المحادثة الأولى

منى محمد العمد

[email protected]

لم تجد عيناها إلى النوم سبيلا هذه الليلة , ربما أكثرت من شرب القهوة عصر اليوم , غادرت علياء سريرها وجلست إلى جهاز الحاسوب , أجرت اتصالا بإنترنت وأخذت كعادتها تتصفح بعض الدوريات المحببة إليها , وأثناء ذلك تفقدت بريدها , فإذا مربع حوار يبرز فجأة أمامها , شخص ما , اسم لا تعرفه , يبلغها أنه أضافها إلى جهات اتصاله وينتظر إذنها , ترددت , من هذا الطارق بابها المخترق كل حجبها , هي لم تعتد على محادثة الغرباء ,

ولكن شيئا ما يدفعها , ربما كان الفضول , تنظر من جديد إلى الشاشة أمامها , ماذا لو .... ؟ تصورت أنه واقف هناك ينتظرها , وأخذت الأصوات تناديها من داخلها , فتقدم ثم تحجم , فهي ( وقور و ريعان الصبا يستفزها ) , وجدت نفسها أخيرا تضغط ( موافق ) , وما كادت تفعل حتى فاجأها المربع الصغير برسالة : مساء الخير سمر .

 ترددت ثانية , وأخذت تتساءل ترى من يكون ؟ أو ربما من تكون ؟ من يدري ؟ ولكن من يعرف أنها تسمي نفسها سمر ؟ أعاد التحية مرة أخرى مساء الخير سمر , ردت : من المتحدث ؟

ــ ألا تردين التحية ؟ أنا ماجد .

ــ وكيف عرفت بريدي هل أنت تعرفني ؟

ــ أخشى ألا تصدقيني إن أنا أخبرتك ,

ــ جرب , ربما تقنعني ,

ــ أنا لا أعرفك , هل تصدقين إن قلت لك أنني اخترعت بريدك وحاولت فنجحت ؟

ــ غريب ,

ــ أرأيت ؟ قلت لك بأنك لن تصدقي , هل أقسم لك ؟

ــ تقسم أو لا تقسم , هذا لا يشكل فرقا كبيرا .

ــ هل لي أن أسألك عن اسمك ؟

ــ ألم تنادني به منذ برهة ؟!

ــ أهو اسمك فعلا ؟

ــ ربما , وربما اخترعته أنا كما اخترعته أنت .

ــ سأناديك به على أي حال . وسوف أبدأ حديثي بتكرار تحيتي , مساء الخير .

ــ مساء أم صباح ؟ تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل !

ــ أحيانا يتساوى عندي المساء والصباح .

ــ أتشاؤم أم فلسفة ؟

ــ ألا ترين أن النور والظلام كلاهما ينبعثان من نفس الإنسان , وتتحكم بهما إرادة الإنسان ؟

ــ خاطرة تستحق التفكير . لكن من لطف الله بنا أن جعل النور والظلام يتعاقبان علينا , وكما قيل بأضدادها تعرف الأشياء .

ــ هذا يعني أنك ترين في الليل فرصة فقط لاستشعار نعمة النهار ؟

ــ هذا قليل من كثير ,

ــ هل تأذنين أن أتجول في فكرك فأسألك ماذا يعني لك الليل والظلام ؟

ــ أجد في الليل هروبا من ضجيج النهار , وفرصة ألتقي فيها مع نفسي وخواطري وأفكاري وحواراتي .

ــ هلا أفصحت ؟

ــ كاد الليل أن ينقضي , وأود حقيقة أن أخلو بنفسي , قبل أن يتنفس الصبح .

ــ إذا فقد أدرك شهرزاد الصباح .

ــ قد أوشك .

ــ هل من وعد بتكرار الحوار ؟

ــ لا أعد بشيء . قد لا أعود .

ــ وإن رجوتك أن تفعلي ؟ أشعر أن بيننا توافقا في الرؤى , عديني بمواصلة الحوار غدا .

ــ غدا ؟ ترى ماذا يخفي غد ؟ من يدري ؟؟

 

 تعبت أمها وهي تحاول إيقاظها ضحى ذلك اليوم , كانت مرهقة طوال النهار , ومحادثتها ليلة أمس تارة تشيع في نفسها البهجة , وأخرى تثير فيها التوجس والريبة , ترى من هذا الغريب الذي حاورها ؟ وماذا وراءه ؟ ترى كيف هو شكله ؟ ولكن ماذا لو كان شخصا يعرفها , ربما كانت إحدى صديقاتها تمازحها , ربما كل شيء ممكن , كم من قصة سمعت !

 مكثت أياما كلما اقتربت من الجهاز ترددت وتراجعت , تفكر , لا بد أنه يحاول أن يجدها , بل لابد أنه كتب لها فيضا من الرسائل , تصوره عواطفها يجلس أمام جهازه حزينا يفتقدها ويفتقد حديثها , تتخذ لنفسها أعذارا شتى , وتقترب من الجهاز , ثم يصوره عقلها يهزأ بها وبحديثها , فترجع , إنها مغامرة غير محسوبة النتائج , وهي أعقل من أن تورط نفسها , وهكذا بقيت عدة أيام في تردد حتى كان يوم جاءتها فيه أمها والبشاشة مرتسمة على وجهها , تخبرها أن أحد أصدقاء والدها سيأتي مساء اليوم مع أسرته لطلب يدها لولده , تضاربت مشاعرها , هذا يوم حلمت به كثيرا , ولكن ماجد ؟ ومن ماجد ؟ وما أدراني إن كان ماجد شابا أم شيخا , بل ما أدراني إن كان رجلا أو امرأة , ثم شغلها أمر الخاطب الجديد فأراحها من التفكير بالحوار وصاحبه .

 في غضون أيام قليلة تم عقد قرانها على أيمن . وكان أول عمل تقوم به بعد عقد قرانها هو التخلص من ذكرى محادثة تلك الليلة ومسحها من الجهاز لعل الأيام القادمة تمسح آثارها من فكرها وقلبها . مسحتها دون تردد , تفقدت بريدها , وتعجبت لم يرسل ماجد لها أية رسالة , قالت في نفسها هذا أفضل , هي لم تكن لترد عليه بعد أن أصبحت زوجة لأيمن , لكنها مع ذلك لم يعجبها أنه لم يرسل لها شيئا . لا بأس هذا سيساعدها على النسيان سريعا , ومنعا لأية محاولة جديدة من قبل ماجد قامت بإلغاء بريدها تماما . تمنت فعلا لو أنها لم تدخل في حوار معه لكان ذلك أسلم لقلبها .

 وسط مشاركة الأهل والأحبة زفت علياء إلى زوجها , وكانت سعادتها عظيمة , فقد رأت فيه مثالا للرجل العاقل الودود , ونما الحب بسرعة بين العروسين وظلل أسرتهما الصغيرة جو من الألفة والمودة .

 ذات ليلة , دخلت علياء على زوجها في غرفة مكتبه وهو يجلس أمام جهاز الحاسوب , قالت مداعبة : ماذا يفعل زوجي الحبيب ؟ تلعثم قليلا ثم قال : أفتح بريدا جديدا مشتركا لنا فما رأيك ؟ قالت وقد هربت خواطرها إلى تلك الليلة مجددا , بريد مشترك ؟ إنها فكرة رائعة , قال أيمن وهو يحاول إبعادها بلباقة : هل تتكرمين بإعداد القهوة لنا يا عزيزتي ؟ قالت : حبا وكرامة .

 أخذ أيمن يحمد الله تعالى كثيرا على أن عروسه لم تلمح الشاشة أمامه , ماذا سيقول لها لو رأت الحوار على الشاشة ؟ هل كانت ستصدق أن سمر هي فتاة لا يعرف عنها شيئا , وأنه حاورها مرة واحدة فقط في ليلة مسه فيها الأرق , وأن ذلك كان قبل عزم أهله على خطبتها له بيوم واحد , وأنه ما فتح جهازه الليلة إلا ليمسح تلك المحادثة ويتخلص من ذكراها ؟!!