السليل
السليل
أحمد بن قريش
بصرف النظر عما- عودة اللقلق الأخيرة إلى عشه – والسماء والشسوع -لا غبار على الصحراء –الخبز الزنخ- نعود على أطراف الأصابع والذكريات – تجدد رائحة القد يم – صراخ في أماكن أخرى – ضبط اللسان هنا قيل –استعادة غير جد ية - تحت الجبين العدد الصحيح للأشجار- لا تنقص واحدة –النخلة المتحيرة بدون راس – عواصف الربيع – بعدها سهول جديدة – تحمر النهر بدمائه أسفل الجبل- طمي غير دقيق –حريري – مصفر – مخصب ــ عن قرب ــ سنوات الكلاب ــ فلاح عجوز اندفع داخل عائلة نبيلة ــ أين هو ــ قد كوّمت الحرب الحشائش ــ ورقة الكاليتوس الأنثى ــ يربوع ذو قائمتين قصيرتين ــ سماء لألعاب نورانيّة ــ كل الأحذية ــ أسمال وزعها الأمريكي ــ أكياس من الكتان ــ الشاي ــ خرق المساجين الإيطاليين ــ أذرع ميتة ــ حرب عالميّة أولى ثانية ــ ابتسامات بالمقبرة المسيحيّة ــ الصليب يسقط من تلقاء نفسه ــ براري ــ صحارى ــ ينسى الكلب ــ التيفوس ــ مرئيّة آخر قطاع الطرق ــ أغنية ‘لهو وريوس’ لن تغرى أحدا ــ لا نار ــ لا رقص ــ الزواج خفية ــ عشرون كيلو من الفارينة ــ فضلة فضلتا قماش ــ عنزة ــ درهمات ــ تموقعت الحرب في الخفاء ــ لن يعطى أبدا رغيف واحد لطفل ــ يموت الأطفال كذباب ــ النساء الرجال ــ السهر على الميّت وعلى رأسه منشفة ــ دافئ بإمكانه أن يحيا ــ الإدمان على الخمرة كذلك ــ انيزات روم ــ بدون تكسير ــ الزرد ــ طلاء جديد للضريح ــ خضراء ــ دجاج محمّر ــ شخشوخة ــ مرق ــ بين قبرين تمتمة حول قبر جديد ــ القيم الإنسانية ــ في الخندق ــ ألسيف كذلك ــ الشجاعة ــ البندقيّة ــ السّب ــ خيبة وفشل كل يوم ــ صباحات جليدية ــ صورة داليّة ــ تنزه الآخرون في ساحة برطانيا ــ مشيتهم المتواضعة في الصيف بسان كلو وشابي ــ رجال لمنصّة الإعدام وبيدهم رغيف ــ في الحزام ــ المعارك حول حوض ــ في المساء ــ لقليل من الماء والدّم ــ دم الديك ــ رقصة عروس بطيئة لزوجها ــ تقيؤ العجائز على الرصيف ــ الأعمى يغنى ــ بن باديس مات اجتماع ــ بن باديس مات في السجن ــ مجانين لحروب وهميّة ــ على طريقة الهنود الحمر ــ النبيذ الأبيض غني بالبروتينات ــ صيف الزيزان والقش ــ بالأقمار ــ بدر ــ الخريف ــ نجوم هنا وهنالك ــ المدرسة القرآنية ـ أعوذ باللّه ـ أعوذ باللّه ـ أعوذ باللّه ـ عصى من الزيتون ــ الصّلوات الأولى- الاستئصال ــ المطر ــ الرياح بصوت الأمواج ــ ضربات الملح المتكررة ــ الدموع ــ الغضب ــ غبار البساتين ــ ماتمسش ماتمسش ــ قطعة إجاصة للطفل الآخر ــ السوط ــ ماتت البقرة ــ سكرة الأب الأخيرة ــ لغة مفرنسة ــ أنت سيدي كلود ــ أنت سيدي ألبار ــ كلكم كلكم كالثعلب الصقر الأفعى ــ أنت سيدي مارشان ــ تقيؤ ــ دماء ــ بكت المرأة ــ يخربط الأولاد المضاجع ــ تتذكر الحماة الزوج ــ مرثية ودموع على الفقيد ــ الصمت عند الجيران ــ جمع الأموال ــ وجوه جديدة تحت ضياء المصباح ــ زمن مهيب ــ ذكريات الأب عبر الغابة السوداء ــأوامره المضادة ــ رتبته المبهرجة ــ لن اشرب لن اشرب ــ بوه على كل ما يثقل الرّأس ــ تنظر الجلابات المزركشة إلى السقف ــ شوارب كبيرة ــ تجنيد العسكري القديم ــ الحرب ــ الحرب ــ الحرب ــ الأخاديد ــ الكيس ـ الطائرات ــ اجتياح العسكر ــ اقتلوا ــ اقتلوا ــ اقتلوا ــ القتل في الأسواق ــ في المصلى ــ الشوارع ــ تحت الزيتونة ــ على أبواب البيوت ــ داخل المنازل ــ في السهل ــ بسبب كلمة ــ بسبب صمت ــ بدون سبب ــ الأخ الأكبر فرّ من الثكنة ــ مع عربيين آخرين ــ بالذخيرة ــ أخذوا على النهّر ــ الجار الأيسر مسجون ــ الجار الأيمن مذبوح ــ قد خان ــ الأرض حمراء ــ عيون مزرقة ــ نسف قطار ــ الحديد والنار بالبلدة الأخرى ــ إبادة نصف كتيبة ــ أحرقت نصف قرية ــ جرى في الدروب المختصرة ــ ديقول بقسنطيتة ــ تحيى سوستال ــ حشد من الأطفال ــ خارج المدرسة ــ تحيى زوج تاي ــ العشي مات ــ أشتية طويلة ــ وجيء بآبائنا أحزمتهم رعب حاملين بندقية بنادق أبي الأول دخلوا بالعدد الخامس و أكبرهم سنا قال اخفوا الويلة و دفع بالويلة خلف الستار والستار يخفى ولا يخفى كل شيء ثم الحوافر و الحوافر في الرأس في الليل وبقت الأم في المدخنة وسط الرماد ثم النخيل ثم انزلاق الذاكرة نحو اللقالق وهي تعود لعشها.
-منذ 1958, قالت العجوز.
تحرك الابن البكر على كرسيه الخشبي و سأل:ألم تذهب به إلى الطبيب.
قالت العجوز وهي ترمي بالحب لدجاجات: لم تتركني وشأني, خاصة هذه-فأشارت إلى دجاجة كبيرة و أسمن من الأخريات- لو كانت تبيض على الأقل...
-قلت ألم تذهب به إلى الطبيب.
-لو كان عندي الوقت لجيرت حيطان هذا الحوش؛ لم تطل ثانية منذ الحرب,بدأت تتشقق
و أشارت إلى الشق.
-يكفيها قليل من الجير...
-نعم الجير, لكن اليوم خارت قواي.
-لم تطلب جهدا كبيرا قالها الابن بصوت خافت.
- نعم الجهد, قالت العجوز ثم وجهت كلامها إلى الدجاج: حان وقت النوم, حان وقت النوم طاح الليل...
-قلت منذ لحظة ألم تذهب به إلى الطبيب.
- نعم, قالت العجوز. كل المنطقة, كل الأطباء، كل الأضرحة، كانوا يقتلونه بالأقراص وأشياء أخرى: لكنني كنت أسترجعه في الأخير…
أشعل الابن البكر سيجارة جديدة. ابن أخته هناك في ركنه. جالس القرفصاء على حصيرة. نظيف، عفيف، وديع. كان يلبس بزّة عمل قديمة. كان ينظر أمامه في اتّجاه الباب االخارجي.
ـ و هذي البزّة، سأل الابن…
ـ إنه جار، قالت العجوز بمثابة جواب، ثم أضافت هم لن ينسوه أبدًًًا يخرجوه أحيانا أيام غيابهم بالإجازة من مؤسسة الصلب بصحبتهم.
ـ آه... لأنّه يمشي، سأل الابن
ـ يدخن كذلك، استأنفت العجوز في كلامها وهي تنظر لابنها الذي كان يلعب بعيدان الكبريت وقد اندهشت من استغرابه هذا...
ـ ويدخن كذلك، استفسر الابن…
الآن امتدت الظلال على الحوش، وصعد في الهواء صوّت المؤذّن، عند الجيران و في حوشهم الملاصق بحوش العجوز كان الأب يوبّخ أحد أبنائه: بعد غروب الشمس لن أراك من الآن فصاعدا خارج البيت، مكانك هنا، هنا...
ـ لا تؤبخه كثيرا يا حسين، مازال صغيرا، قالت العجوز وهي ترفع ببصرها إلى السماء.
ـ لا أوبّخه؟ قضى ثلاث ليالي خارج البيت، أم سعديّة وهذي الشّقيّة كتمت عليّ هروبه إلى هذه العشيّة، أتعرفين أين وجدته أم سعديّة، النهر! سيدي تعلّم لعبة القمار، أستأنف يصرخ حسين...
أصغى الابن البكر إلى الحديث المتناول عبر ومن فوق الحائط واستنتج أنها من عادتهم الكلام من حوش لآخر...
ـ شقية؟ تمتم الابن البكر
ـ زوجته، أجابت العجوز وهي تهزّ رأسها…
ثم السكون من جديد
نظر السليل مرّة أخرى إلى ابن أخته الذي لم يتطلّع اليه ولو مرّة واحدة.
ـ ألم يزعجك أحيانا.
ـ أبدًًا قالت العجوز... مرات يحكي أشياء مترابطة حتى يبقيني بقربه استمع لكنّه يخلط لحد تضنه عايش القرن الماضي.
ـ اعرف بالعاصمة طبيبا .هو صديق...
أخذت أمّه وضاية، توضأت وكأنّها لم تسمعه، ثم بسطت شالها وصلت،
ـ من آذن هذا المساء، هو جارنا، عرفته من صوته، قالت بعد الصلاة.
ـ لقد اهتدى، لاحظ الابن
ـ وقت الصلاة يكون دائما هادئا، يوم الجمعة لا ينبس تقريبا ببنت شفة.
ـ اعرف بالعاصمة طبيبا .هو صديق...
ـ لقتله أو لشيء آخر...
ـ لعلاجه.
ـ هكذا تكون مستقرا بالعاصمة.
ـ نعم قال الابن .
ـ وتكون متزوّجا كذلك...
ـ نعم قال الابن، ولدان...
ـ والعاصمة بعيدة كل هذا البعد حتّى أنّك لم تعد منذ الحرب...
ـ العمل... والبعد... بدأ الابن يهمهم مبررا نفسه. تكلّم طيلة ربع ساعة عن زوجته المريضة... عن الشدائد... ثم أضاف في الأخير: الطبيب الذي أعرفه بالعاصمة يطببه من جديد...
ـ هو على أحسن حال، كما هو، هذه الأشياء ليس لها علاج.
ـ أمّه، أمّه، قيل لي، إنها أصيبت بمسّ من الجنون قبل موتها سأل الابن، متكلّما عن أخته وهو يختار بين الألفاظ...
ـ زوج شهيد، صهر شهيد، اغتصاب ابنتي تحت أعيني وهذا الذي يرمي بطفل الفضيحة في البئر... وشهقت العجوز في شالها.
ـ هو خطير أحيانا لا ؟
ـ أبدًًا، بعد وفاة الصّغير أدخلناها أنا والجيران إلى المستشفى... بعد شهور عادت و رّمت بنفسها في السيبوس... منذ ذلك الأيام لاحظت أنّه قلّل من الغضب في حديثه...
بدأت العجوز تبكي بهدوء, طولت في نحيبها.ثم مسحت دموعها لتقول وهي تشهق: الحرب, الموتى وزد الفضيحة ...بنتي ليست وحدها... نساء أخريات في هذه القرية... كأن كل قذارة الحرب...
-وعلى سأل الابن؟
أخوك ببسكرة , لم يزرني منذ عشر سنوات هو كذلك, لكني أعرف أنكم سوف تعودون إلى البلدة بعد موتنا, أنا وهو...
- لم كل هذه الأفكار المشؤومة
-أنا وهو عاركم يا سالم, أتعرف ما هو هذيان الناس اليوم؟ المرحومة أختك كانت تفعل الشيء قبل الحرب وهذا من تصرفكم ــ أشارت لابن بنتها ــ يظن نفسه ابن زنى, هذه الحقيقة, و تجيء لتقول لي إنه يوجد بالعاصمة طبيب.
نهض الابن, نفض على ركبتيه وسأل:و وردية''.
-لا يزورني أحدا, لا هي, لا زوجها و لا الأولاد. كانت العجوز تنظر جهة حي ما عبر حائط الحوش حيث تسكن ابنتها...
-علي أن أذهب, أماه, تمتم الابن وهو ينفض بضربات كف على ركبته مرة أخرى.
-سلم لي على وردية و الذراري, قل لها أن علي وأخواله لم يبعثوا لي بالعشر هذه السنة.
-مالي حيلة في ذلك, فرآني زوجها هو الأول و دعاني للمبيت قال السليل متظاهرا بعدم الاستماع لآخر طلب العجوز.
- تذهب غدا إذا؟
-بكرة, تنفس السليل.
بعد ذهاب سالم, أغلقت العجوز الباب الخارجي وعادت لتجلس قرب حفيدها.
ثم بدأت تغني ــ
نغرد ونزيد
على عمري
نغرد ونزيد
البل قالت
فات في التمرميد
البل قالت
نغرد ونردي
على دمعة طائحة على خدي
وقالوا
العسكر متعدى
يلعب في النقرسيس
عبيد
نغرد يا داية
وجفوني من غير اثناية
وعيوني من غير عباية
ببان ومدري و حديد
نغرد ملحوطه
من شبح الرومي و حيوطه
وقالو
سلعة محطوطة
ببان و مدري و حديد
قصة نشرت بمجلة LES ECRITS الكندية قام بترجمتها مؤلفها إلى العربية