الطفل والسماء
عمرو الغامدي
منذ زمن بعيد كان هناك طفل يجلس أمام بيتنا , كان مختلفاً جداً عن كل الأطفال .. يلعب وحيداً , وجميع الصغار يطردونه وينعتونه بالغريب المجنون ! .. توقفت للحديث معه , أخبرني عن اسمه , كان طفلاً هادئاً .. تكلمنا كثيراً .. وقال لي أنه مستعد ليخبرني بسره الذي لم يقله لأحد .. أومأ لي أن اقترب .. وقال لي أنه يملك مختبراً في بيته للتجارب .. شاركته الدهشة التي اصطنعها .. سألته : ماذا تفعل فيه ؟
أخبرني أنه يختبر حجراً أسْوداً يخرج منه النمل , تعجبت منه جداً .. ولكني كنت أصنع علامات التصديق على وجهي , إنه مجرد طفل .. سألني بعدها .. هل أنتَ مستعد لتخبرني بسرّك ؟! رغم ارتباكي حينها إلا أني أجبته : ربما لاحقاً .. عندما يكون لي سر.. وصدقني الطفل !
هذا اليوم عدت لمنزلنا الريفي , ووجدت الطفل ذاته , قد مرّت عليه 4 سنوات إضافية , لازال الهدوء يملئ جسده .. ولازال مختلفاً .. كما كنتُ أظنه .. وقد تذكرني كما تذكرته مذ النظرة الأولى , توجه إليّ دون غيري .. قال لي: أنت الذي وعدتني أن تخبرني سرّاً يوماً ما !؟ .. ابتسمت .. نعم كنت أتوقعه , وأتوقع فضوله .. ضممته بحرارة , نعم إنه أنا .. و هل أنت الصغير صاحب حجر النمل ؟
ضحك كالملائكة , يا لجماله ! .. أخبرني باكتشافه لاحقاً أن الحجر لم يكن إلا مسكناً للنمل .. وأنه قد أفسده عليهم . قلت له: لا تيأس , الكبار أيضاً يفسدون الأمور.
بادرته بعد أن صمت قليلاً .. هل أنت مستعدّ لسماع سري يا صغير ؟!
فرح الصغير جداً .. رأيت ذلك في عينيه .. لقد رأيت نفسي داخل عينيه .. رأيت وجهي الذي كان سيبوح بسر عظيم .. رأيت وجهي ولم أعرفه ! .
توجهنا إلى شجرة القرية المعمّرة وتبادر إليّ كم تحفظ هذه الشجرة من أسرار , وكم رأت من أسرار .. ولكنها لا تبوح بها , وأنا الذي كاد يسقط مرتعشاً لأجل سر واحد !
سألت الصبي : ما أكبر شيء تحبه ؟ .. صمت قليلاً وبدا كأنه يفكر .. وأجاب : صندوق ألعابي .. وأنت ؟
لم أتوقع أن يسألني .. خفق قلبي بشدة , إنه يقترب من سري , أنه يكاد أن يلمس قلبي بيديه العاريتين , كاد أن يلمس أنفاسي ويتعثر بها .. أرجو أن تكون يديك طاهرة جداً يا صغير.. فما أحمله شيء مقدس لم يره أحد من قبلك .
حين سألني .. لم أعلم ما أقول له .. هل أخرج له أوراقي وأجعلها تتحدث عن السهر والقمر والفجر .. أم أتحدث كما يفعل الأطفال فحسب .. لم أدرك أن الأمر صعب للغاية .
- .. وأنت ؟
كف ّ عن ذلك يا صغير , فأنت تصنع ساحات حرب في قلبي , لا تبدأ ولا تنتهي .. عندما أخبرني بسره منذ زمن , وعن حجره الذي يخرج منه النمل , ظننته مجنوناً .. ولكنه اكتشف لسره تفسيراً مقنعاً .. وللأسف , فإن سري لا يحمل تفاسير مقنعة ولا منطقية .. وبالتأكيد سأكون مجنوناً أمامه , ! !
- .. أنت ؟ .. ما أكبر شيء تحبه ؟! أعاد سؤاله بإصرار أكثر .. وهذه المرة قلت له :
إن أخبرتك .. تعدني أن يكون سرا دائماً ؟! - أعدك .
- حسناً .. أتذكر حجرك القديم ؟ .. لو أن الحجر تحدث إليك .. هل تخبر أحداً ؟!
أجاب الصغير بتعجب .. أنت مجنون ؟؟
يا إلهي ! .. ها هو الصغير ينعتني بالجنون .. فكيف إن قلت له أنني أتحدث إلى السماء فعلا !!
تجاهلت ردة فعله , فقد بدأ داخلي ينزف .. وبدأت ألتصق في الأرض كثلج يذوب وينقشع .. أحسست أني أصبحت حراً الآن , وأن حال المجانين أصبح يلائم حالي .. نظرت إلى السماء ,
- إن السماء هي أكبر شيء أحبه .. هل بلغك أحد من البشر يا صغير يملك أنانية كالتي أملكها أنا .. أن أملك السماء وحدي .. أن أتحدث إليها وحدي .. ولو استطعت أن أجعل لونها وردياً لما ترددت .. لما ترددت أن أكتب عليها ذكرياتي وأحزاني وأفراحي .. لما ترددت أن أسافر إليها وأخبرها عن الشيء الذي لم أقله لأحد ..
صمت الصغير بتوتر .. نظر إلى السماء .. وقال باستغراب: .. إن السماء كبيرة جداً بالنسبة لك .. كبيرة جداً لأن تملكها وتضعها في صندوق ألعابك .!
ضحكت بلا شعور , وقد بدأت عيناي في الاحتقان .. براءة الطفل دفعتني لأن أتكلم أكثر .. أن أقول أشياء نسيت أنها في داخلي .. نسيت أني أحترق لأجلها كل يوم ..
- نعم يا صغير .. إني أعشق شيء كبير .. وبعيد جداً .. لا أنا استطيع أن أصعد إليها .. ولا هي بإمكانها أن تأتي إليّ .. جربت أن أصعد إلى أعلى قمة جبل .. وأتحدث إليها .. كانت تستمع إليّ .. أنا أجزم بذلك ..
- (ماذا قلت لها ؟)
- أخبرتها أني أتمنى أن أستمع إلى صوتها .. صوت السماء , سألتها أن تعطيني عنواناً أقرب .. كانت تستمع إليّ وتضحك فقط .
- (ولكن كيف علمت أنها ضحكت ؟)
- كانت أنجمها تلمع كل فترة يا صغير .. كم أعشقها .. عندما تضحك .
عينايَ لم تقاوم رغبة دمعة في الخروج .. البوح بالأسرار متعب جداً , أشعر بأني أتنفس من خلال ناي .. لم أفعل شيئاً صعباً في حياتي كالذي أقوم به الآن .!
- ( أنت تبكي ؟ )
- نسيت أن أخبرك .. أنا لا أحب السماء عندما تمطر .. فهذا يعني أنها تبكي .. وهي لا تبكي إلا عندما أغضبها .. أحيانا أتصرف معها بحماقة أكثر , وتبكي .. وهي لا تعلم أن كل قطرة مطر .. تحكي من فصول حزني آلاف الكلمات .. وتترك ندبات لا تختفي على جسدي .. أنها لا تعلم أن كل قطرة تذرفها , تسقط على قلبي فتنقسم إلى نصفين .. وينقسم حزني معها نصفين ..
سكت الصغير طويلاً .. وكان ينظر إلى السماء فقط .. كان ينتظر أن تحدثه .. حاول أن ينطق ويحدثها , لكنه كان خائفاً أن تخذله .. فهو لم يجرب هذا من قبل ..
نظر إليّ .. وقال : أنا اكتشفت حلاً مقنعاً لسري .. وأنت ماذا ستفعل حيال سرك؟
أخبرته أنه بعد سنين طويلة سيحكي حكاية لولده .. حكاية تقول كان هناك رجل يصعد إلى قمة الجبل , ويضع سلّماً مرتفعاً .. يتسلقه كل مرة ويسقط أرضاً .. حتى يشيب هذا الرجل وتختفي السماء .. ويصبح الرجل مجنون القرية , يشفقون عليه الناس .. ويتناقلون أنه كان منذ زمن يتحدث إلى السماء .
في اليوم التالي , وأنا أودع منزلنا الريفي .. كان الطفل يلحق بي ويصرخ ..
تحدثت إليها ..!! تحدثت إليها .. !! .. أخبرتها أنك لا تملك سلماً طويلاً كي تصل إليها .. وسألتها أن ترسل لك آخراً أطول بكثير .. !! وقد وافقت !! .. رأيتها تضحك !! لقد لمعت أنجمها .. لقد ضحكت !! .