لقاء في حديقة الشعب
ربحان رمضان
كاتب وناشط سياسي
َجلست بجانبه على الكرسي في الحديقة العامة المسماة بحديقة الشعب ..Volks Garten) ) .. لم يلتفت إليها طيلة النصف ساعة التي مضت وهما ينظران إلى وردة تشبه وردة جورية كانت تتوسط أرض بيته في الوطن .. سمعها تنادي حفيدتها ميمي فالتفت ..
بحلق فيها ، بحلقت فيه .. ضحكا ، ثم مالبثت ان " بوزمت " عقدت حاجباها وصاحت بوجهه : " كم أنت قبيح " إنك سئ يامامد ..
أهكذا يعامل المحب حبيبه ؟!!
وتتركني كل هذه السنين وحدي ..!!
ابنتك كلوديا أصبحت في العشرين من العمر ، تسكن معي ومعها صديقها..
وابنك يامامد ترك المدينة ليقيم في ضاحية Bden القريبة من العاصمة ..
هل تذكر تلك المرأة ؟
أية امرأة ، يا امرأة ؟
تلك التي كانت تأخذ بيد خالتها العجوز وتذهبان يوميا إلى الكنيسة المواجهة لمزلنا القديم .. لقد ماتت .
قتلها زوجها لأنها ورطته بقروض مالية لم يسطع تسديدها لا نقدا ولا بالتقسيط ، تخلص منها ويعيش الآن في السجن .
أين كنت ؟ هل لك أن تخبرني بصراحة ؟
- لقد ضاقت الدنيا بي بعد أن تركتموني وحيدا ً ، عملت في الأعمال الحرة ، فتحت مطعما صغيرا ً فيه طاولة واحدة .. صدقيني كان العمل يأخذ كل وقتي .. طيلة النهار وأنا أعمل .. لكن العائدات المالية كانت تذهب فورا تسديدا ً لأقساط أدوات الطبخ ، ولوازم العمل ..
لقد اعتمدت على الزبائن المحترمين ، كلهم كانوا من أهل البلد ، ذلك أفضل لأن جماعتنا يريدوا تضييع الوقت ـ يريدوا أن يأكلوا ويشربوا بدون أن يدفعوا ثمن أكلهم ..
تعبت من العمل ، وانقطعت عن ناسي .. كنت أقعد في (الكشك) منذ الصباح حتى المساء ، وفي النتيجة لا شئ .. لاشئ البتة ..
ارتأيت في النهاية أن أحصل على التقاعد رغم أن عمري لايؤهلني لذلك فالتقاعد يبدأ في سن الخمس والستين من العمر ، ولكن يمكن للشخص الحصول على تقاعد مبكر إذا كان مرسضا بعلة يصعب شفائها .. فتظاهرت بالجنون فصرت أرتاد الطبيب النفساني باستمرار .. ومن شدة لؤم الطبيب المعالج فقد حولني إلى مشفى الأمراض العقلية في المدينة ، رموني فيها رمي الكلاب .. ستة أشهر دون سؤال أو جواب ، فقط حبوب مهدئة وأدوية أخرى حتى أني أصبحت مدمنا في تعاطي الحبوب المنومة ، وأصبحت في كل الحالات عاطلا ً عن العمل لأنه لم يعد يوظفني أحد وأنا في هذه الحالة .
في نهاية السنة الأولى من وجودي في المشفى جاءني الطبيب ليفحصني ومعه ممرضتان ، وممرض ليكتم أنفاسي لو تماديت على الطبيب ..
قال لي :
- أغمض عينيك ، فأغمضتهما !!
- مد يديك إلى الأمام .. فمددتهما ..
- والآن ، ضع سبابتك ليدك اليمنى على أنفك .
فوضعت اصبعي ليدي اليسرى على اذني ..
قال لي : ممتاز .
- ثم تابع : ضع سبابتك ليدك اليسرى على عينك ، فوضعت سبابة يدي اليمنى على انفي .
- قال وبحرارة :ممتاز .
ثم تابع : ضع سبابتك ليدك اليسرى أيضا على فمك ، فوضعتها على عيني .
قال لي وبحرارة : " ممتاز " .
قلت له : بغضب : مالممتاز في ذلك يا دكتور؟
قال لي : شكرا ً لله أنك تعرف أين رأسك .
ورد في تقريره الطبي المقدم إلى اللجنة المختصة جملة يقول فيها : ونتيجة لإجراء عدة فحوص طبية إستنتجنا نحن الطبيب المشرف على علاج السيد مامد بأنه في وضع صحي ممتاز يؤهله للمباشرة في العمل .
سألته زوجته : وهل حصلت على عمل فيما بعد ؟
- وجدت الكثير من الأعمال لكن لم يقبلني أحد للعمل لديه .
فأنا مجنون .. أنا بحاجة إليك .. أحبك ..
أنا بحاجة لقلبك الحنون .
انتفضت زوجه .. التفتت إلى الوردة ، تمتمت :
لا خير فيك وأنت عاقل ..
أخذت بيد ميمي حفيدتها ، ابتعدت وتابعت :
ماذا أفعل بك وأنت مجنون !! .