الدكتورة روزاكوف وذلقوم

د. محمد أبو زيد الفقي

عاش عبد الغفور لا يملك من حطام الدنيا شيئا ، كان يعمل أجيرا عند أصحاب الأرض الزراعية  في قريته ، رضي بما ظن أنها قسمة الله ــ هكذا سمعها من الشيوخ في صلاة الجمعة ــ ولم يحاول تغيير واقعه ، تزوج بنتا فقيرة  من القرية ، حالها مثل حاله ، ورزقه الله منها بطفل جميل ، سماه رفيق أملا أن يكون موفقا في الحياة أكثر منه ، ونذره للعلم ، وكان يذهب للعمل صباحا ، ويعود مساءً ، ويتناول العَشاء مع زوجته ، ويسعد قليلا بابنه ــ وما أقل السعادة في حياة الفقراء  ـــ  ثم ينام بعد أداء صلاة العِشاء في المسجد ، ومضت الحياة علي هذا النحو ــ وما أقل المفاجآت في حياة الفقراء ــ  وفي يوم من الأيام عاد من الحقل ، مصفر الوجه ، مرتعش الأطراف ، يعاني من القيء و الإسهال في وقت واحد ، استغاثت بهية زوجته  بالجيران ، أناس طيبون ، ولكنهم لا يملكون له ضرا ولا نفعا ، نصحوه بتناول شراب الشيح ، وأنه سيصبح معافا إذا أراد الله ذلك ، وعند الفجر  أيقظ عبد الغفور زوجته ، وأخبرها أن القطار قد وصل ولابد من الرحيل ، وسيترك لها الفقر ، والحاجة ، ورفيق ابنهما ، وأوصاها إن استطاعت أن تكمل تعليمه بأي طريقة  فسيلقاها عند الله يوم القيامة  شاكراً ، وإن لم تستطع فلا جناح عليها ، لأنه يعلم ما تركه لها.

عند شروق الشمس خرجت روح عبد الغفور ، وانطلقت مع شعاع الشمس إلي عالمها الأرحب ، وبعد أيام من الوفاة ــ لا تسأل عن العزاء بالنسبة للفقير  في عام 1940م ، فقد كان الفقراء يعيشون ويموتون دون أن يعرفهم أحد ــ خرجت بهية إلي الحقول مكان زوجها بالنهار ، وكانت تواصل العمل في نهاية كل يوم  في بيوت الأغنياء حتى تحصل علي دخل يسمح بمعاشها  وابنها رفيق  بالإضافة إلي مصاريف تعليمه.

تخرج رفيق من الجامعة في أوائل الستينيات  من القرن الماضي ، وبسبب شغفه  بالعلم وجمال شكله ، وقوة بنيانه  ، اختاره المسئولون للعمل في منظمة الشباب الاشتراكي ، وبعد تخرجه أُرسل مع بعثة من الطلاب ، إلي الاتحاد السوفيتي ــ روسيا الآن ــ  وأقاموا في نزل للشباب في مدينة  موسكو ، و أتقنوا اللغة الروسية ، وحصلوا علي الماجستير ، وسجلوا  للدكتوراه ، و كان موضوع رسالة رفيق عبد الغفور يتعلق بالثقافة المصرية الإسلامية  ، فاخبروه في الدراسات العليا أن رسالته تنقسم إلي موضوعين ، موضوع يدرسه في موسكو فإذا أنجزه بعد المناقشة العلنية ، يعود إلي مصر لدراسة الموضوع المكمِّل ، حتى يستطيع الحصول على  درجة الدكتوراه ، وتم توزيعه مع زملائه  علي الأساتذة المشرفين في الجامعة الروسية ، وساقه حظه إلي أستاذة عالمة دقيقة في الأربعينيات من عمرها ، لم يغادرها الجمال الفاتن بعد ، كان رفيق يجمع المادة العلمية ، وينظمها ويذهب بها إلي الدكتورة روزاكوف في مكتبها ، ولما وجدت منه حرصا علي العلم دعته إلي بيتها ليلا  لمزيد من الدراسة ، وأعطت له تصريحا بأن يأتي إليها من الساعة الثامنة ، وحتى العاشرة ، ولما اعتذر بحجة عدم إزعاج الأسرة ، أخبرته بأنها انفصلت عن زوجها منذ سنوات وأعطته الأولاد ، وهى تعيش وحدها الآن .

كان رفيق يذهب إليها في كل ليلة ، وكانت تجهز له عشاءا طيبا ، وشرابا ساخنا لأنه رفض من البداية تناول الخمر واحترمت رغبته ، بل جهزت له مصلاه وعرفت القبلة في بيتها لكي يصلي العشاء وهو يتجه إلي القبلة ، وبذلت معه مجهودا غير عادي في انجاز رسالته ، وبعد ثلاثة أشهر  ، لاحظ رفيق أن الأستاذة بدأت تتزين وتسعد بلقائه  واستشعر أن الشيطان قد لعب برأسها ، ولكنه قال لنفسه : ربما كان هذا ظنا ، ومن حقها أن تفعل في بيتها ما تشاء ، ولكن ذات ليلة جلست معه ، وقالت  له : أنا ما زلت أساعدك من أجل العلم فقط ، ولكن جمالك وقوتك ، واعتزازك بنفسك كل ذلك  قادني إلي سلوك آخر  ورغبة ملحة .

قال: وما هي هذه الرغبة ؟

قالت : أتزوجك.

قال: دعيني أفكر لأن الزواج مسئولية.

قالت: الزواج هنا في موسكو ليس مثل الزواج عندكم.

قال : كيف ؟

قالت: الزواج هنا لا يحتاج عقد ومهر، وتجهيز بيت، ولكنه يحتاج فقط إلي اثنين يرغبان في العيش معا.

قال رفيق : إذن هي المعصية يا سيدتي  ، وهم بالقيام ، ولكنها جذبته  بعنف إليها  ، وأوضحت له ما تعانيه من قسوة الرغبة تجاهه ، ولكنه أبعدها عنه وانصرف ، وعاد إلي مسكنه وبكى بكاءا شديداً، وقال في نفسه: كيف تكون الفاحشة ثمنا للعلم، وبقي أياماً حزينا حتى قابلته في الجامعة، وأخذته إلي مكتبها، وسألته عن أبحاثه بعد انقطاعه عن بيتها ؟

فقال لها : أنا لم أكتب حرفا واحدا ، لأنني في النهاية سأحصل علي صفر ، بسبب ما حدث بيننا.

قالت له:  لا تقل هذا إن العدل يمنعني من سلب حقك في التفوق وضياع مجهودك، وإن كنت غاضبة منك حتى الآن .

عاد رفيق إلي زملائه و أخبرهم بما حدث، فقالوا له جميعا: لا أمل لك في هذا الشق من الدكتوراه .

بعد شهور انعقدت اللجنة التي ستناقش الباحث رفيق عبد الغفور، في مدرج من مدرجات الجامعة، وكانت اللجنة مكونة من الأستاذة المشرفة، د. روزاكوف ، وعضوين آخرين   للمناقشة.. بدأت المناقشة ، ورفيق حائر بين ما سمعه من الدكتورة عن العدل ، وما سمعه من زملائه.

قدمت  د. روزاكوف رفيق أفضل تقديم ، وقالت : إنه طالب متميز  يتمتع بالخلق الحسن  ، ويتميز بتمسكه بدينه ، ثم دافعت عنه طوال المناقشة ، وعندما دخلت اللجنة للتداول ، كاد قلب رفيق أن يقع من صدره  في قدميه ، وتذكر عودته إلي قريته ، ولقاء أمه التي عاشت له  وعاشت عليه ، وتذكر ما فعله مع د. روزاكوف  ، ولم يطل الوقت ، وأُعلِن حصول رفيق  عبد الغفور علي الشق الأول من الدكتوراه ، بمرتبة الشرف الأولى ، وانبهر رفيق بعدل هذه السيدة ، وحاول تقبيل يدها ــ كعادة قميئة عندنا ــ ولكنها قبلته واحتضنته ، وبادلها بالقبلات والأحضان ، ونسي من فرحته  ودهشته ، أن هذا حرام  ولا يجوز ، ولكن اللحظة  كانت مبهرة  وقاهرة في ذات الوقت.

بعد أيام رحل رفيق عن موسكو، وقبل أن يركب الطائرة رمق من بعيد د. روزاكوف ، اتجه إليها  ، وسألها عن سبب حضورها ؟

قالت : جئت لوداعك ، برغم أنني ما زلت غاضبة منك ، ويا ليتك بعد عودتك تدعوني لزيارة مصر ، وتتزوجني بالطريقة الشرعية في دينكم.

بكى رفيق وقال: يا سيدتي: إن الإسلام لا يسمح لنا بالزواج إلا من اليهوديات والمسيحيات، ولكنكم لا تؤمنون بأي دين من الأديان الثلاثة.

قالت: أنت تبخل علي بالأمل مجرد الأمل، ومع هذا أرجو لك التوفيق يا رفيق، ولعلك تكون قد غضبت علَّي كسيدة، ورضيت عنى كأستاذة، والعلم رحم بيننا، وإن انقطعت الأسباب الأخرى.

عاد رفيق إلي مصر و فرح به أهل قريته، وقرت عين أمه بما وصل إليه، وبعد أيام سافر إلي الجامعة، وقدم أوراقه للكلية المعنية بدراسته، وانعقد مجلس القسم المختص بالموضوع، وأسند الإشراف إلي أ. د. ذلقوم ، وطلب ذلقوم رؤية الباحث ، وسأله كثيرا عن موسكو ونساء موسكو، فأخبره رفيق أنهم قوم رجالا ونساء يحبون العمل والقراءة وهى أشياء مقدسة عندهم.

طلب د. ذلقوم من رفيق زيارته في المسجد الذي يصلي فيه ، وذهب رفيق في يوم الجمعة وصعد ذلقوم المنبر ، وأبكى الناس من حديثه عن الزهد ، واستدعى كل الخرافات والخزعبلات التاريخية  عن زهد الناس فيما مضى  قبل مجيء هذا الزمان الأغبر ، وبعد الصلاة اصطحب رفيق إلي بيته وأخبره أن له عمارتين في هذه المنطقة ، وولج الاثنان إلي المنزل  في الدور الأرضي ، في شقة مظلمة خلف محلات العمارة ، وتناولا طعاما رديئا ، وسأل د . ذلقوم رفيق عن بلدته  ومحافظته ، ومن سوء حظ رفيق أنه كان من محافظة يكثر فيها إنتاج الأسماك  ، فقال د. ذلقوم : إذن سنأكل بإذن الله أسماك كثيرة ، وسمع صوتا من الداخل فقام لإدخال الشاي ، وبعد جلوسه قال لرفيق : الحاجةَّ سمعتنا نتكلم عن السمك ، وأبدت رغبتها في أنك تحضر لنا عشرة كيلوجرام من البلطي ، ومثلهم من البوري ، وإياك أن تنسى السمن البلدي ، لأن بلادكم غنية بذلك.

عاد رفيق إلي قريته  ولم يكن قد توظف في أي عمل  بعد ، ومن أجل إحضار هذه الكمية الكبيرة التي تطعم حديقة الحيوانات ، خلع ملابسه الشيك ، وعاد للعمل في المزارع ، حتى  توفَّر لديه المال الذي يشتري به الأسماك والسمن ، وكان في ظنه أنه سيقبض الثمن من ذلقوم  ذلك التقي الورع ، وذهب فرحا إلي ذلقوم في بيته ، وسلمه الأسماك ، والسمن البلدي ، وجلسا ، وتكلما في موضوع الرسالة وحدد له ذلقوم الأبواب والفصول التي سيعمل عليها ، وبعد فترة ليست بالقصيرة  أحضرت الحاجة الشاي ، وقالت لرفيق : حصلت البركات ، هديتك مقبولة ،

ولكنى سمعت أن عندكم أسماك أكبر حجما من هذا، وأنا أريد عمل غداء مجمع للأولاد.

قال ذلقوم: عندنا ثلاثة أولاد ، وثلاث بنات ، وكلهم متزوجون ، ولنا أحفاد كثيرون ، وكل هؤلاء سيأتون للغداء ، فشد حيلك  يا بطل أتمنى أن تشرفني أمام الأولاد.

عاد رفيق إلي قريته  ووجد أن عمل الحقل لا يكفي  ، فعرض الأمر علي العمدة ، ورجال القرية الأغنياء ، فساعدوه ، وذهب إلي القاهرة بالسمك ، وتكلم مع  ذلقوم  في الرسالة وقال  له برغم ظروفي الصعبة ، لقد أنهيت البحث  وأريد تحديد موعد للمناقشة ، لكن ذلقوم ظل يسوَّف ، وكلفه بأشياء أخرى يحضرها  من بلده ، وبدأ رفيق يبيع ملابسه ، وهدايا التفوق التي حصل عليها  من مصر ، ومن موسكو ، ومن د . روزاكوف ، وفي عودته مرة أخرى إلي ذلقوم ، وضع الأسماك في كيس من البلاستيك  داخل كرتونة ، كما كان يفعل دائما ، ولسوء حظه حدث حادث  مرور بالطريق الزراعي ، وتأخر لمدة ست ساعات ، وعندما ذهب إلي بيت ذلقوم ، وسلم له الأسماك ، وأخذها  ودخل بها إلي الداخل ، وعاد بعد قليل مكفهر الوجه ، وقال لرفيق : يا كلب يا حيوان تأتي لي بأسماك عفنة متحللة ، أنت عاوز تموتني أنا وأولادي ، والله الذي لا إله إلا هو لن تحصل علي هذه الرسالة أبدا.

وخرج رفيق مذعوراً ، وقدم شكوى للعميد ، فأمر بتشكيل لجنة لبحث الموضوع  والعرض علي القسم ومجلس الكلية ، ولكن ذلقوم حضر ، وأقسم بالله وعلي كتاب الله أن هذا الباحث سرق هذا الإنتاج العلمي ، وأنا مهمتي أن أحافظ علي العلم ابتغاء وجه الله تعالي .

وفكر رفيق في الشكوى لكل المسئولين في مصر ، ولكن العميد نصحه بعدم الشكوى ــ كان رجلا طيبا وصادقا ــ  والاكتفاء بالشكوى لله تعالى وقال له:  يا ولدي لا تيأس من رحمة الله فهناك في مصر ذلاقيم كثيرة.

وسحب رفيق الأوراق ، ونقلها إلي جامعة أخرى.

عاد رفيق إلي القرية بعد أن نقل أوراقه ، وشكي لصديق له ، فقال له : إن مصيبتك كبيرة ، وتعالى معي إلي الإسكندرية لقضاء يومين لعلك تستريح ، ذهب معه إلي الإسكندرية  ووقف علي شاطيء البحر عند الغروب ، ووجد الشمس يُخيل إليه أنها تنزل الماء ، لتصنع ناراً في المياه ، وهذه صورة من صور يوم القيامة [  وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ] الآية 6 سورة التكوير ،  فتعزَّى رفيق  وتصبر بذلك ، ورفع يديه إلي السماء  وقال : اللهم انتقم من د. ذلقوم انتقاما سريعا منجزا..

كان ذلقوم يجلس في بيته مع أبنائه جميعا  وأحفاده في حالة من الفرح  والبهجة ، بسبب عيد ميلاد الحاجة [ ست الحبايب ]  وفجأة انهارت العمارة عليهم ، وحضرت الشرطة وأخرجوا كثيراً من السكان ، إلا أسرة  د. ذلقوم التي صدق فيها قول الله تعالى:

{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } الآية 26 سورة النحل .

وسوم: العدد 659