هل تصدق

قصة واقعية

خالد البيطار

أنا لم أصدق أذني حينما سمعته يتحدث بالهاتف الخلوي عن قطع الأراضي ومساحتها وموقعها، وأن هذه القطعة من الأرض أفضل وأنها على شارعين، وتلك على ثلاثة شوارع، وأن عنده قطعة أرض لها مستقبل، وقد خبأها لمن هو عزيز عليه.. كان هذا الحديث في سيارة نقل الموتى إلى المقبرة.

كنت أعرفه وأعرف طمعه، وأعرف انغماسه في التجارة، لكني لم أتوقع منه أن تصل به الحال إلى هذا الحد.

كان تاجراً للأراضي، يبيع ويشتري ويساوم ويقتل المشتري ويداوره ويلحُّ عليه، ويزيّن له الصفقة، ثم لا يهمه بعد ذلك صدّق ما قال، ولا يكترث بما تؤول إليه الأمور، مثله مثل أكثر التجار، ليس هذا هو المهم، إنما المهم هو ما رأيت وما سمعت.

مرض والده مرضاً عضالاً، فأخذه إلى المستشفى، وبذل في سبيل شفائه مالاً كثيراً، وكان –والحق يُقال- لا يبخل عليه بجهد ولا مال، فهو في هذه الناحية كريم مرضيّ عنه، ويحب أن يكسب رضى والده وبخاصة وهو في آخر أيامه كما كان يتوقع.

زرت والده في المستشفى، ودعوت له بالشفاء، وكنت ألاحظ هذا التاجر يتكلم بالهاتف وهو بجوار والده في المستشفى عن الأراضي، ويعقد الصفقات، فأقول: وماذا عليه أن يبيع ويشتري فوقته أكثره في المستشفى، أعانه الله وشفى والده.

ثم جاءنا خبر وفاة والده، وأنه سيخرج به إلى المقبرة بعد صلاة الظهر، فقضيت أعمالي، وحرصت أن أعينه في مصابه، وأن أكون بجانبه في هذا الوقت العسير.

صلينا الظهر، ثم صلينا على الوالد، ووضعناه في سيارة دفن الموتى، وركب التاجر وركبت بجانبه والوالد أمامنا مسجّى.

وسار الموكب إلى المقبرة، وكادت دموعي تطفر من عيوني وأنا أفكر في هذا المصير، وأننا كلنا إلى هذا المصير سنصير، وأننا مهما عشنا وجمعنا فسنترك وسنمضي إلى تلك الحفرة، ولن ينجو منها أحد.. والتفتّ لأُواسيه بمثل هذا الكلام علني أخفف عنه من ألمه، وتوقعت أنه يبكي عليه مثلي بل أكثر مني لأنه والده، وإذا بالهاتف الخلوي يقرع، فأخذه وبدأ يتكلم، فقلت سأحدثه بذلك بعد أن ينتهي، وتوقعت أن يُسكت المتكلم ويقول له: أنا في سيارة الموتى وأن والدي مسجى أمامي، وليس الوقت وقت الحديث عن أي موضوع، لكني فوجئت أنه يتكلم عن الأرضي وعن الأسعار وأن هذه الأرض بكذا وتلك بكذا، وهذه دُفع فيها ثلاثون ألف دينار وهي تسوى أكثر، وأن الأرض بالموقع الفلاني اشتراها فلان، ولم تتم الصفقة بعد، وأتوقع أن يتراجع عن الشراء، وإذا تراجع فسوف أبقيها لك إذا رغبت بعد المشاهدة.

ضقت ذرعاً من حديثه، ولكزته وأشرت إلى والده فأشار لي بالتريث.. وانتهت المكالمة، وكنا قد وصلنا إلى المقبرة فنزلنا من السيارة، ووارينا الميت في قبره، وأنا في عجب من أمر هذا التاجر المصاب.