كاتب مشهور
شيماء محمد توفيق الحداد
(1)
وقفَ أمامهُ مرتبكاً، نظراتهُ الحادَّةُ الَّتي يصعِّدها فيهِ تكادُ تنفذُ إلى أعماقهِ مخترقةً حجبَ قلبهِ، ممَّا جعلهُ أكثرَ ارتباكاً وَأشدَّ حرجاً، صوتُهُ المخنوقُ لا ينوي العودةَ حاليّاً، وَتمكُّنُهُ اللَّغويُّ لا يسعفهُ بكلمةٍِ واحدةٍ، فحاولَ أنْ يداري وضعَهُ ذاكَ بأنْ عدَّلَ منْ وضعِ ياقتهِ مراراً وَازدردَ ريقَهُ بصعوبةٍ، وَزحفتْ أناملُهُ تضغطُ بمنديلٍ أبيضَ صغيرٍ على حبَّاتِ العرقِ الَّتي أخذتْ تتقاطرُ منهُ، وَتمنَّى منْ أعماقهِ أنْ ينتهيَ الأمرُ بسرعةٍ، لكن يبدو أنَّ للسَّيِّدِ الكبيرِ رأياً آخرَ!!.. فقدْ تربَّعَ في مجلسهِ, وَأشعلَ سيجارَهُ الأجنبيَّ الضَّخمَ وَأخذَ ينفثُ دخانَهُ ببرودٍ غيرَ عابئٍ بالمسكينِ الواقفِ أمامهُ المنتظرِ للبدءِ بالموضوعِ الَّذي ـ لأجلهِ ـ اُستُدعيَ منْ عملهِ البسيطِ كصحفيٍّ صغيرٍ في جريدةٍ محلِّيَّةٍ منَ الدَّرجةِ الثَّالثةِ..
كانتِ الغرفةُ مستطيلةَ الشَّكلِ ذات سجَّادٍ بنيٍّ داكنٍ، يتصدَّرُها مكتبٌ خلفهُ كرسيٌّ منَ النَّوعِ الفاخرِ، وَأمامهُ كرسيَّانِ لاستقبالِ الضُّيوفِ، وَعلى يسارِ المكتبِ وُضِعتْ مكتبةٌ كبيرةٌ حوتْ بعضَ الكتبِ.. وَأخيراً عدَّلَ السَّيِّدُ المحترَمُ منْ جلستهِ وَقالَ بلهجةٍ فيها شيءٌ منَ التَّعالي:
ـ تفضَّلْ بالجلوسِ يا سيِّد حسام..
جلسَ السَّيِّدُ حسام وَلمَّا يزايلهُ ارتباكُهُ، كانَ الكرسيُّ مريحاً كأنَّما حُشِيَ بريشِ النَّعامِ, وَتساءلَ حسام ـ في سرِّهِ ـ عنِ الطَّريقةِ المثلى للجلوسِ على الكرسيِّ دونَ إثارةِ إزعاجهِ!!، لكنَّ السَّيِّدَ لمْ يمهلْهُ فقدْ بدأَ الكلامَ على عجلٍ قائلاً ـ بعدَ أسئلةٍ سريعةٍ عنِ الأهلِ وَالأولادِ ـ:
ـ اسمعْ يا سيِّد حسام، لقدْ سمعتُ عنكَ وَعنْ كفاءتكَ في العملِ وَمهارتكَ في الكتابةِ الشَّيءَ الكثيرَ، وَلا أكتمكَ فقدْ أُعجِبْتُ كثيراً بما سمعتُ، وَأظنُّكَ أكثرَ منْ ذلكَ..
ابتسمَ حسام خجلاً، وَتململَ في مقعدهِ ارتباكاً، وَتمتمَ قائلاً وَقدِ احمرَّ وجهُهُ:
ـ العفو..
ابتسمَ السَّـيِّدُ ثمَّ تابعَ قائلاً وَهوَ يمسكُ بعضَ أعدادٍ منَ الجريدةِ:
ـ إنَّ موضوعاتِكَ تحظى بإعجابِ النَّاسِ؛ حياةٌ أسمى، منْ عدالةِ عمر, صورٌ منْ واقعِ الحياةِ، الطًّريقُ المسدودُ، إنَّها مقالاتٌ رائعةٌ حقّـاً..
ـ .............
وضعَ السَّيِّدُ ساقاً فوقَ أخرى وَحنى ظهرَهُ متقدِّماً نحوَ ضيفهِ وَقالَ جادّاً:
ـ لذلكَ وقعَ اختياري عليكَ أنتَ بالذَّاتِ لأعهدَ إليكَ بما لمْ أعهدْ بهِ إلى غيرِكَ..
هتفَ حسام على الفورِ:
ـ تفضَّلْ سيِّدي..
عادَ السَّيِّدُ إلى جلستهِ السَّابقةِ وَتنحنحَ بثقةٍ وَقالَ بكبرياءٍ:
ـ أريدكَ أنْ تدبجَ لي مقالاً عنِ الحركةِ التَّعليميَّةِ في البلادِ، وَكما ترى فالموضوعُ حيويٌّ جدّاً وَمهمٌّ أيضاً..
قالَ الجملةَ الأخيرةَ وَهوَ يبسطُ يديهِ، فكَّـرَ حسام قليلاً ثمَّ قالَ:
ـ أنا بالخدمةِ سيِّدي..
ابتسمَ السَّيِّدُ وَقالَ:
ـ هذا ما توقَّعتُهُ..
لكنَّهُ استدركَ قائلاً بجدٍّ:
ـ أريدهُ مقالاً رائعاً بكلِّ معنى الكلمةِ يا ولدي، وَلا تنسَ تسليمَهُ لي في بحر ِثلاثةِ أيَّامٍ على الأكثرِ..
ـ إنْ شاءَ اللهُ تعالى..
وَمضى خارجاً وَتنفَّسَ الصُّعَداءَ.
كانَ حسام كاتباً مغموراً، لمْ يأبهْ أحدٌ بموهبتهِ الفذَّةِ أوْ يُولها الاهتمامَ الَّذي تستحقُّهُ، وَها هوَ ذا المجدُ يبتسمُ لهُ أخيراً، فلماذا لا يغتنمُ الفرصةَ وَيطرقُ بابَ الشُّهرةِ بإصرارٍ؟!.. إنَّهُ جديرٌ بذلكَ دونَ شكٍّ, وَمنْ يدري فقدْ يغدو يوماً ما في عدادِ الكتَّابِ المشاهيرِ على يدِ ذلكَ السَّيِّدِ الكبيرِ، فلْيسرعْ إذاً في كتابةِ ما طلبهُ.. أغذَّ السَّيرَ نحوَ منزلهِ ليعدَّ كلماتِ المقالِ الجديدِ وَيُحكِمَ سبكَها..
******
(2)
ارتجفتْ يداهُ غضباً وَهوَ يقرأُ في الجريدةِ، وَتوتَّرتْ نفسُهُ بغيظٍ وَارتجفَ شاربُهُ بانفعالٍ؛ إنَّهُ مقالُهُ.. مقالُهُ الرَّائعُ، الحيويُّ الجميلُ، الَّذي تعبَ في إخراجهِ وَإعدادهِ حتًَّى غدا يانعاً هكذا, مقالُهُ الَّذي يعالجُ قضيَّةً مهمَّةً, مقالُهُ.. الممهورُ باسمِ السَّيِّدِ الكبيرِ ذي النُّفوذِ الواسعِ!!..
تذكَّرَ سرورَهُ عندما سلَّمهُ المقالَ وَكيفَ تطلَّقَ وجهُهُ فرحاً وَأثنى عليهِ قائلاً:
- عظيم يا سيِّد حسام.. عظيم..
يومها خرجَ حسام منْ عندهِ وَالدُّنيا لا تكادُ تسعهُ منْ شدَّةِ الفرحِ، أتراهُ خُدِعَ بمسعولِ الكلامِ؟!.. أمْ أنَّهُ كانَ ساذَجاً جدّاً عندما ظنَّ أنَّ المقالَ سيُنشَرُ باسمهِ؟!.. وَصعدَ الدَّمُ الحارُّ إلى وجههِ وَغلتْ مراجلُ الغضبِ في نفسهِ وَاستعرَ أوارُ النَّقمةِ في داخلهِ، وَذهبَ سريعاً ميمِّماً وجهَهُ شطرَ منزلِ السَّيِّدِ..
وَاستقبلهُ السَّيِّدُ بحفاوةٍ كبيرةٍ وَرأى ظلالَ الغضبِ على وجههِ فابتدرهُ متجاهلاً:
- ما بكَ يا سيِّد حسام؟..
هتفَ حسام بحدَّةٍ وَدونَ تحفُّظٍ:
- لقدْ خدعتني يا سيِّدي!..
سألهُ بدهشةٍ كاذبةٍ ذاتِ براءةٍ مصطَنعةٍ:
- خدعتُك؟..
- نعم.. انظرْ!..
وَسلَّمهُ الصَّحيفةَ، فعدَّلَ السَّيِّدُ وضعَ نظَّارتهِ وَقرأَ اسمَهُ في ذيلِ المقالِ وَسرعانَ ما انفجرَ ضاحكاً، وَربَّتَ على كتفِ حسام بودٍّ قائلاً:
- لا تغضبْ يا سيِّد حسام.. هوِّنْ عليكَ.. المسألةُ بسيطةٌ وَتحدثُ دائماً في أيِّ مكانٍ..
وَدسَّ يدَهُ في جيبهِ ثمَّ أخرجَ ورقةً ماليَّةً كبيرةً أعطاهُ إياها، وَقالَ باسماً:
- أنا أحبُّ أصحابَ المواهبِ وَأحترمُهمْ..
وَنظرَ حسام إليهِ بتمعُّنٍ؛ الوجهُ النَّاعمُ المترَفُ المصقولُ، وَالثِّيابُ الفاخرةُ الثَّمينةُ، وَالجسدُ البدينُ المترهِّلُ، وَذلكَ السِّيجارُ الضَّخمُ الَّذي لا يفارقُ زاويةَ فمهِ، وَتلكَ النَّظرةُ الخبيثةُ المسدَّدةُ نحوهُ وَكأنًَّها تقولُ: سيكونُ هذا الرَّجلُ منْ ضحايايَ!، وَالمالُ الَّذي يريدُ أنْ يسرقَ بهِ مجداً لا يستحقُّهُ وَضمائرَ وَنفوساً يعبثُ بها وَمواهبَ وَقدراتٍ يحطِّمها، وَابتساماتٌ خادعةٌ يستغلُّ بها طيبةَ القلبِ وَقسوةَ الحياةِ. لا شيءَ فيهِ تغيَّرَ؛ لا أثرَ لأسفٍ أو لمحةً لندمٍ، لا تفكيرَ بتوبةٍ أوْ تحمُّسَ لإعادةِ حقٍّ ضائعٍ أشرفَ بنفسهِ على استلابهِ. وَإذ ألفى حسام نفسَهُ تزدادُ ضيقاً وَاختناقاً فأزمعَ الخروجَ وَهوَ يردَّ في سرِّهِ حانقاً:
- بلْ تحبُّ خداعَهمْ وَالتَّغريرَ بهمْ!!..
وَمضى حسام في طريقهِ وَأشياء كثيرةٌ تتهدَّمُ في داخلهِ.. لا وفاءَ في هذهِ الدُّنيا وَلا حبَّ وَلا تعاونَ ما دامتْ ترزحُ في قيدِ الظُّلمِ، وَصمَّمَ على ألَّا يثقَ بأحدٍ أيّاً كانَ وَمهما كانَ، لكنَّ إشراقةَ تفاؤلٍ غمرتْ نفسَهُ فقالَ:
- وَلكنْ لمَ التَّشاؤمُ؟! لا بدَّ منْ وجودِ أناسٍ يقدِّرونَ الموهبةَ وَلا يغمطونَ صاحبَها حقَّهُ، المهمُّ أنْ أستفيدَ منْ الخطأِ وَلا أكرِّرَهُ أبداً..
وَفي طريقهِ إلى منزلهِ، كانَ يسمعُ كلماتِ الثَّناءِ وَالإعجابِ على مقالهِ وَهي تُكالُ للكاتبِ المزيَّفِ السَّيِّدِ الكبيرِ صاحبِ العقلِ الوضَّاءِ المستنيرِ، الَّذي يفكِّرُ في تطويرِ المجتمعِ وَالنُّهوضِ بناسهِ، فابتسمَ حسام ساخراً وَمضى وَهوَ يستشعرُ حرقةَ المرارةِ وَألمَ الظُّلمِ؛ حيثُ يحصلُ السَّيِّدُ على المدحِ وَتبقى للكاتبِ المجهولِ فرحةُ قراءةِ النَّاسِ لمقالهِ وَمحاولتهمُ التَّغييرَ بناءً على كلامهِ!!..