قصة الرغيف

مروان قدري مكانسي

قصة الرغيف

مروان قدري مكانسي

[email protected]

هذه أم عماد تعد وجبة العشاء لها ولولدها ( آخر العنقود ) أسامة ،  بعد يوم حافل بالكدَّ والسعي في بيتها العامر الذي يبدو في النهار كخلية نحل تعجُّ بالأبناء والبنات والأحفاد ، وتحمد الله تعالى أنها استطاعت أن تكمل المشوار الذي بدأه المرحوم أبو عماد قبل عقود من الزمن ثم اسمعها وهي تحدث جارتها التي غادرتها قبل دقائق قائلة :

سامحك الله يا أم سعيد على كلامك الذي ندَّ من لسانك ، كيف تطلبين مني أن أمنع أولادي من زيارتي في كل وقت يريدون ؟

كيف تطلبين مني أن أجعل لهم يوماً واحداً في الأسبوع يجتمعون فيه عندي ثم أعيش بقيته وحيدة فريدة دون أن أراهم ؟ تريدين راحتي ؟

 وهل تكتمل سعادتي وتتم راحتي إلا بضمهم جميعاً في صدري وبين ذراعي ؟

 ويطل عليها أسامة من غرفته وبيده كتابه الذي يقرأ فيه : أمي هل عندك أحد ؟

وتجيبه الوالدة الحنون : لا يا أسامة ، أنا هنا في المطبخ وحدي أعد وجبة العشاء ، أقبلْ إلي إن شئت .

- كأنني سمعتك تتحدثين مع جارتنا ؟

- لا ، كنت أعلِّق عل كلامها الذي لم يرق لي ،

- تعرف يا ولدي أنني لا أحب الردَّ عليها لأنها طيبة حبيبة ،

- لذلك قلت ما في نفسي بعد خروجها ...

هل ستتناول العشاء الآن أم بعد رجوعك من صلاة العشاء ؟

- سأذهب للصلاة ثم أعرِّج إلى بيت صديقي أحمد لأناقشه في بعض المسائل بعدها أرجع لأتناول مع أعظم الأمهات عشائي ، لكن أسألك بالله يا أمي إذا تأخرت عند أحمد أن تأكلي ...

ثم قبل رأسها وخرج من المنزل وهو يردد الأذان مع المؤذن .

 لحظات بعد خروج أسامة من البيت ، ويُفتح الباب .

- هل نسيتَ أن تتوضأ يا ولدي ؟

- ( لم تسمع جواباً لسؤالها )

- أسامة ، لماذا عدت يا ولدي ؟

- أنا رجاء يا أمي . ( قالتها ممزوجة بأمواج البكاء الدفين وأنفاسها المتصارعة )

- ( تركتْ كل شيء وأسرعتْ إليها ) أهلاً حبيبتي ، ما الذي جاء بك الساعة ؟

هاتِ عنك طفلتك ، ( ضمت الطفلة إلى صدرها وقبلتها وهي ترمق ابنتها بنظراتها الحائرة وتنتظر منها الإجابة )

- اشتقتُ إليك وإلى أخي أسامة فحضرتُ ، أين الغرابة في ذلك ؟

- دعي عنك هذا التمثيل وتعالي معي إلى المطبخ نكمل إعداد الطعام ، وبعد العشاء أسمع منك .

- أين أسامة يا أمي ؟

- ( وكانت قد فرغت من تحضير الطعام ورتبته على طاولة السفرة ) أخرجي يا رجاء من الثلاجة كيس الخبز واجلسي .

- تفضلي يا أمي كلي بالهناء والشفاء ، أما أنا فاعذريني ، لكني سأجلس معك

- ( أخرجت أم عماد رغيفين من كيس الخبز ووضعت واحداً أمامها والآخر أمام ابنتها ) بسم الله الرحمن الرحيم ، هيا يا ابنتي .

- قلت لك يا أمي ( قاطعتها )

- وهل ترضين لأمك أن تأكل بمفردها دون مشاركة ابنتها وحبيبتها ؟

- ( تناولت البنت قطعة صغيرة من رغيف أمها ،

 ووضعتها في فمها وأخذت تلوكها كأنها الزقوم ) والله يا أمي سأشاركك الطعام لأجل عينيك فقط .

- يا رجاء لقد زوجتُ قبلك كل إخوانك وأخواتك وكانت حياتهم الأسرية تسري بفيض من نور الله وتوفيقه ،

ولم يأتني واحد منهم غاضباً ، أما أنتِ هداكِ الله ، فلم يمضِ على زواجك عامان حتى عدتِ إليَّ تندبين حظكِ وتتألمين و...

- لو سمعتِ يا أمي ما قاله لي يوسف زوجي ..

- بعد العشاء أسمع .

 ( أي عشاء هذا ؟ لم تكمل الأم وابنتها رغيفاً واحداً ، غطّت الأم الطعام ونسيت الرغيف الآخر خارج الكيس ،

ثم جلست تستمع إلى ابنتها ، ولما فرغت البنت قالت :

- أ هذه هي الحكاية ؟

- وهل قليل أن يتهمني يوسف بأنني الطفلة المدللة عند أهلي ، ولم أكبر بعد .

- قومي نصلي العشاء .

- ( وبعد صلاة العشاء ) هيا بنا يا رجاء .

- إلى أين يا أمي ؟

- إلى بيت زوجك .

- لا ، لا ، مستحيل ، لا بد من الاتصال بأخي عماد ليوقف هذا المغرور عند حده

- ألم يزكِّه أخوك ويمدحه عندما تقدم لخطبتك ؟

- طبعاً ، لأنه يعمل عنده

- وما الذي تغير ؟ هيا أسرعي يا ابنتي ولا داعي لإشغال أخيك بأمور بسيطة ؟

 ( وتحت إلحاح الأم امتثلت البنت وسارت معها إلى بيتها )

وعند وصول أم عماد وابنتها ، فوجئ يوسف وعقدت الدهشة لسانه ،

وتصبب عرقاً وفاض خجلاً واعتذاراً ، وتلعثم في استقبال ضيوفه وقال :

- خالتي أم عماد بنفسها تشرفني في بيتي ؟

- ألستَ كسائر أبنائي ؟

- هذا شرف كبير يا أم...ي

- قلها ولا حرج يا أمي .

 ( وبوقت قصير من العتاب والتوجيه والحكمة ، انتهى الخلاف وعادت المياه إلى مجاريها ) ،

ولما همَّت الأم أن تعود إلى بيتها ، أقسم عليها صهرها أن تنام ليلتها عنده ،

 قالت :

- لم أعتد ذلك يا ولدي ، والبيت قريب جداً .

- تنامين عندنا الليلة ، وغداً تذهبين مع رجاء إلى بيتك .

- إذن اتصل بأسامة وأخبره حتى لا ينشغل عني وقل له : عشاؤه جاهز في المطبخ

- سأفعل .

نامت أم عماد عند ابنتها بعدما غمرت البيت سحائب الحب والودِّ والتفاهم ،

وفي الصباح عادت مع ابنتها إلى البيت ، ودخلتا المطبخ ،

 وكان الطعام الذي تركاه لأسامة على حاله حيث نام صاحبنا دون أن يتناول عشاءه .

أمسكت الأم رغيف الخبز بيدها وناولته ابنتها وهي تشرح لها وتستثمر الموقف :

- ما الذي جرى للرغيف عندما بات ليلة خارج الكيس ؟

- لقد جفَّ وبيس وأصبح صلباً .

- هل تستطيعين ثنيه أو تعديله يا رجاء ؟

- لا يا أمي ، لا يمكن ذلك وإلا تكسَّر وتهشَّم

- كذلك الخلافات بين الزوجين يا ابنتي ،

إذا حاولت إنهاءها فور وقوعها تلاشت بسرعة وعاد الوفاق إلى القلوب ،

 أما إذا باتت إلى اليوم الثاني كبرت وزادت وتصلبت وكانت مسرحا للشيطان ينفث فيها من سمومه .

أفهمتِ ؟