ولادة
مأمون احمد مصطفى
الظلام يكلل كل شيء، لو مددت إصبعك أمام عينيك، فانك لن تراه، والجسد الملوح بالسياط والعصي والتعب منتصبا كشجرة حور عملاقة.
التعذيب طوال الساعات الماضية لم ينل منه شيئا، والوقوف الإجباري بسبب الربط الخلفي في ماسورة مثبتة بالحائط، الجلوس الإجباري على كرسي أطفال من الخشب مع التقييد التام لليدين والقدمين معا، اجبر الجسد ان يكون مقوسا تقوسا يشبه الانحناء بالرأس نحو القدمين، كل هذا لم يزحزح الرجل عن موقفه قيد أنملة.
عادت الذاكرة للعمل من جديد، هكذا يحصل دائما، حين لا تجد ما تفعله، فانك لا تستطيع ان تمنع عقلك من الانفلات على هواه ليعمل ما يشاء، ويصور ما يشاء. وفي عمله مع لحظات الهدوء القاتل، ولحظات التوقع القادمة من الظلام، تبدأ روعة العقل في الظهور لتطفو فوق كل الحدود والجدران، ترسم عبقرية فذة في صنع شيء ما للجسد المقهور والمغلول، هذا العقل هو الانتصار الأبدي على كل المعاقل العاتية، وسطوة القهر الطاغية. لا توقفه الجدران ولا تسيطر عليه القيود. هو حر داخل الزنزانة، وتحت السياط، حر برغم القيود الضارية التي تغل اليدين والقدمين في آن.
أستطيع الان ان أمر به فوق كل شوارع المدينة وأرصفتها، أستطيع ان أتجول بين رفوف مكتبة البلدية العامة، أتأمل بعمق خاص كل العناوين المرصوصة فوق الرفوف، أزور أهلي وخلاني، ألاطف أبناء أختي بضحكة عالية طويلة، أكاد أشرق بدموعي من شدتها، أرسم معالم خطوات أزلية لمعركة أجنادين، وذي قار، اقرأ المتنبي وجرير والفرزدق، ما زال لي عقل، إذن ما زلت حرا، ولن تستطيعوا سلب عقلي، آلات تعذيبكم، بطشكم، همجيتكم. كل هذه الأمور لن تغير شيئا لأنني الأقوى، الأقوى، نعم، ليس بجسدي، بل بعقلي.
طاف عقلي كثيرا، لكن أكثر ما توقف عنده، تلك الليلة المشؤومة.
كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل حين ظهر في السكون صوت سيارات متتالية تصطف في الحارة، وعلا صوت البساطير على الأرض بين جدران البيوت، حركات وأصوات غير اعتيادية في حارتنا، في هذا الوقت المتأخر من الليل، سكنت الحارة مرة واحدة، وما هي إلا ثوان حتى كان باب البيت يقرع بشدة.
أفاق أهلي من نومهم والنعاس ما زال فوق رموشهم، أفاقوا مذعورين مدهوشين، من سيأتي في مثل هذا الوقت الغائص في العتمة؟!
"من بالباب"؟ سأل والدي.
" جيش، افتح الباب" أتاه الجواب.
طوحت الكتاب بعيدا عني وخرجت من غرفتي صوب الباب الخارجي وفتحته.
كان يقف بالباب ثلة من الجنود المدججين بالسلاح وعلى أهبة الاستعداد، يتوسطهم شخص قصير أصلع بلباس عادي، على وجهه عوينات معدنية لمع إطارها حين أشعل والدي الضوء الخارجي، هو ضابط المخابرات كما توحي هيئته.
"أنت جهاد"؟ سأل مع ابتسامة صغيرة مصطنعة.
" نعم".
" هل تسمح لنا بتفتيش البيت"؟
أراد ان يبدو مؤدبا، نوع من التحاذق الثقيل، لو كان يعلم انني املك حق منعه من دخول البيت، ما أتى إليه مطلقا، ثم أي حق هذا أمام الحشد المدجج بالسلاح؟
دخل دون ان يسمع جوابي، واتجه مباشرة نحو غرفتي الخاصة، ودخل خلفه ثلاثة جنود، وانتشر خمسة آخرون في قاع الدار وأصابعهم متحفزة على زناد بنادقهم. حدق في المكتبة، وانزل مجموعة كبيرة من الكتب، قلب صفحاتها بتمعن وسألني بين فينة وأخرى عن موضوع كتاب أو مجلة، نبش الأدراج واحدا تلو الاخر، بتأن وصبر، وبأنامل صغيرة رفع أغطية السرير، وبسكين حاد مزق فرشته ونفش صوفها على ارض الغرفة، فرغ محتويات قوارير الورد فوق الصوف المنثور، كسر إطارات الصور المعلقة على الحائط وضربها بعصبية حادة بجدار الغرفة.
حدق في بغضب واضح، كوحش جارح يحدق في فريسته، نفض يديه وصرخ بشكل مفاجىء:
" أين العلم"؟
ضبطت نفسي بقوة وقلت بصوت عادي متزن:
" أي علم"؟
" علم فلسطين"
" ما زلت لا اعرف عم تتحدث".
" إياك ان تتحاذق معي، اخبرني أين العلم ووفر على نفسك ما لا تحب".
" ما زلت لا اعلم عم تتحدث".
" لا تريد الاعتراف، إذن بدل ملابسك وسوف تأتي معنا لنتفاهم هناك".
خلعت منامتي وارتديت ملابسي، خرجت من الغرفة، كانوا قد نبشوا البيت بكامله، حتى المطبخ لم يسلم من أذاهم، خلطوا كل شيء ببعضه، الدقيق مع السكر مع الملح مع الأرز مع الزيت، عجنوا المحتويات ببعضها، أتلفوها. تأملت وجه أمي، كان مربدا حزينا، قانيا، تعلوه الدهشة والانكسار، ويتوج عينيها الرجاء. ضمتني بعينيها الحانيتين، كانت الدموع تترغرغ فيهما وتتحجر، بدا الألم عنيفا طاغيا على وجنتيها المرتعشتين. لماذا لا تبكي يا أمي؟ أنا اعلم بأنك تحجزين دموعك بجهد كبير، اعلم ذلك يقينا، أنت لا تريدين ان تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون ان يروه.
أما أنت يا والدي، يا صاحب الكفين الطاهرين، والعيون الخضر كسهل مرج ابن عامر. اقسم بأنك ناقم علي الان، وانك غاضب على تصرفاتي، ولكن فوق كل هذا، اقسم أيضا انك تتمنى ان تفتح قلبك لتخبئني فيه، وانك اشد حزنا من مالك في هذه الليلة، لكنه قدري، وليس هناك من يستطيع الفكاك من قدره.
وأنت يا أختاه، يا صنو الروح وشقيقة القلب، ها أنا أتركك وحيدة، حبات الدموع المنسابة من عينيك كعقد لؤلؤ تكويني في سويداء قلبي، تكويني بعمق صارخ، لكني لست الأخ الوحيد الذي تنتزعه براثنهم من بين أهله، ولن أكون التخير، فهل يكفي هذا عزاء لك؟
وضعوا القيود في يدي ودفعوني أمامهم بفوهات بنادقهم، كانت المسافة من باب البيت حتى السيارات المصطفة على قمة الطريق مرصوفة بالجنود، وكذلك أسطح المنازل. رفعوني على أرضية السيارة بغضب، وجلسوا صفين متقابلين وبدأوا يضربون جسدي ببساطيرهم الثقيلة وفوهات بنادقهم الشرهة، وظلوا على ذلك حتى وصلنا باحة المركز، وهناك سحبوني من قدماي بسرعة خاطفة فترنح جسدي على الأرض، وخبط راسي بقوة بحافة حديد السيارة، واندفعوا جميعهم يكيلون لي الركلات والضربات بأعقاب وفوهات البنادق حتى استسلم جسدي للإعياء.
رفعوني من شعر راسي، قادوني والدماء تنزف من راسي ووجهي للداخل، نزلنا درجات طويلة تحت سطح الأرض، ودخلنا ممرا ضيقا مضاء بأنوار باهتة ثم انعطفنا يسارا فبدا أمامي باب حديدي هائل السماكة، فتحوا الباب فعلى صريره وقذفني احدهم بقدمه فاندفع جسدي داخل الصالة وهويت على الأرض واقفل الباب.
مرت لحظات قبل ان يفتح الباب ليظهر منه رجل طويل القامة، ضخم الجثة، قاسي النظرات، طويل اليدين، كفة يده كخف جمل جاب الصحراء ألف مرة. حدجني بعينيه، ضرب كفيه ببعضهما فعلا دوي هائل تردد صداه في الصالة، تقدم وهو يفرك يديه بفخذيه وأطبق يديه على كتفي بشدة، شعرت بانهما ينخلعان من جسدي، شدد الضغط، وشدد حتى استنفذ كل طاقته وقوته. تقوست قدماي وبدأ جسدي بالهبوط ببطء وما كاد يلامس الأرض حتى رفعني بقوة وخفة شديدتين، ولطمني بكل عزمه على وجهي فطار جسدي كريشة ليصطدم بالحائط المقابل ويرتد نحوه بسقطة قوية على الأرض.
رفعني مرة أخرى، أطبق بيديه تحت إبطي، غامت الدنيا أمامي، وترنحت أناتي بصدري وفقدت توازني حين سدد لوجهي لطمة جديدة صدمتني بالحائط واسقطتني ارضا من جديد، انتشلني بخفيه الضخمتين واسندني إلى الجدار، وبصوت عميق كأنه آت من أعماق مغارة سحيقة صرخ:
اخلع ملابسك.
حدقت فيه بدهشة واستغراب وكأني لم اسمع ما قاله، اقترب مني حتى كاد يلامس جسدي، وضع خفيه على وجنتي وبسرعة البرق رفعهما واعادهما بصفعة هائلة على أذني، هويت نحو الحائط متكوما كجذع نخلة خاوية، سحبني من أذني وألصقني بالحائط وقال هامسا:
- حين اطلب منك ان تخلع ملابسك، عليك ان تخلعها وبسرعة. عانيت كثيرا كي ارفع عيني في وجهه، قلت بصوت متقطع متحشرج من شدة الإعياء:
- كيف اخلعها وأنا موثوق اليدين؟ أدار المفتاح بالأغلال وسحبها من يدي ناظرا إلي باستعلاء وتقزز ظاهرين.
- "اخلع ملابسك بسرعة". خلعت القميص والشباح، صرخ بي ان اخلع البنطال والسروال الداخلي. " رفضت". استشاط غيظا وانهال علي باللكمات والركلات وهو يصرخ طالبا المعونة، فدخل ثلاثة آخرون يحملون السياط والعصي، اجتمع علي أربعتهم بكل عزمهم وقوتهم، وبكل عزم سياطهم وقوة عصيهم، وغصت في دوامة الإنهاك.
لم اعرف ماذا حصل، كل ما اذكره انني وجدت نفسي موثقا بسلسلة معلقة في سقف الصالة، أما يداي فكانتا من اثر التعليق أشبه بجوربين معلقين على حبل في يوم عاصف. أمسكت بكف يدي اليمنى طرف السلسة من فوق الرسغ، وشددت جسمي للأعلى كي أريح يدي اليسرى ثوان معدودة، وحين اشتد الألم في اليد اليمنى عكست الأمر، وعاودت الكرة مرة أخرى، وهكذا.
دخل الصالة وهو يبتسم ابتسامة صفراوية كوجه عجوز ميتة، دفعني بخفيه فاخذ جسمي يتطوح بعشوائية شديدة في فضاء الصالة، أما معصماي فكأنما انغرست فيهما مسامير فولاذية. وقف بعيدا وفي يديه سوط اسود، وكان كلما اقترب الجسد منه يهوي عليه بالسوط. كان مخلصا في عمله، متفانيا في أداء واجبه، خفاه لا تعرفان التعب، أما العرق المتصبب من جسده بغزارة فهو دليل واضح على انه يأكل لقمته من عرق جبينه.
اسمه " أبو خديجة ". هكذا سمعتهم ينادونه قبل ان يغمى علي، صحيح ان الصورة كانت مشوشة آنذاك، إلا ان هذا الاسم رسخ في ذاكرتي وكأنه نحت بأزميل فولاذي.
دورة العذاب سائرة لا تنتهي، حين يزهق أبو خديجة يدخل غيره وهكذا، حلقة محكمة قاسية وعلي ان احيا في قطرها، أدور فيها كالثور يدور حول الساقية، لكن الثور يدور لأنه خلق لهذا الأمر، أما أنا؟!
عاد صاحب الخفين، خبير العذاب والألم، دفعني بقوة فطار جسدي بعيدا بسرعة فائقة، وحين اقترب منه عائدا، لقف جسدي من القدمين وهزني للأسفل، صرخت، نعم صرخت، كانت الصرخة الأولى، لكنها أتت من كتفي الذين طارا من جسدي بسبب الهزة، لم تكن من فمي أبدا، اقسم على ذلك أغلظ الأيمان، لساني وقتئذ كان متجمدا، متحجرا، ميتا لا حياة فيه. لكن الصرخة بقدر ما مزقتني بقدر ما أفرحته، داعبت نفسيته ودغدغت ساديته. تبسم مستشعرا لذة الانتصار، فأعاد الكرة، لكني لم اصرخ، ليس لأني لم أحس الألم، بل أحسسته أكثر لان الهزة كانت أقوى واعنف، إنما هو التحدي. هو يجلدني بسياطه وخفيه وقدميه، يعلقني بسلاسله، لكنه لا يشعر باللذة والمتعة إلا حين اصرخ، هكذا أنبأتني ابتسامته وبريق عينيه حين فلتت الصرخة مني. لذلك لن اصرخ، سأجلده أنا الان، جاء دوري، لقد كشف لي عن نقطة ضعفه وانهياره، سأنتقم منه بقص لساني وإسكاته، أما كتفاي اللذان صرخا فليعاقبا بشدة هزاته على الفرحة التي قدمت له بسببهما.
الان " أبو خديجة " يبدأ التحدي، أنت بكل ما تملك من قوة، وأنا بكل ما املك من احتمال، أنت الذي بدأ، وأنا قبلت التحدي، وسنرى من سيركع في النهاية، من سيستسلم.
الوقت في هذه الصالة صيف طويل، فهي من غير نوافذ، ومضاءة دوما بنور اصفر باهت، لا تدخلها الشمس، لكن لا بد وأنها تضرب جدرانها بحرارتها اللاهبة، خيوط صفراء باهتة مرسلة من المصابيح المتدلية وسط الطرقة الضيقة التي تؤدي إلى الصالة، لكني رغم ذلك استطعت ان احدد ببساطة بعد مرور أيام على وجودي في هذه الصالة وقت الليل من النهار. العزلة تنفيك عن العالم الخارجي نفيا تاما، هذا صحيح، لكنها تدفعك لامتلاك حواس خاصة شديدة الرهفة، لا تستطيع امتلاكها بغير هذه الأجواء، هي حواس الضرورة الراهنة، مثال على ذلك: انني لم استطع تحديد الليل من النهار إلا من خلال السياط التي كانت تجلد جسدي، ففي أحيان كانت السياط تهوي على جسدي مؤلمة شديدة الألم، أنا اعترف بذلك، لكنها في أحايين أخرى كانت تهبط على جسدي كالجمر، كاوية شديدة الحرارة، فحين كانت تنزل مؤلمة كنت اشعر جسدي حارا يملأه الدفء، وحين يكون حسدي باردا ينهال السوط كجمرة لاذعة. الفرق إذن، ان جسدي حين يكون دافئا، معنى هذا ان الدنيا ما زالت تتوسط النهار، وحين يكون باردا، يكون الليل قد خيم، بهذه الطريقة ومن خلال عذاب السياط استللت مقدرة خاصة منحتني قوة خاصة رغم أنوفهم.
أرادوا عزلي فنجحوا، أرادوا ان يكون نهاري ليلا ليس بالرؤية فقط، إنما بالإحساس أيضا ففشلوا، خانتهم سياطهم، وآزرني جلدي.
والزنزانة، هذا الجحر الصغير الذي صنعوه ليرموني فيه كفأر، أي عالم واسع رحب فيها حين ادفع داخلها ويوصد الباب علي وانكمش لاما جسدي، مدفئا أجزاءه ببعضها، يهجر النوم عيني، واغرق في بحر من صاخب من الأفكار المتأنية والصبورة، فتنفتح أمامي عوالم جديدة، عوالم يتفجر فيها الربيع مزهوا بحنونه وشقائقه. الزنزانة بكلمة بسيطة هي التأمل، فيها أستطيع الاستغراق في كل شيء، الأحداث والتاريخ، الأدب والفلسفة، العلم والنفوس البشرية استغراقا تأمليا يحكمه العقل ويحده المنطق. فيزخر رأسي بالمعاني اللامعة الجديدة لكل سطر، لكل سطر، لكل بيت من الشعر كنت قد قرأته، المعاني الجديدة في جو هذه الزنزانة الغارقة بالظلمة والوحشة والسكون، جعلتني اسخر من المعاني القديمة، تلك المعاني أصبحت أمامي باهتة تماما كالضوء الأصفر المعلق وسط صالة العذاب.
في الزنزانة رأيت الله، أحسست قوته القاهرة بأعماقي كما لم أحسها من قبل. وتأكدت يقينا بأنه يقف بجانبي، فاستشعرت العظمة والشموخ تنغرسان في قلبي أعمدة من نوره الوضاء. وتذهب الظلمة، فيجلل النور الساطع روحي، وتنفتح أمامي مسافات الأرض كلها دون عناء، يتسرب الألم من شقوق الجروح في جسدي خائفا مرتبكا، أدوسه بقدماي واسحقه من رأسه حتى ذيله، فتغمر النشوة قلبي، ويتفتق الإصرار بعقلي صور إباء وشموخ وتعال، يندفع الدم في عروقي بنشاط وحيوية، يغلق جلدي نفسه على الشقوق المفتوحة فيه، فأتذكر أبي الطيب حين يقول:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
واضحك، جروحي يا هذا أغلقت نفسها بنفسها، لكنها حية، لو كنت تعلم بان هناك جروحا ستداوي نفسها ماذا كنت ستقول؟
الناس ترهب الظلمة، وأنا اعشقها. فهي هنا، وهنا بالذات لحظات استنارة كلية لعقلي، تضيئه بنور ساطع وضاء، اشد من إضاءة الكهرباء في غرفة مكتبتي، بل واشد من نور الشمس في وسط الظهيرة، هنا املك ذاتي، بالحقيقة، بالتجربة، بالواقع، وليس بالكلام والتشدق، القوة ان تملك نفسك ساعة الخطر، وأي خطر أعظم مما أنا فيه.
أساليبهم الوحشية كلها توسلات لي من اجل كلمة، كلمة واحدة أقولها، جميعهم يركعون تحت قدمي، سياطهم، عصيهم، سلاسلهم، زنازينهم، عرييي، الكهرباء التي دفقوها بأعصابي، ركلاتهم، بنادقهم، كل هذه تركع تحت قدمي من اجل كلمة واحدة يقولها لساني وارفض، فيجلدهم رفضي ويعودون كلابا تهز أذيالها خيبة وحسرة.
أتحول قطعة من اللذة، اللذة المشحونة بالنصر الحقيقي. يتقمصني عظماء التاريخ في لحظة واحدة، أعيش معهم، أحدثهم، يصغون إلي باهتمام بالغ، يبتسمون حين اخبرهم بعقابي لكتفي حين صرخا ألما، يبتسمون بشوق عظيم. أمد لهم لساني الصامت، فيتأملوه ساعات وساعات بإعجاب ودهشة، أشير لهم نحو الألم المسحوق، يحدقون فيه بتمعن، وامنح كلا منهم كومة كبيرة من صبري، يدخلونها في عيونهم، يمسدوا شعر راسي، يضغطوا على أناملي ويودعوني وكلهم شوق للقاء جديد.
انفتح باب الزنزانة، دخل ثلاثة من الجنود، دفسوني بأقدامهم إلى الخارج ثم أوقفوني عنوة، ووضعوا القيود في قدمي ويدي، أما راسي فقد ادخلوه في كيس اسود عفن، وساقوني بركلاتهم دون ان ادري إلى أين. داخل الكيس الأسود الذي وضعوا راسي فيه أحسست حركة تنمنم وجهي بانتظام غريب، مسحت بيدي المغلولتين فوق الكيس فشعرت برودة غريبة على وجنتي اليمنى، أدركت الأمر، لا بد أنها قملة أو أنثى سيبان انفجرت حين ضغطت على الكيس فسال دمها على وجنتي كحبة برد.
صعدنا درجات طويلة والتوينا يمينا فبدأت الضوضاء تصل اذناي قوية من خلال الأصوات المتداخلة بالضحكات المتفرقة والصراخ الحاد. نغمات موسيقية عذبة ترامت من مذياع في الجهة اليمنى خلفي فتسللت إلى قلبي تداعبه برخامتها وسموها. وفجأة أوقفوني، خلعوا الكيس عن راسي وفكوا الأغلال، ألصقوني بالحائط، تقدم احد الثلاثة نحو الباب المقابل، قرعه ودخل، ثم عاد وامسكني من يدي وأدخلني الغرفة.
- جهاد سيدي الكابتن.
- حسنا اتركه.
الغرفة صغيرة، فيها مكتبان متعاكسان، احدهما يعطي ظهره للشباك المطل على الشارع، والثاني يقع بشكل مواز تماما للشارع نفسه، وعلى كل مكتب كان يجلس احد رجال المخابرات وأمامه حقيبة دبلوماسية من الجلد الطبيعي ومجموعة من الأوراق الفارغة، ووسط المكتبين، حيث الفاصل منفضة دخائن ضخمة غير متناسقة تبدو وكأنها جمجمة مسخ وضيع، وبين المكتبين كرسي من الخشب تدل شدة صفاره على قدم عهده في هذه الغرفة.
انتصب الكابتن وأفسح طريقا وأشار لي بإصبعه كي أمر من أمامه، مررت فأصبحت بين المكتبين تماما، وبسرعة أدرت نفسي نحو الشارع لألقي عليه تحية لم القها عليه منذ أيام.
- " تفضل بالجلوس " قال الكابتن. ولما جلست بدأ يدور بالغرفة وهو يضع القلم على شفته السفلى وكأنه مستغرق بأمر عظيم. اقترب مني فالتقت عيناي بعينيه، ابتسم نفس الابتسامه الصفراوية المصطنعة. نفس الابتسامة لم تتغير منذ ابتسمها لي على باب البيت، عاد يدور من جديد، وبشكل مفاجىء سألني:
- هل تحب ان تشرب شيئا ما؟
- لا.
- لا تخجل، لدينا أي شيء توده، قهوة، شاي، ماء.
- لا.
- هل تدخن؟
- نعم.
- تقضل دخينه، علبة الدخائن امامك.
- ليس في بالي.
- لماذا يبدو عليك الخوف، لا تخف.
- لا أنا لست بخائف، ولماذا أخاف؟ ليس هناك ما يدعو لذلك.
- حسنا، حسنا، لندخل في الموضوع، ما رأيك؟
- كما تشاء.
أزاح كرسيه قليلا ورمى نظره نحو الشارع وعاد ملتفا نحوي من جديد.
- اسمع سيد " جهاد"، أنا لا أريد أن تبقى في العذاب ولا أحب ذلك، ولكن طالما انك اصطدمت بأمن الدولة فواجبنا يحتم علينا ان نحافظ على هذا الأمن وان نعيدك إلى رشدك، وقبل ان ابدأ أسئلتي هناك أمران مهمان يجب ان تعرفهما وتكون واثقا منهما تماما:
الأول: انك الآن بين أيدينا وحيدا، معزولا عن كل العالم وكل شيء في هذه المدينة بكاملها، بل أنت معزول عن العرب بكاملهم، كل الناس، وحتى الله، لن يستطيعوا الوصول إليك إلا إذا شئنا نحن ذلك. نستطيع ان نفعل بك ما نشاء، نعذبك اليوم بساعاته الكاملة، نفرم أذنيك، نستل عينيك، أي شيء تتصوره أو لا يخطر لك على بال نستطيع ان نمارسه نحوك ببساطة تامة ودون جهد.
والثاني: أننا نعلم عنك كل شيء، أقرب الناس إليك يوافونا بتقارير كاملة عنك يوميا. ماذا تأكل؟ لون ملابسك، عطرك المفضل، ماذا تقرأ، في أي الساعات تكتب، حتى ملابسك الداخلية نعرف عنها كل شيء. التفاصيل والتقارير، ها هي، في هذه الحقيبة، سوف اريك إياها في نهاية التحقيق. تأمل وجهي، كان يبحث في قسماته عن اثر ما، أي اثر احدثته الكلمات في نفسي، اخترقت عيناه جلدي، نبشت بداخله بنفس المهارة التي نبشت أنامله أدراج مكتبي، لكنها عادت خالية. لأني لست وحيدا، ان الله معي، بجانبي، أحس وجوده بقوة غامرة، ثم انني املك الكثير أيضا، أملك شرفي وأمانتي، أملك دموع أمهات لم تسقط بعد، وأنا، أنا الوحيد القادر على حمايتها من السقوط، لأني املك التحدي مع كلبكم الأمين " أبو خديجة "، أملكه بإحساس قاهر لذاتي، لعقلي، لقلبي، فكيف أيها المسخ القزم تظن بأنك قادر على النفاذ من هنا، كيف تظن انني وحيد وسط كل الأشياء العظيمة المهتزة بداخلي والمنتشرة كنقاط نور في دماغي؟
أما معرفتك لكل شيء عني، فهل أسهل من هذا أي أمر؟ أنا واثق انك تعرف عني الكثير، ولكني واثق انك كاذب متمرس حين تتشدق بمعرفتك شيئا عن أكلي أو ملابسي الداخلية. أيها الكابتن انضج قليلا وزد في طولك شبرين، شبرين فقط، حتى تستطيع ان تقول شيئا يوازي عقلي، أما قصرك هذا فانه يجعل كلماتك تسقط عند حذائي تماما حين تتكلم، أتدري لماذا؟ لسبب بسيط جدا، لأني أعلى منها بكثير. مضت الساعة الثالثة منذ بدء التحقيق ولم تأخذ مني شيئا، سؤالك عن أصدقائي، نشاطات جيراني، هوايات زملائي في المدرسة لن تستفيد منه شيئا، لا تحاول إرهاقي، لأنك لن تقدر على مثل هذا الأمر، صحيح أني لم انم منذ ثلاثة أيام، لم يغمض لي جفن ولم يسترح جسدي من السياط، لكني املك طاقة كبيرة، اكبر كثيرا مما تملك أنت، املك سرا لن تنتزعه مني مهما فعلت، املكه أمانة، أمانة دموع أمهات لم تسقط، وقلوب أباء لم تخفق حزنا بعد، وروح أخوات متأججة بدفء أخوتهن بقربهن.
ألا تدرك الآن يا هذا الفرق بين ما تملك وما املك، بين ما تريد، وما أريد، ألا يكفيك هذا دليلا على نوع القوة التي أتمتع بها. أكثر من عشرين ساعة مضت وما زلت تدور حولي ككلب جائع، ألا يوصلك هذا إلى درجة اليقين، أنت تدور وأنا جالس، أنت تغضب، تصرخ، تشتم، تلعن، وأنا مكاني راض فرح، تدخل النشوة أعماقي حين يفلت راسك من عنقك، فتهيج كالثور الأحمق أمام اللون الأحمر، أحس ضعفك والمس بأنامل أصابعي الخمسة عجزك وخنوعك.
ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني؟ أنت امرأة في موقع القوة، ما رأيك بتجربة قصيرة مداها لحظات، دع الأمر يتبدل علي، لحظات، لحظات فقط، اقسم انك ستكون كداعرة الأرصفة في مجتمعكم تنبطح لعشرة رجال في نفس اللحظة التي تظهر أمامها ورقة نقد تافهة، ثم ان أمي ليست عاهرة يا هذا، أنت تعرف هذا جيدا، تريد إثارتي بهذه الكلمة، لكنك لن تنجح. ولكن، هل سالت أمك كم مسخ مر فوق جسدها طوال حياتها، ابن أي مسخ أنت منهم؟ جرب ان تسألها إن كانت غير صندوق نفايات يلقي فيها كل المسوخ كل يوم ما يتقيـأ جسدهم، وعندها عد إلي وضع عينيك في عيني.
علمي رفعته بكل شجاعة وجرأة، ولكن لن أخبرك بذلك مهما فعلت، وسأرفعه فور خروجي من عندكم، وقبل ان اقبل يد أمي وأبي، وقبل أن أعانق أختي وأخي، وقبل أن أداعب أبناء أخوتي، تلك العصافير الصغيرة التي تتدرب على الطيران لترتفع بالعلم حتى تجعله يلامس وجه السماء، وسأبصق في وجه كلابكم أمام الناس، في وسط المقهى، سأنثر بصقاتي في وجوههم بكل قوة، ثم امسحها بحذائي، وبعدها فليحصل ما يحصل. أما الآن فاني ابصق عليك بصمتي وإصراري، ارني أنت شجاعتك، رد الأمر علي إن استطعت، أنت لا تستطيع، أنا واثق من هذا، فلساني أقوى منك وممن كل من ورائك أيها القزم، أيها المسخ اللعين.
ان تكون في دوامة العذاب خير لك من ان تكون مشاهدا لها، والمثل القائل بان الذي يأكل العصي ليس كالذي يعدها مثل فارغ لا فائدة منه، يجب ان يلقى في سلة مهملات ليدفن في لهب الحريق.
كنت أقف استل عصبا من جسدي لأجعله ركيزة لعصب آخر، مزقت جلدي، حفرته، أخرجت أعصابي لأركز عليها ما تبقى من أعصاب، عيناي، آه لو فقدتهما، وأذناي كم تمنيت لو ثقبتهما، كي لا أرى المشهد ولا اسمع الصراخ، لا أرى تلويه ودموعه، لا اسمع صراخه الذي يفتت الفولاذ.
أجلسوه على كرسي من الحديد، رفعوا صدره بشكل مستقيم، قيدوا صدره بسلسلة ضخمة، وربطوا قدميه بأرجل الكرسي بسلاسل مثل التي قيدوا فيها صدره، مدوا يديه على حاجز حديدي وضبطوا الرسغين بأقفال ضيقة، فثبتت الرسغين ثباتا تاما، ثم ادخلوا بين أصابع يديه حلقات حديدية تضيق وترتخي بصواميل في وسطها. أرخوا الصواميل بشدة وزرعوا في ثقوب الحلقات مسامير ثم ضيقوا الصواميل بقوة فانفرجت الأصابع العشرة انفراجا حادا لا يستطيع الإنسان وهو حر اليدين ان يصل بانفراجهن إلى هذه الدرجة.
وقف أبو خديجة أمامه والابتسامة تعلو وجهه، نظر إلينا بحقد اسود وتناول كماشة من يد زميله، قربها من وجه الأسير، ضغط بها على شفته ضغطة صغيرة فنفر الدم على لحيته وعنقه.
- ما رأيك هل ستعترف؟
وكان الصمت ابلغ جواب، وضع كماشته على الجزء البارز من الظفر، سحب بقوة فقفز الدم كنمر، كسهم بعيدا حتى وصل منتصف القاعة ودوى الصراخ وتلوى الرأس وبرزت الدموع من شدة الألم. لم يخلع أظفره اللعين. سحبه من جذره وعاد إليه، بدأ يخلخله ببطء شديد، يسحب ثم يرخي، بحركة دائرية بين ثنايا اللحم، والصراخ يعلو والدم يتطاير زوابع متفرقة. انخلع قلبي من مكانه، شعرت بعجزي لأول مرة وأردت البكاء فلم تطاوعني الدموع، اجتاحني غثيان قاتل فاستفرغت ما في جوفي. حصنت عيناي محاولا ان لا أراه فهوت سياطهم وعصيهم علي مثل المطر، وأمسكوا راسي بقوة، لقد أرادوا أن أحدق، أن أتعذب، ضعوني مكانه اقسم انني موافق ولكن لا أريد أن أراه هو. لا أريد. انخلع الظفر من مكانه تماما، وأطبقت الكماشة بعنف على الظفر الثاني، وبقوة وبلمحة عين كان الظفر في فم الكماشة النهمة، أما الدم فقد طار من الإصبع بقوة كالغاز المضغوط حين يخلى سبيله فجأة.
خلع الأظافر العشرة استغرق ما يقارب الأربع ساعات أو يزيد، استنفذ خلالها أبو خديجة كل خبرته وفنه في التعذيب، خلخلة الظفر، الدوران فيه بين ثنايا اللحم، عكفه للخلف، الميلان به بزاوية حادة وخلعه وهو مائل، محاولة إعادته للإصبع بعد خلعه، ضرب الإصبع بمسطرة معدنية أثناء الخلع. قدرة فذة في التعذيب، فقد الأسير من جرائها وعيه مرات عديدة، رشوه بالماء في كل مرة، ما قيمة العذاب وهو فاقد الوعي؟ من أين ستأتي المتعة واللذة لهذا الخبير من غير تلو وصراخ ودموع.
أما نحن الذين شاهدنا المنظر فقد طار صوابنا، تجشأنا الألم حتى كدنا نخنتق به، ففقد كثير منا الوعي، هوت قلوبنا حسرة بين أحشائنا، لمسنا عذابه بأناملنا وقاسينا ما قاساه بصورة أفظع، يكفي علينا شعورنا بالعجز، بالشلل، أمام تلويه ودمائه ودموعه.
حتى ونحن في زنازيننا مزقنا الألم، وانتزع من عيوننا النعاس ومن عقولنا التفكير، كان صراخه يأتينا واضحا ممزقا السكون، مبددا الوحشة، كان يصرخ بوحشية كثور هائج وبحر صاخب، مدة طويلة ثم يضعف شيئا فشيئا حتى يبدو كخوار الثور وقت الحشرجة. وفي الصباح بدا عاجزا، عاجزا تماما، يداه ممدودتان على فخذيه لا تتحركان وكلما حاول رفعهما كانتا تقطران دما، ويعلو صراخه المجنون ليهز جدران السجن بأكمله، نحن من يطعمه، نسقيه، نضع الدخينة بين شفتيه، نأخذه للحمام. أما هو فقد توزع بين شعورين حادين كحدي الشفرة، شعور الألم وشعور العجز.
اسمه مناسب لكل صفاته وخلاله، لقد أحسنت أمه مرتين:
الأولى: حين أنجبته.
والثانية: حين أسمته منتصر.
الليل بطيء وثقيل والنفس الموزعة بين الفراق واللقاء تصليني، تقلبني على جمارها المتقدة بخبث ودهاء. سنتان يا أمي! سنتان! ما لمس راسي حضنك ولا أنغمر في صدرك الحاني، عذبني الشوق إليكم، لأحاديثكم، لسمراتكم، لمعارككم، لكل شيء فيكم حتى رائحتكم، غدا وما ابعد الغد، كأنه السنتان لوحده. غدا ادفن راسي بصدرك، الثم يديك، أمسد تجاعيد قدميك، احضن أبي، اقبل كفيه الطاهرين، وأجثو عند قدميه الثمهما. أخوتي، أبناءهم، سيرن صوتهم بسمعي مثل موسيقى ملائكية، خالي، عمي! احملهم فوق كتفي إلى البقالة لأحملهم حلوا وسكاكر، أدغدغ وجناتهم بشوقي واشتياقي، أضمهم جميعا لحضني وقت النوم وأغفو على نغمات أنفاسهم المنتظمة.
لكني أصدقك القول، اشعر بالحسرة حارقة في حلقي أمام عيون أخوتي الذين معي، لا اعرف كيف ساحيا بعيدا عنهم، هؤلاء يا أمي أخوة البطولة والعذاب، أخوة الألم، الم الروح لا الم الجسد، هؤلاء كيف احيا بدونهم بعد كل الذي خضناه وقاسيناه معا. أنا فرح لخروجي، فرح للقائي بكم، وحزين كذلك بسبب فراقي لهذه العيون الصادقة، لهذه القلوب العامرة بصدق المودة والوفاء.
اليوم، اليوم فقط، سالت الدموع يا أمي، تصوري لم ابك طوال سنتين من القهر والكبت والعذاب، أما الليلة فقد انسابت دموعي غزيرة وأنا أتلمس أجسادهم واشد على أيديهم. – على فكرة – يدا منتصر عادتا صخرتين صلبتين وقد ضغطت عليهما بكل قوتي، ابتسم، عرف ما قصدته. الم اقل لك أننا نتحدث بالأيدي، بالعيون، بالألم، بالتحدي، حاجتنا للسان قليلة، بل نادرة، عقولنا متشابكة على نفس الخط، قلوبنا متعانقة على نفس الهدف، كل شيء بيننا مشترك، ليس هناك ما هو لي وما هو لك، هنا كل شيء لنا، حتى أمومتك لم تعد لي وحدي لأنهم جزء مني، جزء لا ينفصل، متعلق بالروح، والروح لا تنفصل أبدا.
الآن كم تمنيت لو كنت بجانبي هذه اللحظة لتشتركي في الحفل المقام بمناسبة خروجي، كلهم يعمل بفرحة الألم، حتى النوم حظروه هذه الليلة على أنفسهم، يريدون ان يحيوا لحظاتي الأخيرة بكل عمقها وتأثيرها. وحين يطلع الصباح علينا تنسدل الستارة، تنسدل على عامين قضيتها في كنفهم، تنسدل لتفتح على فصل جديد لقادم جديد.
سنتان يا أمي بأيامها وشهورها، ساعاتها وثوانيها، عشناها بكل ما فيها من زخم وفوضى وكبت وقهر، ويأس وأمل وفرح، حتى دماءنا جعلونا نلعقها بالقوة عن أجساد بعضنا، فوحدوا فينا الدم دون ان يدروا، ولو عرفوا معنى وحدة الدم ما جعلونا نلعقه أبدا، لحالوا بيننا وبين هذا الأمر بكل ما أوتوا من قوة وبطش. دمي يسري بأوردتهم في هذا السجن وذاك، ولي بعروق من فيه طوفان من الدم، وكم من طوفان لهم بعروقي.
وغدا، غدا صباحا لا اصدق الأمر، سأتركهم، وسأخرج للمشي في الشوارع، للأرصفة، لأقلامي وكتبي، لأهلي وخلاني، لذكرياتي، لتراب الأرض الذي يحمل أثار خطواتي الأولى.
وسأتركهم، للظلمة، للجدران، للعزلة، للألم، للحرمان.
أي مفارقات هذه، أي تناقض صاغته الحياة لنا من دون شعوب الأرض.
وكان صباح وكان وداع، غطت الدموع عيناي ولهث قلبي متعبا من شدة الخفقان، لمست أيديهم جميعا يدا يدا. قبلت جباههم جبهة جبهة، وحدقت في عيونهم، قرأت فيها بريقا يشع فرحة ويشع ألما، وكانت البسمة الأخيرة مع صفعة الباب الحديدي العنيف، أصبحت خارجه لكنهم ما زالوا يا أماه خلفه مغمورين بالبطولة والرجولة شاء الزمن ذلك أم لم يشأ.