أحزان مسعود الشّقيّ

ميزوني محمد البنّاني

أحزان مسعود الشّقيّ

ميزوني محمد البنّاني

[email protected]

كأمس ، و كالعام الفارط ، و ككلّ الأعوام الفانية ، جلس الرّجل وراء منضدة استقبال الحرفاء الزّرقاء على كرسيّ عجوز ، غير أن كيفيّة جلوسه هذه المرّة ، تختلف كلّ الاختلاف عن سابقاتها

 فما كان مسعود الشقيّ كعادته يطارد بعينيه المتعبتين الغادي و الرائح ، متمنّيا على الأقدار أن تسوق إلى دكاّنه الصغير حريفا محترما لا يرجئ الدّفع إلى موفى الشهر ...

 و ما كان يتصفح دفتر الديون متبرّما من أسماء كثيرة لم تسدّد له ما عليها من ديون شهور و شهور.

 و ما كان يرمق رفوف الدكان القليلة فيمنيّها بسلع كثيرة متى رجع ابنه من وراء البحار بمبلغ ماليّ هامّ.

 و ما كان يرمّم حلمه القديم ضدّ هجمات يأس جائرة تشتدّ كلّما اختلى به العقل.

 و ما كان . و ما كان .. بل كانت رأسه المتعبة مرتخية على وجه المنضدة الزّرقاء، فيما كانت قبضتاه تنامان قرب وجهه، وبداخل كلّ واحدة أعقاب ورقة تحمل حروفا كبيرة خطّت برداءة.

 في ذلك المساء الفارق ، قال البعض بتشفّ عند رأسه :

 " و أخيرا استجابت لك الأقدار يا مسعود ، فأرسلت إليك زبونا لا كالزّبائن . زبون محترم ، لا يؤجّل الدّفع زبون اشترى منك كلّ ما تبقى في رفوف دكاّنك و رفوف قلبك من روح شقية و مضى .."

 و تهامس آخرون يعجّ دفتر الدّيون بأسمائهم :

 "... نم هانئا، فلقد جاءك من كفك عن طرق أبوابنا صباح مساء "

 و أخذ أحد الشبّان يفلسف الأمر في سرّه فاعتبر أنّ العطّار لم يمت اليوم، بل كان ميّتا منذ أن دفن ابنه قبل سنتين.

 أمّا البنت سعديّة، فلقد رفعت رأس أبيها، و حدّقت في وجهه، فإذا بعينيه المغمضتين موغلتين في سكون طويل كأنّه نائم منذ الأمس، و إذا بعلامات الفجع والأسى مرسومة بوضوح على وجهه الشقي، فبدا كأنّه ينتحب، و يتوجّع في صمت داخل قامته الطّويلة

 في ذلك المساء الثقيل، وقع بصرها الزاّئغ على أعقاب تلك الورقة، فاستلّتها بحركة مجنونة، ودسّتها في جيب فستانها قبل أن تتمكّن بعض نساء الحيّ من جرّها إلى خارج المحلّ.وهناك بالقرب من العتبة ، تقرفصت وراحت تولول وتقول :

"ويحك ياسعديّة الشقيّة ! لماذا تسرّعت ؟ مازال في عمره بقيّة . آه !ليتك انتظرت سنة أخرى أوأكثر !"

 و كانت يداها في الأثناء تنتفان شعر رأسها و تسلمانه خصلات خصلات إلى أكفّ الهواء لتتلاعب بها فوق سماءالحيّ . لكنّ الإغماء سريعا ما أسعفها ، فتمدّدت على الأرض بلا حراك ، سامحة لعشرات العيون النّهمة بأن تحطّ على فخذيها المكتنزين و قد انحسر عنهما فستانها المورّد

 * * * *

 ليس الشّقاء غريبا عنك يا مسعود ، فلقد رضعتما ثديا واحدا ، و قمطتها بقماط واحد ، و نمتما جنبا إلى جنب في مهد واحد ، و تدثرتما في الأيّام الباردة بأسمال واحدة ، وتلقمتما الطّعام الشّحيح بيد واحدة وفم واحد ، و نطحتكما حيطان واحدة ، و تهجيتما سطور مستقبل واحد ، و أحببتما النساء بقلب واحد ، و متما في يوم واحد ، و أقبرتما في رمس واحد

 أنت الشقاء يا مسعود ، و أنت مسعود أيّها الشقاء

 سل الشّقاء، فستجده النديم الذي توارثه آباؤك و أجدادك عن آبائهم و أجدادهم.

 هو في الأصل صديق ، و لكن أمّك و أباك كرها صداقته ، فملآ البيت تمائم ، وذبحا من الطيور و القوارض ما وصفها لهما الدراويش و العرّافون ، فلم يفلح دم من دمائهما في فسخ عقد هذه الصداقة الوراثية الغريبة

 و لكي يسدّ أبوك على الشقاء طريقه إليكم، سمّى أختك سعيدة، و أخاك الحيّ سعيدا، و أخاك الذي مات سعدا، و سمّاك أنت مسعودا، و التفت بعدها إلى الشقاء يتهكم عليه قائلا:

 ".. لم يبق لك بيننا يا حبيبي مكان يليق بمقامك، للسّعادة و الشقاء طريقان لا يلتقيان."

 يومها، و لأوّل مرّة في حياته، خالف الشقاء العرف و ذلك حين ردّ على تهكم أبيك بضحكة متوحّشة تفيض سخرية وعزما على المضي ّ في التّشبّث بصحبتهما إلى آخر أطوارها. عندها فقط أدرك والداك أنّ هذا الشقاء، ما هو إلاّ صورة من صور القدر العنيد الذي ولد معهما فزاد كما زادا ، و أنّه سيظل وراءهما إلى يوم يبعثان ، فاستسلما له ، منذ ذلك الحين ، فأنسا به و أنس بهما .

 ليس الشقاء غريبا عنك يا مسعود، إنّه الخلّ، و الصّديق، و نديم الصّمت المقيت ، فهل يوجد من أخلص لك و لآبائك و أجدادك مثل إخلاصه ؟

 لم يغضب منك ، و لم ينفعل عندما تذمّرت مرّات و مرّات من جثومه على قلبك ، و سدّه لدروب الهواء و مسالك النّور في وجهك منذ سنوات، ولا لمّا سمّيت ابنك سعدا و ابنتك سعديّة ، و لا حتّى عندما فتحت دكانا صغيرا و جعلت له من الأسماء "عطّار السعادة"

 هل يعلم الشقاء أنك فعلت ذلك أيضا لتوجيه أنظار أهل الحيّ عن نعت الشقاوة التي نعتوك بها ، إلى نعوت السّعادة الباذخة ؟

 ماذا كنت تنتظر منهم و أنت تغدو و تروح بينهم ، تلفّك ستائر الصمت ، و تتلاقفك أكفّ حزن غائر في أعطاف روحك ؟

 عرفوك وجها طلاؤه طلاء سماء مربدّة، متوجّعة من كثرة ما كانت تتسلّقها من غيوم.

 عرفوك قامة طويلة تمشي على مضض، تترنّح تحت وطء أثقال مضنية.

 عرفوك و الشقاء تتمشيان أو تجلسان، واليد في اليد، و القلب على القلب ، و السيجارة نفس لك و نفس له

 عرفوك عاثر الحظ ّ، يتجنّب البخت طريقه ودروبه الوعرة.

 عرفوك ثغرا اعتزل الابتسامة، و نسي حتىّ كيفيّة رسمها على شفتيه الحزينتين.

 قالوا لك مرّات ابتسم . مّرة حين ولدت لك زوجتك بنتا سميتها "سعدية" ، و مّرة ثانية حين ولدت "سعدا" ، ومرّة ثالثة لمّا أرسلت هذا الأخير إلى بلاد الغربة للعمل لكنّ الابتسامة كانت تمكر بك كلماّ حاولت قنصها و أنت تتذكّر يدي الشقاء الطويلتين ، ووفائه التاريخي للعائلة ، و تتوجّس منه خيفة على ابنتك وولدك

 هكذا مكرت بك الابتسامة في كل ّ تلك المرّات وقد خفت على فلذتي كبدك من الأيام التي ربّما تفعل بهما ما فعلت بك منذ أن وعيت، فتنكل بهما.

 تذكر أكثر كيف خانتك شفتاك حتى في المرّة الثاّلثة.

 كان من المفروض أن تشعر بالطمأنينة وقد تمكّنت من إرسال ابنك إلى الخارج، إنقاذا له من براثن البطالة، أو أن تحسّ، على الأقلّ، بأنّ ثقلا ما كان يرهقك قد أزيح عن كاهلك، و لكن لا هذا و لا ذاك تمّ.

 أتكون يا مسعود الشقي لازلت مصلوبا بمسامير الوجع على خشبة الندامة لتفريطك في قطعة الأرض البور ؟

 و لكنك كنت مجبرا على ذلك لتوفير ثمن تذكرة سفر " سعد " !

 كنت و أنت تتسلّم من الشّاري الثمّن قد أحسست بأنك لم تبع فقط التّراب الّذي يعبق برائحة عرق أبيك المالح وأنفاسه الزّكيّة المتقطّعة من طول مصارعة الجدب الجبّار ، بل أيضا آخر ذكرى كانت تربطك بأبيك.

 كنت كثيرا ما تتساءل عن دواعي الابتسام في حياتك فلا تتجلّى لك. وكم خاطبت نفسك في ساعات الضّيق قائلا :

 علام الابتسام يا مسعود الشقي ؟

 الأرض فرّطت فيها ، و "سعد" لم توفر له ما وفر الآباء لأبنائهم

 كبر " سعد" يا "مسعود" ، فلم يجد في انتظاره إلا الخصاصة ، و الشّقاء ، و العثرات ، و الكدر و النّكد ، و كبر أترابه في الحيّ يا "مسعود" فوجدوا مفاتيح كثيرة تنتظرهم : مفاتيح السيارة ، و مفاتيح المنازل المؤثثة ، و مفاتيح العقارات و مفاتيح الانطلاق و السعادة ، و مفاتيح أخرى لا ترى .

 كبر "سعد" يا "مسعود" فوجد أبواب الحياة كلّها مغلقة في وجهه ، و كبر أترابه يا " مسعود " ليجدوا أبواب الحياة مفتوحة على مصا ريعها .

 هكذا مكرت بك الابتسامة في كل تلك المرّات ، لكنها طاوعتك لما بدأت رسائل " سعد " تتوالى عليك من بلاد الغربة لتكذّب كل توقّعاتك و تخوّفاتك ، وتعلن بدء جولة الانتصار على ضروب الشّقاء ، وتشرع في رسم الدّروب الممكنة للفرح القادم. وصار ثغرك نبعا للابتسامة عندما كتب إليك يوما يقول إنّه سيزوركم بعد أيام بكل ما ادّخر من مال طيلة ثلاث سنوات من العمل في مخبزة ذلك الإيطالي ، و إنّه حان لك أن تحقّق حلمك القديم ، فما عليك إلاّ أن تبدأ في وضع تخطيط لتطوير عطريتك ، وفسخ عقد تلك الصّداقة المنحوسة

 أياّم قليلة كانت كافية لإعداد تصميم يمتاز بالاتّساع، و يقرأ حسابا لرفوف كثيرة واسعة ، و لمنضدة خشبها رفيع و أدراجها مصونة ، وفضاء يتّسع لتحليق طيور الفرح الآتي.

 و لم تنس أبدا ابنتك سعدية ، إذ خصّصت لها في مخطّطك تصميما لمحلّ خياطة يبنى فوق "عطريتك" و يكون مجهّزا بآلة خياطة عصرية تحلّ محلّ " سنجر " آلة الخياطة القديمة .

 كان لابدّ أن تنتظر عودة " سعد " ليصبح التّصميم واقعا ملموسا. كان انتظارا جميلا داخل سرب طيور الأحلام كنت خلاله تتوعّد سرّا وعلنا صديقك الأوحد الشّقاء بالسّحق والمحو ، وتمنّي نفسك بأوفر الحظوظ وأسعدالأوقات..

 و أخيرا عاد " سعد " لكن في صندوق من الصّفيح مختوم بالشمع الأحمروسوء الطّالع .

 كشفت عن وجهه ، فوقعت عيناك على قواطعه المنغرسة بشدّة في شفته السفلى المزرورقة ، و على علامات التوجّع المرسومة على كامل وجهه ، فبدا لك ،كما لم يبد لأحد من الحاضرين ، أنّه مازال يصرخ نفس تلك الصرخة المكتومة التي لابد أنه صرخها هناك في الغربة و الرّصاصة المجنونة تخترق صدره الممتلئ شوقا إليك و إلى أمّه و أخته ، وحضرتك صورة من الصّور الممكنة ، لحظة صراعه مع الموت ،فرأيته يسقط ثم يقوم ، ثم يسقط أخيرا و يجثو على ركبتيه المرتجفتين ، و يده على صدره الملتهب ، و عيناه الكبيرتان الجبليّتان ، تحاولان عبور بحار و بحار لتلقيا بنظرة أخيرة ،و إلى الأبد ،على وجوه أحبهّا و أحبّته في البلدة ، لكنّهما لا تقعان إلآعلى أشباح مارّة يسرعون الخطى ، لا يبالون به ، فليس ابن بلدهم ، و ليس قطّا ، و ليس كلبا ، و لا سمكة ، ولا دودة ، و لا إوزّة حتى يهبّوا لمساعدته ، فليذهب إلى الجحيم هو و كلّ عربي ..

 عندها ، رحت تدفن وجهك في وجهه البارد المغترب ، قبل أن يغمى عليك إغماء لم تستفق منه إلاّ في الغد بين أيدي الأطبّاء

 كان الرّجال يريدون إقناعك بأنك لم تكن نائما ، بل كان مغمى عليك من فرط الصّدمة ، و بأنّ دفن ابنك لم يكن كابوسا ، بل واقعا شهده الجميع ، لكنّك كنت تنهرهم ، و تتوعّد كلّ من يريد تعزيتك فيه ، فشاب مثله لم يتمتّع بشبابه بعد ، ولم تضحك له الدنيا إلا أخيرا ، محال أن يموت قبل الأوان ومحال أن يغادر الدنيا و حيوات أبيه و أمّه و أخته مرتبطة بحياته ! هكذا كنت تحاول إقناعهم دون جدوى..

 و بقي " سعد " ميتا في نظر الجميع، أمّا في نظرك فلقد بقي حيّا يرزق، تتابع أخباره عن طريق رسائله التي كانت ولا تزال تصلك دون انقطاع..

 في أوّل رسالة تصلك منه بعد موته المزعوم - شكا لك من المزاح المتقلب للإيطاليّ صاحب المخبزة ، و من المعاملة السيئة التي صار يعامله بها .

 و في الثّانية ،أكّد لك أنّه أطرد من العمل ، و أنّه أجبر على صرف ما ادّخر من أموال

 و في الرّسالة الثّالثة ، أعلن رسميا عن تأجيله لتلك الزيارة التي كان قد وعدك بها في الرّسائل الأخرى ، لأنه يرفض أن يزور البلدة صفر اليدين .ماذا سيقول عنه أهل الحي ؟ عاد كما ذهب حافيا عاريا ، وهو ما يرفض سماعه.

 أمّا هذه الرسالة التي تسلّمتها قبل آونة من موزع البريد ، فهي رابع رسالة تصلك من "سعد" منذ أن زعم أهل الحيّ أنّه مات ، فتعالوا يا من اعتقدتم أنّكم دفنتموه بأيديكم تعالوا فهذه رسالة آتية لتوّها من عنده.

 أمازلتم مصرّين على أنّه مات يا غربان الشؤم ويا أفواه الأراجيف، يا أيها الذين أعمى الحقد قلوبهم ؟

 قبّلت الرّسالة ثمّ قلّبتها بين يديك مرّات ، قبل أن تسمع نفسك تخاطبها قائلا : " أيتها الرسالة . يا بارق الأمل . ماذا تراك تحملين لي من أخبار " سعد " ؟ ليت الندامة قد أصابت قلب ذلك الإيطالي فأرجعه إلى العمل ! .كيف أحوالك يا سعد ؟ المال لا يهم .. المهم صّحتك و سلامتك. لا تنشغل بنا كثيرا . سوء الحظّ المزمن ألفناه وألفنا. "

 فضضت يا " مسعود الشقيّ " ظرف الرسالة بلهفة و قرأت متهجّيا ، و متأنّيا ، و معلّقا أيضا :

 ".. أبي .. تجلّد يا ابن الجبال التي لا تنال منها الرياح إن عصفت، و لا الرّعود إن قصفت، ولا السيول إن سالت.."

 * أنا يا ابني كنت و مازلت لا أهاب الرياح، فما عندي أخضر أو يابس أخشى عليه منها. فسيان عندي أن تقوم أو أن تهدأ ..كأنّي يا "سعد" أرى فيك أبي وقد عاد إلى الوجود ليوصيني كما كان دائما يوصيني بالصّمود، ولا شيء غير الصّمود .

 ".. أبي.. عاهدني على أّنك ستؤمن أكثر بأنّ الموت هو الحقيقة الوحيدة في وجود كلّه أكاذيب ، و أخاديع ، و أباطيل . "

 * أشمّ يا بني في كلامك رائحة تقشعرّ لها الخلايا في بدني... أذكرت الموت ؟ ما الدّاعي إلى ذكره ؟ إنّه الحقيقة الوحيدة التي أكرهها ، و أتمنى أن تنقلب ذات يوم إلى كذبة بيضاء لا يصّدقها أحد . ويحك ! كدت أن تفتت كبدي خوفا عليك إن كنت حبيبي فلا تعد إلى التفكير في هذا الموضوع . أتعدني ؟ إنه ليس في مستوى سنك .أنت الآن في أحضان الحياة .أنت الفارس الذي بصدد وضع قدميه على ركاب البداية فكيف تستحضر النهاية ؟ قلبي عليك يا ولدي ! لماذا هذا الكلام المتعب للنفوس ؟ قل لي أيّ شيء آخر لا يرعبني ، ولا أتضاءل أمامه . روحي فداك يا ولدي !

 ".. قتلوني يا أبي قتلا لا يليق إلاّ بعربيّ !".

 *.............................................................

 انقضّت يداك على الورقة تمزّقانها ، وصدرك يتحرّق ، وفمك يمتلئ بالصّراخ ، وحين أردت إطلاق الصّرخة الأولى تملّكتك حالة من الوهن والعجز والارتخاء فاستسلمت لها،قبل أن تحسّ بشي ء مثل البلّور يتشظّى داخلك وبروحك تنسلّ شيئا فشيئا من بدنك انسلال خيط الحرير من خرم الإبرة ،وترتفع بك بسعادة وشوق نحو هالة من نور، بعيدا عن صخب الدّنيا ، وعثرات الحظّ ، وشقاء الأحياء.

 * * * *

 إنّ حريفات "خيّاطة السّعادة" هنّ خليط من نساء الأحياء التي دبّت فيها شهرة "سعدية" . تراهنّ يتهافتن عليها كما لو تكون الخيّاطة الوحيدة في المدينة

 إنهنّ يفضّلنها عن بقيّة الخياّطات ، لأنّها تسعى إلى التّجديد في طرق التفصيل ، فمحلّها ثري بالمجلاّت العالميّة التي تزخر بآخر الصيحات في مجال اللّباس هذا إلى جانب موهبتها و شهادة الاحتراف التي تحصّلت عليها منذ أعوام خلت في الخياطة

 "سعدية" دأبت على فتح محلّ عملها باكرا لتظلّ فيه إلى آخر الليل سجينة الأقمشة و آلة الخياطة العصرية

 سعيدة هي في نظر أهل الحيّ ، فمثل من حققت حلم أبيها القديم في إعمار العطرية بالرّفوف المتينة الواسعة ، و السّلع الثمّينة ، و مثل من شيّدت فوق العطرية محلاّ للخياطة ترتاده في اليوم عشرات الحريفات . مثل هذه ، لابد أن يكون فراشها ، و غطاؤها ، و طعامها سعادة في سعادة

 سعيدة هي في نظرهم ، ففي اسمها ، و في اسم محلها سعادة في سعادة . بل هي السعادة تمشي على قدميها

 لا أحد منهم يدري أنّها تتفنّن كلّ يوم في تعذيب نفسها ، وأنّها لا تدخل المحلّ إلاّ لتحاول الانخراط في النسّيان من الصّباح حتّى آخر الليل بالعمل.

 لا أحد أيضا يدري أنّها تخرج ،من حين لآخر، أعقاب تلك الرّسالة من مخبئها فتطيل النّظر إليها بندم وحسرة ، قبل أن تجهش بالبكاء مردّدة بذهول :

 " أحييتك أبي بيد وقتلتك بالأخرى . ماكان ينبغي أن أحرّر الرّسالة الرّابعة بتلك الطّريقة المفجعة !"