ثَكْلاء.. صَوتُ الكُهولةِ المُنْهدِمْ

ماجد بن سليمان

[email protected]

في ليلةٍ حالكة الظلام، مدهونٌ سكونها برائحة الخوف، تجلس من نومها (ثكلاء)، تلك العجوز الثمانينيّة، التي أثقلتها السنون، وألجمها الهَرَمُ بلا رحمة، تنظر في غرفتها الهزيلة، التي لا يوجد فيها إلا فُتَاتٌ من ذكريات زوجها الذي فارقها، وهي في عامها الخمسين، إثر مرضٍ عُضَالٍ خطفه الموت بعدها من بين يديها، وهي أمٌ لطفلين، كانا في عامهما العشرين، وهي الآن تمشط جديلة الحزن والحنين في كل أرجاء هذه الغرفة.

  نظرت إلى دالوبها المهشَّم، الذي ما زال فستان فرحها بليلة زواجها مُعَلَّقَاً داخله، وقد فُتِقَ من كل زاوية.

  وهناك أدراجها التي ضَمَّت عُلَبَ مكياجها الذي كان هدية من هدايا زوجها المُتَوَفَّى.

 وفي الجهة المقابة لها ما زالت مكتبة زوجها الغابرة التي لم يقربها أحدٌ بعد وفاته، سوى عيناها، تتذكره عندما كان لا يفارق هذه الكتب والأوراق، وَطَالَما حَدَّثها عن ما في بطن هذه المكتبة من العلوم والمعرفة.

 التفتت يميناً، ومَرَّرَت نظرها المنهك إلى نافذة الغرفة، لتعزّي تلك القمريَّة التي اصطاد الصياديون ذكرها قبل أسابيع، وتنظر إليها ساكنة في عشّها المشتت، وأخذت تُحَدِّثُ نفسها قائلةً:

-  هذه القمرية، حَرْبَةُ الفِراق زُجَّت في ضلوعها وآذتها كما آذتني، لا عَجَب في هذه الدنيا، فكم قَطَفَت من أحبَّة، فأنا منذ ثلاثين عاماً أصحوا في مثل هذه الساعة، لأرمُقَ المكان، وأعاتب الزمان، وأصَطلي على نار الألم، فرحماك يا رب العالمين.

 عَادَت لنومها مغطيِّتاً رأسها بلحافها المهترئ الذي لم يبق فيه من رائحة زوجها سوى القليل، الذي تُسَيّر به ركب أيامها الباقية لها في هذه الحياة، تاركةً في جفنها الثقيل، دمعةً موعدها كل ليلةٍ تبيت في أروقة عينها المفارقة.