الناصحون

 كل ما في هذا اليوم محبط ،مقيت ويثير الإكتئاب ، فالجو قائظ والأرض على غير العاده من كل عام ، قاسيه ، ناشفة وكل شيء بها قد عراه الذبول ، ولو لم تكن طلائع الثوار تتوافد الى الجبهة لما تذكرت أني في سوريا . لكن ما زاد حالي سوءاً في هذا اليوم هم الناصحون العابرون.

بداية هذا اليوم الباهت مرّت "مريم" ، صرخت بإسمي من بعيد فأشحت بوجهي متظاهراً بعدم الانتباه لها، لأني اعرف أنها ممن لا يترك نهايات سائبه في أي حديث.

لكنها اقتربت أكثر وبعصبيه زعقت بأذني تتسائل سبب تجاهلي لها , وعبثاً كانت محاولاتي لتبرير موقفي , إذ لم يقنعها قولي أني كنت منشغلاً بغرستي .

امتصصت غضبها عندما حولتُ الحديث إليها وسألتها عن عائلتها ، فكانت سيدة الحديث بلا منازع ، إذ تحدثت مطولاً عن حالتها في النزوح ..عن زوجها في صفوف الثوار على خط الجبهة ، وعن حال ابنها بعد اغلاق المدارس جراء الثورة العاصفه في البلاد.

ثم سكتت قليلاً وسألت بفضول:

- ماذا تريد ان تصنع بهذه الحفرة ..أتريد أن تزرعها...؟ أممم عرفت الآن لما السنه ممحله ولما تأخر نزول المطر هذا العام..لأنك قررت أن تصبح مزارعاً يا وجه النحس ..  هئ هئ ..وماذا تريد أن تزرع..؟

أجبت بابتسامه زائفه:

- توت..

- توت!! يبدو أن الحرب أثرت بك فعلاً... يا غبي أرضك منخفضه ورطبه في الصيف لذا ازرعها رمان..نصيحة أختك مريم..

بعدها بدقائق وقبل ان ازفر مللي من حديثها نط امامي (عبد الرازق) بحركه مفاجئه و باهته ليخيفني ممازحاً ، فبانت قامته المدعوله أمامي كمسمار صدء حتى دفعت معدتي للدوار ، أما زوجته وبالقرب منه فضحكت لحركته تلك ضحكاً خرج من خياشيمها ، ولفرط ضحكها أمسكت خاصرتها بيدها.

أما انا فلا اقدر إلا ان اضحك مجاراةً لهما وفي نفسي كنت اتمتم "قدِرٌ ووجدت غطاءها" اذ هما مدرسان وزوجان شعبيتهما في قريتي صفر. جلسوا بالقرب من غرستي ثم غرسوا انوفهم بأذناي ولم يبقوا احدا في القريه إلا وتناولوه بسوء.

وعندما لم يجدوا مايشركوني به من حديث سألني "عبد الرزاق" عما أنوي زراعته في هذه الحفره.

وعندما أجبته : ( توت ورمان) إنتفض أمامي قائلاً:

-لا يارجل ، سامحك الله اسمع مني وازرع تين ، أولاً يتحمل العطش وثانياً الطلب عليه يزداد كل يوم..

ثم أخذ يشرح لي بعشوائية بعيدة عن سياق الموضوع عن ضرورة مرونة الموارد الاقتصادية وقدرتها على التكيف بالاضافة إلى قوانين السوق وآلياته في العرض والطلب ، حتى اعتقدت في سري انه من رواد المدرسة الكلاسيكية في التجارة الدولية.

أما زوجته فكان لها رأي آخر ،وقفت ورددت مقاطعه بعد أن أسندت خاصرتها بيدها:

- تين.!! أيزرعه للدبابير والغربان؟ ازرع (جوز) سعر الكيلو لا يقل عن ألفي ليره صدقني ستكسب..

 وكأن جدالنا وجلستنا تلك كان ينقصها  "دوجان" عجوز في الثمانين لكنه لازال يحتفظ بقوته وسلاطة لسانه، قدم إلينا فجأه وقد كوّر يداه خلف ظهرٍ منحني ،جلس وأخذ يحدثنا بكسل وبتفاصيل ممله كيف ذهب الى بيته في هضبه الجولان وزرع مئة غرسة زيتون وسقاها في غضون ساعه ورجع دون أن يلحظه عناصر الجيش الحكومي ويقتلوه.

كل واحد منّا يعلم في سرّه أن هذا العجوز يبالغ في حديثه لكننا أضعف من أﻻ ننبهر بأنجازاته وإﻻ كنا وجبه سهله لفمه الذي لا يعرف سوى طعم الشتيمه.

وخلال ساعه ويزيد من الحديث المتواصل عن يومياته أدار رأسه إلي ثمَ سألني:

- لما هذا الفأس أتريد أن تزرع شيئا؟

أجبت بتململ:

- إن شاء الله

- ولما لا يشاء الله ، فالله بارك بالزراعه.

- أقصد ان لم يمتني الله سأزرع..

- ولما يميتك الله فأنا أعرف انك ممن لم يحملوا السلاح ، هل انت مع الثوار..؟

- أقصد إن لم يصبني احتشاء في القلب أو يتخثر دمي أو لم يسقط عليّ برميل متفجر فجأه سأزرع..

-.. طيب وإن لم يصبك احتشاء في القلب أو يتخثر دمك أو لم يسقط عليكّ برميل متفجر فجأه ..ماذا تريد ان تزرع؟

قلت بحنق:

- توت ورمان وتين وجوز..

نظر إلي وقد زمّ شفتيه باستغراب ثم قال:

- يا ولد أبكَ خَبَل؟..هل انت ادرى من ربنا.. جاوبني؟

- أعوذ بالله..

- اذاً أطبق فمك وازرع زيتون ..لأن ربنا أقسم "بالزيتون"..

ثم أخذ يعدد فوائد الزيتون بطريقه تجعلك تكره الزيتون..

وبحركه غريبه حصل جدال حاد بين الأطراف الأربعه وكل طرف تحول إلى مدافع صلب عن نظريته. أما أنا فقد أسندت حنكي بجمع كفي ورحت أنظر الى أشداقهم المتطاير منها التّفْل ، الى ان جاءت امي تترنح من بعيد كشجرة سنديان وما إن تربعت بيننا حتى قالت:

- لما لم تزرع شجيرات المشمش حتى الآن...ها ؟

 اعتصمت بالصمت ، ثم زحفت بالقرب منهم وردمت حفرتي بيداي ،ثم أسدلت فأسي على كتفي ومضيت مبتعداً.

اتسعت فرجتي عينيها ثم سألت أمي باستغراب:

- ما به...هل أغضبتموه بأمر؟

قال دوجان مستغرباً مثل حالها:

- هل أغضبتموه يا جماعه..؟

فهزّ الحاضرون رؤوسهم دليل النفي، ثم أكمل دوجان:

- كل ما في الأمر أننا أسدينا إليه بعض النصائح ...

جفأت عينا امي باستطالة صغيرة ثم قالت باعتذار:

- آسفه يا جماعه أنا أعرف ابني فهو لا يحب النصائح ...

تمت

وسوم: العدد 657