه برابط وثيق غير منفصم أو منفصل ، يؤثر كل منهما ويتأثر بالآخر في انسجام تام يطفئ عليه نوع من تميز عن الآخرين والذي يخفيه عن العامة في بيئة وثقافة مختلفة يعيشها، فلن يكون سهلا تقبلها أو إدراكها إلا لمن يقترب منه كثيرا ويفهم حقيقته الطيبة المتسامحة، والرومانسية العاشقة للقيم الإنسانية الجميلة ، والأحاسيس الصادقة المتفتحة كورد جوري يبث شذاه وعبق الجوى السابح في أعماق قلبه .

مر وقت قليل حتى كشفت ( سناء ) عن عينيها الخضراء بلون الأشجار، لتلون حكاية أخرى جديدة فريدة في سفر ارث إنساني متدفق ، ما يزال جاثما في ذاك الجانب المتوهج من قلب (أحمد) ، فهل تُضاف إلى أرشيفه الكامن في أعماق تلابيب قلبه النابض بقيم الحب والخير والحق والجمال ،  أم أنها ستكون بداية لقصة لم تبدأ فصولها بعد.!!

إلى اللقاء.