مقتل كعب بن الأشرف

عملية فدائية

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:

في السنة الثالثة للهجرة كان كعب بن الأشرف قد أساء إلى المسلمين، وكثُر في نسائهم تشبيبُه، وذهب إلى مكة يحرض المشركين على الثأر لقتلاهم في بدر وبكى عليهم، وحرّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد إلى المدينة وكانت أمه من بني النضير واليهود ينسبون إلى أمهاتهم، أما أبوه فكان من بني نبهان من طيّء.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَن لكعب بن الأشرف هذا الذي اتخذ المسلمين غرضاً يرمى، ولم يرعَ حرمة الجوار فاستعدى علينا كفار قريش؟ أين الفدائيون الذين يقتنصونه من حصنه فيكون عبرة لمن يعتبر؟ إن من آذى الله ورسوله دمه مهدور)).

قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟

قال: نعم يا محمد بن مسلمة، ولك الأجر من الله تعالى.

قال محمد بن مسلمة: سمعاً وطاعةً يا رسول الله، ولكن ائذن لي يا رسول الله أن أنال منك أمامه حتى يطمئن لي ولإخواني.

قال الرسول الكريم  الله صلى الله عليه وسلم : ((قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك، إن مصلحة الدعوة، والوصول إلى الهدف، والتخلّصَ منه وإراحة المسلمين من شره تبيح ذلك على أن تكون قلوبكم عامرة بحب الله ودينه ورسوله)).

قال ابن مسلمة: والله لا يتجاوز ذلك ألسنتنا فالله ورسوله أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((سيروا على بركة الله)).

وانطلق محمد بن مسلمة في ثلاثة من المسلمين الأشداء فيهم أبو نائلة أخو كعب من الرضاعة، ولكن أخوَّةَ الإسلام أقوى من كل أخوة، فالعقيدة أساس كل محبة وأساس كل أخوّة، والتاريخ الإسلامي فيه صور كثيرة تدل على أن الاختلاف في العقيدة يقطع كل صلة إلا صلة الأرحام، وتبقى العقيدة لب العلاقة بين الناس، فهذا عمر يقتل خاله هشام بن العاص، وأبو عبيدة يقتل أباه الذي حرص على قتله، ومصعب بن عمير يعلن على ملأٍ من المسلمين أن أخوّة الإسلام أقوى من أخوة النسب حين يقول لأخيه أبي عزيز – صاحب لواء المشركين يوم بدر – وقد أسره احد المسلمين : ( وصِّهِ بي يا أخي ) فرد مصعب رضي الله عنه موجهاً حديثه للمسلم : اشدد عليه فإن له أماً غنية تفديه. فقال أبو عزيز : أهذه وصاتك بي يا أخي؟! فقال المسلم الرائع الذي يرى أخوة الإيمان هي الأخوّةُ الحقيقية وما عداها ساقط ( صه ؛ فإنه أخي مِن دونك).

انطلق محمد بن مسلمة وإخوانه إلى كعب في حصنه فقالوا له:

إن هذا الرجل – يعني رسول الله عليه وسلم  -: قد أجهدنا في الصدقات، وعنّانا، فضاقت علينا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت البهائم، وإنا قد جئناك نستلفك طعاماً، نرهنك ونوثق لك.

قال كعب: والله لتملّنَّه وتكرهُنّه.

قال مسلمة: إنا قد تبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى نعلم إلى أي شيء يصير شأنه، ولا بدّ لاتخاذ قرار العودة عنه من سبب قوي يعذرنا الناس فيه.

قال كعب: أقبل رهانكم أن يكون نساءَكم.

قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! لا، غير هذا فاطلب.

قال كعب: فارهنوني أبناءكم إذاً.

قالوا: كيف نرهنك أبناءنا، فيُسبُّ أحدهم فيقال: رُهِن بقليل من الطعام، هذا عارُ علينا، لا نقبل به، ولكننا نرهنك دروعنا وسيوفنا، وأرادوا أنهم إذا جاءوا بأسلحتهم لا ينكر عليهم حملها ولا يخاف منهم.

 وانطلق هؤلاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بما كان،فدعا لهم وشيَّعهم إلى بقيع الغرقد.

ووصلوا إليه ليلاً ودَعوه لينزل من حصنه، فوثب إليهم مرّحباً، فقالت له امرأته: أين تخرج من هذه الساعة؟ قال: إنما هو محمد بن سلمة وأخي أبو نائلة.

قالت: أفي مثل هذه الليلة وأنا وأنت عروسان وأنا أخاف عليك؟

قال: إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب.

وكان مسلمة قال لأصحابه شأشمّه أولاً، فإذا شممته ثانية فاضربوه بالسيف، وحين وصل إليهم قال له محمد بن سلمة:

ما هذا العطر الطيب يا كعب؟! وشم رأسه مبدياً إعجابه، فقال له: هذا أطيبُ عطر، ثم قال متباهياً فخوراً؛ وتزوجت أعطرَ نساء العرب وأكملَهُنَّ.

قال محمد بن سلمة: هنيئاً لك يا كعب.

ثم ساروا يتحدثون ساعة ثم مال عليه محمد وقال: هات رأسك أشمّ العطر ثانية، فلما استمكن منه قال: دونكم فاقتلوه، فكانت نهايته، وصرخ صرخة سمعها مَن في الحصن ولم يجرؤ أحد على استجلاء الخبر، وانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم  نزف إليه الخبر.

وخاف اليهود حين سمعوا بمقتله على أنفسهم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه))، فوثب أحد المسلمين واسمه مُحَيِّصة بنُ مسعود على ابن سِنِّينة اليهودي فقتله -وهو تاجر كان يبايعهم- فقال له أخوه حُوَيِّصة: كيف تقتله وهو من نستفيد من ماله وتجارته؟( أتقتلُه وشحم بطنك من خيره)؟! وأغلظ له في الكلام وكان مشركاً، فقال مُحَيِّصة: لقد أمرني بقتله مَن لو أمرني بقتلك ما ترددت.

فقال حويصة: إن ديناً أصحابُه بهذا الإخلاص لدين عَجَبٌ، ثم أسلم.

البخاري الجزء الخامس كتاب المغازي ص25