نضال 23
أحمد ناصر نور الدين
ضغطت زر شاشة الكمبيوتر فشعت بضياء فضي، ولبثت تنتظر الجهاز كي يتم عميلة الإقلاع. في نفس التوقيت، تقريبا، من كل ليلة تهرب من عالمها وتلوذ بعوالم الإنترنت، هذا الكون الجديد الذي يؤمن لها نسيانا، ولو مؤقتا، وإبحارا طويلا في أجواء باهرة من اللون والكلمة الرقميين.
عندما دخلت الى بريدها الإلكتروني وجددت في انتظارها خمسة عشرة رسالة غير مقروءة، وخفق قلبها سرورا عندما قرأت من بين القائمة إسمه:"نضال23"
يبعث لها كل حين برسالة حب وإعجاب، ويحدثها بأحاديث كثيرة شد ما تخفف ما تراكم على قلبها من أثقال الملل والوحدة. وقد طلب اليها ذات رسالة أن تلقاه! وكأنها سمعت قلبها يئن بألم مفاجأ، وتمنت لو كان بإمكانها أن تلقاه. لكن كيف لها ذلك؟ وفي جوابها له أهملت طلب اللقاء وتجاهلته، بعثت اليه بكلام تتمنى أن تقوله لأحد، مجرد أحد يسمعه، أو يقرأه. ونضال23 يستمع لها منذ مدة، يسمع ويُسمِعُها، ويتبادلان كلاما لا ينضب معينه.
في رسالة قال لها:
...أتمنى أن تبعثي لي بصورتك. أشتهي أن أتأملها كل يوم، كل ليلة قبل أن أغفو، فأواصل التفكير فيك حتى في منامي...
ويخفق قلبها بسرور سحري. تبعث له في رسالة:
...هذه صورتي. كما تمنيت. وعشمي بك أن تحفظها وتداريها، كما لو أنها أنا.
وتحدق هي بالصورة قبل أن تبعث بالرسالة، تحدق بها طويلا، ثم لا تملك أن تطلق ضحكة. تضحك وتضحك..
ساعات الليل طويلة. وقد قال لها مرة:
...لو جمع بيننا ليل، لما عدت تمقتين طول الليالي، سيصبح الليل في نظرك متعة غالية لا نهاية لها، ستشعرين بالسعادة كلما هل الليل فكأنه الشمس الحامية في يوم الصقيع...
ومدفوعة بغريزة جميلة تبعث إليه قائلة:
...طالما كان الليل مرتعا لوحشتي وتعاستي. فما عساه يغير وجودك من مرارة الوحشة والتعاسة...
وفي رسالة يجيبها:
... ألا تعرفين أن الحب بحرارته وطاقته يكشح ظلام الليل ويطرد كل أشباح الوحدة والوحشة؟...
الحب. كم تتمنى أن تعيش الحب. كم تتوق روحها الى حب عارم يكتسح كيانها ويهيم بها في عوالم من النشوة والعاطفة. وتتأمل حالها في كثير من الألم، ويحتز قلبها شعور قاهر بالضعف والعجز والوضاعة، تتمنى لو أنها تموت، ويتلوى في قلبها سؤال ينكل بها: " هل أخدعه يا ترى؟ هل أجعله يعيش في عالم من الوهم الخالص، ولعله يخاله حقيقة من الواقع؟" ولكنها تعود لتقول لنفسها بأنها لم تبتغي من ذلك كله الإ الوهم، فليس يلائمها اليوم الإ الوهم بلذته السريعة وبريقه الخاطف، وهكذا يكون الحساب عادلا، لم تطلب منه الإ الوهم وقد حصلت عليه، وفي المقابل منحته وهما، ولعلها أطلعته على أوهام من نفسها الموبوءة بكآبة طويلة عميقة.
كاشفته ذات رسالة بموضوع الكآبة فرد عليها برسالة قائلا:
...نحن نعيش في عصر الكآبة. من منا لا يعاني الكآبة بصورة أو بأخرى؟ هذا عصر الأوجاع والقهر والجوع والعزوبية والعنوسة والحروب والقتل والدمار ووووو...
وطالت قائمته فأفعمتها كآبة وزادتها غما على غم. وكأنه استشعر آثار رسالته وأذاها فبعث إليها يقول موضحا:
...لم أقصد إلا أن أقول لك بأنه ليس عليك أن تكتأبي لأنك لست الوحيدة في صحراء الكآبة، فكل الناس مكتأبون، وعندما تعم الكآبة لا تصبح كآبة على الإطلاق، بل تصبح عادة، والعادة لا تحزن ولا وتحبط، لأنها الطبيعي المعتاد...
وجلست صامتة تتأمل كلماته وتعجب. تعجب لقدرته على التلاعب بالكلمات، كيف يسلب الكلمة روحها ويحشوها بروح جديدة، يغير معناها، يلوي خطوط الكلام ويرسم طرقا جديدة. "الكآبة عندما تعم لا تصبح كآبة" ما أجمل أحكامه، فهي على تسرعها وتجرئها، بديعة، باهرة، وتمدها بأمل، بذلك الأمل الوهمي، فهي لا تنسى أن كل شيء في هذه اللعبة وهم. ترتاح الى تسمية "اللعبة" لأنها تحمل نقيضين إثنين: الربح والخسارة. وهكذا تضمن لنفسها نهاية آمنة. إن خسرت فلن تخسر شيئا لأنها لا تملك ما تخسره، أما إذا ربحت فإنها ستفرح فرحة وهمية بربح وهمي تأتى لها عن طريق الوهم. وترتسم على شفتيها إبتسامة الإعجاب برجاحة أفكارها وسلامتها. وتقول لنفسها ردا على تساؤلاتها المستمرة:" هكذا تكون اللعبة عادلة ومرضية للطرفين، أخذت منه الوهم ومنحته وهما من أوهامي، ولست بحال من الأحوال مسؤولة عن تماديه في اللعبة الى حد التصديق واذا ما طلب مني المزيد، فلست أستطيع إلا أن أمده بمزيد من الوهم" وشعرت بأن حياتها منذ البداية لم تكن إلا وهما من الأوهام.
أوليست تدين بوجودها في هذا العالم الى كأس من الخمر تجرعها ذلك السكير في ليلة فأماجت الأشياء والألوان في بصره الزائغ وصورت له قبح تلك الخادم جمالا لا يقاوم، وفتنة لا حدود لسطوتها..؟ بلى، وليست بكل ما كان في حياتها وما سيكون إلا عصارة لزجة كريهة للعنة قديمة من الوهم الملطخ بالقذارة. وتبتسم ابتسامة مريرة لا تشبه الإبتسام في شيء.. وقد ملت التنهد بعد أن أصمها خرس الحيطان وجثم على صدرها مارد من الوحشة القاتلة.
يقول لها في إحدى رسائله:
... لست وحدك من يعاني الجراح، فلي كذلك جراحي وآلامي. فلم لا نجمع جراحنا ونوحد آلامانا، علنا في ذلك نكتسب قوة وإرادة عز وجودهما. تعالي ننطلق معا، نهجر وكر المواجع ونمضي في سبيل جديد يفتح لنا آفاق المغامرة والحياة.. فها هنا لم يعد ثمة حياة على الإطلاق، والشاطر من يعرف كيف يغتنم الفرصة المؤاتية ليفر الى حيث الحياة الحقة، أو على الأقل حيث ثمة أمل بحياة أفضل...
هنا تأملت كلامه طويلا، وبكت. بكت بكل ما أوتيت من حزن، ورشفت قهوتها المرة، الحالكة كنهارها. وسألت نفسها ربما مدفوعة بدافع العبث:
- ترى ما حدا به الى قول ذلك الكلام؟ هل هو حزين مثلي؟ أم تراه كلام مراهق يتوهم مرض العشق؟
انثالت على ذهنها المزيد من التساؤلات وبعضها عبثي لا يبعث إلا على العذاب. وفي حياتها اليومية استجدت تفاصيل جلبت عليها مزيدا من الضيق وساهمت في اشتداد وطئة اليأس الخانق، فقررت أن تضع حدا لهذه المراسلات التي باتت تنكئ فيها جراحا كانت أقسمت على دفنها الى الأبد.
بعثت إليه تقول:
... لقد كان حوارا جميلا ذاك الذي دار بيننا، لكن أخشى أن كل شيء سينتهي عند هذا الحد...
وقررت أنها لن تقرأ له إلا رسالة واحدة ستكون بمثابة حقه في توديعها. وقال لها:
... لذلك أرجو عليك أن لا تنقطعي عني بشكل مطلق، لا ترسلي الي كل ليلة اذا كان في ذلك راحة لك، وسأقلل من رسائلي كذلك، لكن القطيعة المطلقة ليست ضرورية وليست في صالحنا نحن الإثنين، أنا أحتاجك، أحتاجك كثيرا...
وعندما وصلت الى خاتمة رسالته كانت قد تحركت في صدرها مشاعر لم تفطن الى معانيها، وبرز من ضمنها شعور بالوهن والتردد.. وفي ليلة مظلمة زارها البكاء زيارة طويلة.. متى كانت حاسمة في قراراتها؟ بل متى كان في حياتها قرارات تتخذها بإرادة حرة؟ ألم تفرض عليها الظروف ما تمقت نفسها أشد المقت فتجرعته بتصبر وحلم لا حدود لهما؟ ولكم تبدو لها المسألة صعبة، إن نوعا من الإدمان قد شب في داخلها وتملك عواطفها في الفترة الأخيرة، لقد أقرت في ذاتها أنها أصبحت مدمنة على مراسلته، وكأن رسائله باتت نوعا من المصل الذي يمدها بطاقة إضافية لتواصل ما يشبه الحياة التي لعل أحدا يعتقد أنها تحياها.. وقد فكرت في التخلص من الحاسوب كله، وحسنين البواب يكون أكثر من شاكر لها في حال نفحته به.. هذا هو، سيذهب الحاسوب مع حسنين البواب وبذهابه يذهب كل شيء، وتنهي عذابا متأصلا بدأ يتخذ لنفسه أشكالا وتفاصيلا، متحينا الفرصة ليستحكم عواطفها ودقائق يومها.
لا، هذه المرة لن يطول العذاب.
وقررت في اليوم التالي بتصميم بعيد أن لا تسمح لنضال23 أن يسيطر عليها، أن يتحكم بحياتها وإن لم تكن تستحق التسمية، لن تفسح له المجال كي يعبث بها وبمشاعرها، هي التي رسمت حدود اللعبة منذ البداية وآمنت بأنها لا تعدو حدود الوهم. ولذلك فلن تسمح له بأن يتمادى في رسائله ولن تقرأ له أكثر من رسالة واحدة في الليلة الواحدة!.. مجرد رسالة لا غير.. تسكن بها مواطن الألم وتفر، ولو إلى حين، من عالمها الأخرس الموحش، الى فضاء ينطق بالحياة، بالتساؤلات، والتأملات.. إسمعني يا نضال جيدا.. لن أسمح لك بأن تمطرني برسائلك العبثية تلك.. لن أقرأ لك بعد اليوم ولو دكت السماء رأسي.. كنت مريضة بك وسأشفى من الإدمان...
وقرأت رسالته الأخيرة بكثير من العجب والدهشة:
...أنا الآن مشغول، وإن فترة المراهقة قد مضت وانقضت، التفتي الى حياتك أفضل، أمامك مستقبل وأنت شابة جميلة وواعدة، وتذكري دائما أنك تعرفت على فارس يدعى نضال، قضيت معه أوقاتا جميلة، هائمة في سماء من الحلم الصافي والأمل، ولربما نجتمع ذات يوم في مكان ما، فيطلع كل واحد منا الآخر على تفاصيل تجربته في الحياة..
الى حين اللقاء، الذي قد يحصل في يوم من الأيام، لك مني أجمل تحية، وأمنية صادقة بالسعادة والنجاح..
نضال23"
إنتهت الرسالة.
وتحسست صفحة وجهها بأناملها، مستشعرة خشونة منفرة تنطق بما خلفه في وجهها حريق قديم شب في إحدى الحانات..