العصف المأكول
هناك غزة .. غزة هاشم، أشرقت عليها شمس الحرية.. إذ انسحب منها الاحتلال تحت ضربات المقاومة يجر أذيال الخيبة مختبئاً في أوكاره.
في ظل أيام النكبة الثانية .. تربع الكيان الإسرائيلي على كرسي القوة جاثماً على صدر الأمة متنمرداً متعجرفاً، لا أحد يملك أمامه أن ينبس ببنت شفة ، حتى إنه في الحرب التالية التي سميت حرب تشرين التحريرية أو ( التحريكية ) تم اقتطاع أجزاء أخرى من الوطن العربي وتسليمه إياها .. في حرب ظاهرها شيء وباطنها، المخفي أعظم .. والله أعلم .. والراسخون في العلم !!
تلك الحرب وقعت في رمضان .. العاشر من رمضان ، على الطرف الآخر أسموها حرب 6 أكتوبر 1973 .
بذلك فإن إسرائيل ككيان -أو دولة – فقد فرفشت وهيصت، ومدت أرجلها كيف تشاء، وأطلقت أذرعها أنى تريد... ومن ثم جاءت المقاومة الحقيقية .. منبعثة من مبدأ ديني وطني ، وكان الكفاح المسلح القومي واليساري آخذاً في الاضمحلال .. بعد تصفية الأصفياء فيه.
لذلك فإن تنامي المقاومة.. وخاصة أنها إسلامية.. قد أرق مضاجع الصهاينة والغرب من ورائهم.. والمتصهينين في ذيلهم.
لم يستطع بنو صهيون قمع انتفاضة الحجارة الثائرة على المغتصب المحتل، فأتوا بالسلطة الفلسطينية من باطن الكفاح القومي الفلسطيني وأوكلوا إليها المهمة العسيرة التي عجزوا عن تحقيقها ، أفلح هؤلاء المناضلون إلى حد ما في تنفيذ ما أسدي إليهم من تعليمات ونصائح، فدفعوا ضريبة الجلوس على كراسي الحكم، فكانوا خير أجير لشر الأسياد.
عندما أجريت الانتخابات التشريعية في الضفة والقطاع صعد الإسلاميون فيها إلى قمة الهرم.. عندئذ سُقِط في يد الذين أجروها.. جماعة سلطة رام الله، نادمين على تلك الخطيئة.. إذ جعلتهم يخسرون أغلبية مقاعد المجلس.
تشكلت الحكومة من حركة المقاومة الإسلامية وأصبح مقرها غزة، في حين رفضت الفصائل الأخرى-البعض منهم-المشاركة فيها بغية إفشالها. !!
احتدم الصراع في تلك الآونة.. حتى إنه بالنهاية صار مسلحاً.. تمكنت الحركة الإسلامية من الأخذ بزمام المبادرة بعد طول صبر على تحرشات ومشاكسات الطرف الآخر.
ظلت الحكومة في غزة ، والسلطة برئاستها في الضفة، فيما يشبه انقسام البلد إلى شطرين فيما عدا فلسطين الداخل.. وهي بيد يهود.
* * *
حروب غادرة ثلاث.. شنها العدو الحاقد على غزة العزة.. حملت أعتى صنوف الإجرام والحرق والتدمير.. محاولات يائسة للقضاء على البذرة الخيرة النامية في مزرعة العروبة والإسلام.
على غير عادة أنظمة الحكم في العالم العربي، توجت هذه المعارك بأسماء إسلامية منتقاة من آيات قرآنية..
الأولى: في عام 2008 معركة الفرقان.. في رمضان.
الثانية: حجارة السجيل في عام 2012،
والأخيرة: في 2014 – العصف المأكول – استطاعت إسرائيل الحرق والقتل والتدمير في كل مرة وبعدوانها الجائر.. لكنها تخرج في النهاية مدحورة منقلبة على أعقابها.
يبدو أن المقاومة ما برحت يشتد عودها.. في ظل معركة تبدو أكثر صلابة وقوة.. تلقن العدو دروساً وعبراً بصمودها ووحدة صفها والتفاف المواطنين حولها.
خمسون يوماً مضت أكلت فيها قلوب يهود صهيون، احترق قادتهم من داخلهم.. أكثر مما احترق جنودهم ومستوطنوهم ومساكنهم وحوائجهم.. قضوا جل تلك الأيام برعب مستطير.. تأويهم مخابىء وملاجىء في باطن الأرض.
* * *
أبو سامي أنموذج من أهل هذا البلد الصغير الذي يصفونه بالقطاع.. القطاع صار شبه دولة وفيها حكومة.. حكومة وطنية.. إنما غير معترف بها، الحصار يحيط بها من كل جانب.. إحاطة السوار بالمعصم.
من عرب وجرب.. الجرب عدو محتل.. أما العرب فمن المفترض أن يكون الأب الحاني الذي يضم نجله تحت جناحه!!
كلما اجتمع شمل العائلة عشاءً لا يبرح أبو سامي يلقي فيهم دروسه.. يروي لهم قصصاً من حياة الصحابة.. يصور لهم بطولات قادة الفتح العظماء أمثال خالد وسعد وأبي عبيدة، يذكرهم بالمدافعين عن حياض الأمة أمثال نور الدين وصلاح الدين وقطز...
يدفع أبناءه إلى المسجد.. يريدهم تعلم القرآن وتفسيره.. بنظره لا تكفي دروس الدين في المدارس، المسجد هو المدرسة الرديفة التي تخرج الأولاد والبنات على دين محمد .. وعلى ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام.
هكذا يقول الرجل، أما ولده الثاني أسامة.. وقد دخل في الثالثة والعشرين من العمر.. كذلك دخل المسجد في وقت مبكر من ريعان شبابه وواظب على الحضور هناك، وما انفك خلال سنوات مضت عن ملازمة أستاذه ومجموعة من أصحاب الطريق.. طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. حسب قوله.. حتى أتم حفظ القرآن الكريم وأتقنه تجويداً، ومن ثم انضوى تحت راية القسام.. يمارس هناك التدريبات العسكرية واللياقة البدنية، على حد سواء مع البناء الفكري والنفسي والخلقي.
العدو هناك خلف الحدود يتربص ويتحين الفرص بمبرر وبدون.
والشباب هنا يمارسون استعداداتهم وتدريباتهم، يطورون قدراتهم القتالية... مادية ومعنوية... مرئية وروحية... غير ظاهرة للعيان... مغيبة عن عيون العدو وأعوانه... محجوبة عن الأقمار والأرصاد.. الصمت يحكم الحركات والسكنات... بلا ضجيج وبعيداً عن البهارج والأضواء.
* * *
أبو سامي وابنه الأكبر في الثلاثين من عمره... كل يسعى على رزقه.. سامي معه ولدان أيضاً يسكنون نفس الدار التي رمموها بعد أن هُدم جزء منها بالعدوان الأخير.. الرجل رزىء بفقدان صبية يافعة في تلك الحرب.. جراء القصف الهمجي.. بالعدوان الوحشي.
كذلك أصيبت أم سامي بالجراح.. غير أنها تماثلت للشفاء غير بعيد من الوقت.
العزاء الوحيد في كل ما أصابهم أنهم صامدون على أرضهم مرابطون في سبيل الحفاظ على دينهم وكرامتهم.
خالد الولد الثالث مازال يتم الدراسة.. معهد متوسط، البنات سهل الله أمراثنتين منهن وأخريان في الانتظار، ألم تر إلى أوسط العائلة أسامة.. ابن القسام.. قلبه تعلق هناك.. في قنوات التضحية والفداء.. كأنما يستعد لما هو قادم مع الصفوة من شباب غزة العزة، تحت إلحاح من والده وافق على الزواج دون رغبة فيه.. لعله زهد في ذلك.. فعذره ما يشغل فكره.. وما يستولي على لبه، لكنه سلم أمره لله.. في سبيل إرضاء أبيه:
- حاضر يا أبي.. كما تريد.. إن كان ذلك يرضيك فليكن.
- الله يرضى عليك ويوفقك يا ولدي.
- بارك الله بكَ أبي الغالي.
أطلق أبو سامي زفرة من أعماقه:
- والله أنتم الغوالي.. أريد أن نفرح بك.. نحن لا نعرف ماذا تخبىء الأقدار.
- قدر الله خيرٌ يا والدي.
- ما عندنا شك في ذلك.. لكننا لا ندري ما هو قادم، الله يفرحنا بكم جميعاً.
- إن شاء الله.. إن شاء الله الخير قادم.
تابع قوله:
- افعل ما تراه مناسباً، نحن جميعاً في البيت لا نعمل إلا ما يرضيك ويرضي ربنا.
- تسلم يا بني.. تسلموا كلكم.
على وجه السرعة تمت الخطبة من وسط ملتزم دينياً، أشار إليه هو عقب استشارته لأستاذه واستخارته الشخصية، إجمالاً رحبت الأسرة بالاختيار الموفق.. وقد لاقى ذلك قبولاً واسعاً واستبشاراً في محيطه هو ذاتياً.
تلك المعطيات أثلجت صدره وحلت في نفسه غبطة وسروراً.
على عجل تم ترتيب كل شيء، وعلى أوج نار حامية حدد يوم الزفاف.
حسب الأوضاع الراهنة أقيم حفل عرس مختصر مقتضب..لكنه كاد أن يكون مهرجاناً خطابياً.. احتفالاً بالحدث واحتفاءً بذوي العروسين.
* * *
لما يمض أقل من شهرين على العرس حتى أقبلت حرب جديدة وعلى حين غرة، العدوان الثالث تشابكت فيه أيدي عرب مع جرب صهيون، عمَّدوه بحجج واهية.. وألبسوه طاقية جريرة المقاومة الوطنية الفلسطينية التي تدافع عن أرضها وشعبها، عندما قويت شوكة حماس وكتائبها، فقرروا كسرها بحرب جديدة قد يتمكنون خلالها من القضاء على المارد العربي الإسلامي المتنامي.
أما الكتائب فهي دوماً على أهبة الاستعداد متنبهة متحسبة لأي طارىء، ترصد تحركات العدو ومكره وغدره.
بدت الحرب شرسة هذه المرة وككل مرة، قصف همجي من الجو والبر والبحر.. عدوانٌ مدعوم من الأعراب مادياً ومعنوياً، لبئس ما بيتوا من أمر.. فقد دبر بليل وسيق بوضح نهار.
ناهيك عن المدد الغربي، لا ريب فيه حسبما جرت العادة على مر السنين.
هبت الكتائب ومعها كل الفصائل مدافعة عن شرف أمتها وحياض أرضها بكل ما أوتيت من قوة، قوة في الإعداد والاستعداد.. قوة تأتي من التفاف جماهير شعبها حولها.. قوة تتأتى من إيمانها بربها وبعدالة قضيتها.. قوة تأتيها بمدد علوي تتجلى في عون سماوي لها.
بمقابل العدوان الوحشي أخذت زمام المبادرة تناول العدو المحتل كل ما استطاعت عليه من سلاح تدفع به عن بلادها شر الأشرار.. تمطرهم بوابل من صواريخها وقذائفها لتجعلهم يختبئون في جحورهم، فإذا بالمدن والمستعمرات التي أقام بها بنو صهيون أشبه شيء بمدن أشباح خاوية من السكون والسكان.
لماذا يحدث كل ذلك.. من بداهة التحليل والتعليل يعرف تورط أبناء جلدتنا وحماقة جلاوزة عدونا، استعرت الحرب المدمرة على صعيدين احدهما داخل أرضنا المحررة.. والثاني على بطاح بلادنا المحتلة المستعمرة!!.. فيما مضى من حروب كان الغاصب المحتل يتوخى الحيطة في عدم استهداف دور التعليم والعبادة، خبثاً منه ومكراً، وليس حسن معاملة أو دماثة أخلاق.. فالغاصب لا دين له أو خلق.
في هذه الكَرَّة دأب على ضرب المساجد وكذلك المدارس بعد ما رأى ما فعله المتسلطون على رقاب الناس في بلاد العرب أوطاني.. تلك التي آلت إلى «بلاد الرعب أوطاني» حسب تعليق أحد الرسامين الهزليين.
فمن إذن – والبادىء أظلم – من علم الآخر؛ إبليس أم أحفاد الشياطين؟!.
العدو المحتل يضرب بلا هوادة ومن الأماكن المستهدفة تلك المربعات التي من المفروض أن تكون آمنة في أي حرب تقع.. حيث يأوي إليها المدنيون العزل.. والنغمة صارت نشازاً معزوفاً في بلدان شرق وجنوب المتوسط؛ المساجد والمدارس يختبىء فيها المسلحون الإرهابيون!!.
أثخنت الجراح.. ارتفعت أعداد الشهداء غالبيتها بين النساء والأطفال وكبار السن.. الموجودون في المناطق المكشوفة.. أهل غزة وطنوا أنفسهم على مثل هذا.. نصف قرن ونيف من الزمان يعانون الأمرَّين من ممارسات الاحتلال.. والمجتمع الدولي يتفرج.. والعربي يتفلى.. زمن طويل وجراحهم تنزف، فما عاد الوضع صعباً ولا الأمر مر المذاق، فقد ذاقوا من علقمه كثيراً واقتسموا من البؤس طويلاً.
ها هي كتائب القسام تنذر يهود على لسان أبي عبيدة: ستقصف أسدود وسيديروت وغيرهما بين الساعة السابعة والتاسعة مساءً، خلت الشوارع من كل شيء.. إلا من طير مهلوع يصفر وخفاش ليل يعلو ويهبط وربما نباح كلب بعيد.. خيم الصمت المرعب المرهون بالترقب على مدنهم وبيوتهم، فإنهم يألمون مثلما نألم، بل لعله أكثر وأبلغ.
وكان وعد أبي عبيدة مسؤولاً مرهوناً بالتوقيت حسب ما تكلم وأخبر.. وكان أمراً مفعولاً.
دكت حصونهم دكاً، وانهارت جُدُرهم هداً، وصارت حياتهم شؤماً وذعراً.
فحجارة السجيل التي تساقطت عليهم بالأمس.. أثمرت في كيانهم عصفاً مأكولاً اليوم.
* * *
في ظل القصف العنيف ومع كتل اللهب المترامية هنا وهناك جاء أسامة على وجه السرعة يودع أهله، فوراءه مهمة ليست هينة ضمن مجموعة جهادية:
- إني ذاهب داخل الأرض المحتلة.. ادعوا لي وسامحوني.
أبو سامي يجاهد نفسه ليكون صامداً شامخاً أمام الحدث، شدد من رباطة جأشه وهو يقول:
- كان الله معكم.. وكنتم في حماية المولى.
أخذ بيد والده يقبلها، ثم توجه نحو النساء قائلاً:
- إذا كتبت لي الشهادة ولم أعد.. وقدر أن جاءني ولد فسموه براء..أنا أبو براء..
قاطعته أمه والدموع في عينيها:
- لا تقل هذا يا أسامة.
انكبَّ يلثم يدي أمه، فأخذت برأسه وطبعت قبلة حارة على جبينه ثم على وجنتيه الورديتين، أردف قائلاً :
- إن جاءت صبية.. فتخيروا لها اسماً جميلاً ينطبق عليها.. أما زوجه... أم براء فقد أغمضت عينيها.. ولمست بطنها برفق وهمست بصوت غير مسموع:- حماس.
ترقرقت الدموع في عيون البنات.. وكذلك شقيقه خالد لم يتمالك نفسه.. إنه في مقتبل العمر.. وتجربته في الحياة صغيرة ضئيلة، فانفجر باكياً وهو يعانق شقيقه:
- ترجع إلينا بإذن الله يا أخي.. مرفوع الرأس منتصراً. صافح أخواته وزوجه مودعاً، مضى الوداع.. و مضى هو منطلقاً إلى مجموعته الفدائية تحت اللهيب.. أبنية محترقة.. ودخان قاتم مثل ضباب كثيف.
مضى الشباب من خلال نفق لايخلو من عثرات. كلٌّ توشح سلاحه وجعبة ومطرة ماء، حتى المصورالذي رافقهم لم يكن شاكي السلاح.
كان عددهم خمسة رجال باعوا نفوسهم لله.. امتلأت قلوبهم بحب التضحية والفداء.. يدفعهم الإيمان بالله وقضيتهم، تعلو رؤوسهم وفي فوهات بنادقهم عندما انبلج الصبح.. أصبحوا في العراء يسيرون بجوار سور شائك منطقة سماها العدو «ناحال عوز». وعندما أقبلوا على مدخل ساحة برج المراقبة رآهم أحد الجنود الصهاينة أمام مدخل البناء، ففر فزعاً إلى جوف البرج، تقدم اثنان إلى الداخل.. وظل الآخرون عند البوابة الخارجية، هناك أمسكوا بواحد من جنود العدو محاولين أسره.. لكنه قاوم بشدة.. فقتله الشاب بمدية، ثم راحا يفرغان الطلقات على تجمع العدو داخل البرج، ثم أسرعا بالانسحاب.. دون أدنى مقاومة، عادت المجموعة برعاية الله سالمة قبيل أن تنشر شمس الصباح أشعتها، أما خسائر الصهاينة فلا تقل عن عشرة من أفراد جيشه حسب تقديرات منفذي العملية.. عملية جهادية نفذت بامتياز وتفوق وعلى أعلى درجات الدقة والتقنية من حيث التخطيط والتنفيذ، حسب شهادة مراقبين.
* * *
غزة ترزح تحت النار.. نيران أحاطت بها من العدو ومن الصديق!! قصف وتدمير من الصهاينة.. حصار خانق من الانقلابيين في مصر، تعاون السلطة مع العدو.. تآمر بعض العربان على إجهاض هذا البلد الصغير بحجمه وإمكاناته.. الكبير برجاله ونسائه.
إبان «حجارة السجيل» وجدت غزة سنداً لها من الأم الحاضنة.. فتحت مصر لها ذراعيها وجعلت لها منفذاً.. ورئة تتنفس منها في عهد رئيس شرعي منتخب وحكومة خيرة معتدلة، مما أرق مضجع العدو فحرك ذيوله لاجتثاث ربيع العرب، فكل ما يحدث من تخريب في عالم العرب من أجل عيونك يا إسرائيل !!
مع جحيم العدوان تزامنت هجمات برية..لا بد من التصدي لها ومقاومتها من مختلف الفصائل.
أسامة يخرج ضمن مجموعته.. يتقدمون لمجابهة العدو الجائر.. يترصدون تقدم الصهاينة مع آلياتهم..فيصلونهم بوابل من قذائف مضاد الدروع ، ترافقها زخات رصاص حين يظهر بعض الجنود في العراء، فيدمرون الآليات ويسقط منهم قتلى وجرحى.
عندما يتقدم رتل دبابات ومجنزرات.. تصطدم بألغام زرعوها للتو في طريقها.. فيصير حالها إلى حطام.. وهكذا دواليك.
انقضت أيام على هذا المنوال بين صد ورد، في ذات صباح عندما كانت مجموعتهم تتصدى لتقدم العدو سقطت بالقرب منهم قذيفة أصابت شظاياه البطل أسامة.. راح صوته يجلجل بالتكبير: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر والعزة لله.أسرع بعض رفاقه لإسعافه إلى المستشفى، لكن قدر الله كان قد اختاره بين الشهداء الذين ارتقوا إلى العلياء في خضم الحرب العدوانية الجنونية.
هنا ظلت عائلة أبي سامي صابرة محتسبة..وسائسها لما يزل يتجلد ويدافع نفسه كأب.. كيلا يصاب بانهيار أو خذلان، أيضاً كبير أبنائها سامي من الشباب لا يألو جهداً في الأعمال الإغاثية مثله مثل كثيرين من أبناء القطاع قد امتطوا صهوة الكفاح المدني لخدمة المواطنين على مختلف مشاربهم وطبقاتهم دون تمييز، وبفاعلية «الأقربون أولى بالمعروف»
ومع اشتداد المعارك تشتد عزائم الشباب.. وكلما حمي أوار الحرب حميت نفوسهم وإرادتهم..ومازادهم ذلك إلا مضاءً وتصميماً مثل إخوة السلاح في الكتائب والفصائل المقاومة.
جراء القصف الوحشي الهمجي والتدمير والهدم أصيب سامي إصابتين واحدة في قدمه والأخرى في بطنه ونزف منه دم كثير، الخبر الآخر وقع على الأسرة مثل الصاعقة، لكنهم تحلوا بالصبر..فذلك ديدنهم في تحمل المصائب:
- هكذا عودنا أبو سامي..نصبر ونحتسب.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
- حسبي الله ونعم الوكيل.
- حسبي الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
- الله هو العظيم وهو القادر على كل شيء.. وكل شيء بقدر، وما أصابنا إلا ما كتب الله لنا.
هكذا مضى لسان حال العائلة يُحدث ويتحدث.
بقي الشاب خاضعاً للعلاج طيلة أيام العدوان قبل أن تضع الحرب أوزارها..مع نقص الدواء والغذاء في أرجاء القطاع المعتصر المحاصر، حتى أفلس العدو الصهيوني وأعوانه من تحقيق نصر أو بعض أهدافه من وراء العدوان.. سوى التدمير والقتل المبرح وخاصة في صفوف المدنيين.
في حين استمرت المقاومة ناشطة في دك مرافق إسرائيل ومدنها وتجمعات عصابات جيشها..
إلى حد الإرهاق وتذمر ونقمة بالغة من مواطنيها اليهود، أصابهم اليأس وسُقِط في يد حكومة الكيان الغاصب المحتل.. فلجؤوا إلى وقف العدوان من جانبهم مضطرين خاسرين.
* * *
كذلك فشلت إسرائيل بكل ضراوة حربها من تفريق الصف الفلسطيني وشق التوحد الداخلي في غزة، وهو ما كانت تعول عليه.. بحدوث انقلاب شعبي على الحكومة في غزة.
خلال الحرب تم هناك إعدام عدد من الخونة المتعاونين مع العدو الصهيوني، مما أثار غضب السلطة في رام الله لانتماء أولئك العملاء لمنظمتها.
قدر الله فوق قدرة البشر وتدبيره أقوى مما يحيكون في ظلام ليل الظالمين، فجاء النصر بعد الصبر..وانهزم الجمع وولى الدُّبُر.. خرجت القسام وأخواتها من قوى المقاومة في نهاية المطاف أكثر قوة وأشد صلابة.
عقب الأحداث تلك، فجعت عائلة أبي سامي بفقيدها الثاني بعد معاناة شديدة من جراحه،كلمت بها قلوب.. ذرفت دموع..أتراح تواكبها أحزان، لكن هناك قلوب يملؤها الرضا بقضاء الله وقدره، إنه المصاب الثاني في هذه الحرب.. عزاؤهم الوحيد أنهما شهيدان قضيا في الذود عن حياض الوطن والمواطن، اختارهما رب العزة ليكونا في عليين إن شاء الله..
على هذا كانت قرارة نفوس غالبية أفراد العائلة، وعلى مثل ذلك كثير ممن فقدوا أعزاء أو أقارب وجيران.
شيئاً فشيئاً أخذ الحزن يتلاشى من القلوب على مر الأيام فيما عدا قلب الأم وإلى جوارها قلبا أرملتي الشهيدين.
كبيرالأسرة له شأن آخر.. أمور تضطرب في داخله، وأفكار تجتاح رأسه.. مادام يمعن النظر والتفكير في أحوال العائلة وما آلت إليه أوضاعها بعد رحيل الفقيدين الغاليين.
يوماً بعد يوم تتبلور الفكرة عنده.. ويكتم سره وما يفكر به عن كل أحد حوله.
تنقضي الشهور سريعة.. بيد أنها على قلوب عائلة أبي سامي ثقيلة.. مرة سقيمة.
الوضع العام ينذر بملامح واقع آخر، انتهت الحرب الساخنة.. وأتى دور الحرب الباردة.
لم يفلح العنف.. فلعل السياسة تؤتي ثمارها.. وتجدي في اجتثاث القوى التي تشكل خطراً عظيماً يهدد أمن الكيان الإسرائيلي.
تحركت الأصابع والأيادي الملوثة الوالغة بدماء الفلسطينين لتعود تفتح صفحات دفاترها القديمة بعنوان «المصالحة الفلسطينية الفلسطينية» عاود وفدا الشقين المختصمين لقاءاتهما برعاية مصرية.. أسفرت الاجتماعات التحاورية عن أشياء مهمة للغاية.. تم فيها الاتفاق تحت ضغوط جمة.. على استقالة حكومة حماس في غزة وتشكيل حكومة موحدة برئاسة شخصية من الطرف الآخر من فتح التي تسيطر على منظمة التحرير ومنها سلطة رام الله، كأن حركة المقاومة الإسلامية قد توصلت إلى قناعة أنه لن يتم الإفراج عن أهل غزة دون ذلك المطلب.. فلعل عند ذلك تفتح المعابر ويدخل الغذاء والدواء والإسمنت ومواد البناء وتشتغل الكهرباء فيستنشق الناس الهواء وتتنفس غزة الصعداء.
على إثرالاتفاق قدم إسماعيل هنية أبو العبد استقالة حكومته التي سارت في سنوات مضت بالقطاع نحو بر الأمان والاستقلال.. على أمل.. إنه أمل يضيع ويتلاشى لكثرة المؤتمرات والمؤامرات.
عبثاً تذهب المحاولات..قدموا كثيراً من التنازلات.. تخلوا عن الحكومة..شيء واحد لا يمكن التخلي عنه..دونه قطع الرقاب، الصواريخ التي وصفها رئيس السلطة على الجانب الآخر بأنها عبثية أثبت الواقع العملي أنها على عكس ذلك.. إنها قدرية..فاعلة مجدية لأنها تعمل بأيد نظيفة متوضئة.. أحنت هامات قادة العصابات الصهيونية ومرغت أنوفهم في التراب.
أبو العبد تخلى عن الحكومة ورئاستها لكنه لم يتخل عن خطبة الجمعة.. مارسها وهو في سدة الرئاسة واستمر فيها بعد ذلك وظل يصلي الفجر إماماً يقرأ كتاب الله.. قراءته الممتازة وبصوته الندي الفخم.
هؤلاء القادة علموا وفي قرارة نفوسهم -وفي مقدمتهم أبو العبد هنية- أن المطلوب هو سلاح المقاومة ورؤوس المقاومين.
لذلك ما لبث أن أعلن من على منبر الجمعة: أن سلاح المقاومة لا مساومة عليه.
كل شيء يمكن أن يدرج في مواضيع التفاوض أما هذا فلا.. إنه من خاصة الخاصة لحركة المقاومة.. إنه الدرع الواقي للأمة.. متمثلاً الحكمة الربانية في ذلك الشأن:
ﭽﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﭼ
القضية المحورية عندهم هي فلسطين أرضاً وشعباً، عشرات المرات أكدوا أن معركتهم مع اليهود الصهاينة تحديداً وداخل أرض فلسطين المغتصبة.
عندما اتهم الإعلام الكاذب إسماعيل هنية بأنه قال..
باستطاعة حماس أن تحتل سيناء في بضع ساعات!! رد عليهم أكذوبتهم وافتراءهم: بأن مصر عمق إستراتيجي لنا نحافظ على أمنها... نحافظ عليها كما نحافظ على أنفسنا.. لا نتدخل في شأن أي قطر عربي.. معركتنا مع اليهود المحتلين لأرضنا.
* * *
مع هدأة الأوضاع رجع الناس يمارسون أعمالهم.. الحركة مستمرة والحياة شبه عادية.. أهل غزة وتوابعها يلملمون جراحهم، قد تندمل مع الوقت والزمن وقد يتناسى الناس مآسيهم، نفر يزرع والبعض يصنع، وأفراد متفرقون هنا وهناك يعيدون الترميم والبناء بأي شيء يحصلون عليه.. سواء كان من حجارة أو طين أو أعواد أشجار جافة وعمدان خشبية أو قصب يابس يسقفون بها مايعتبرونه غرفاً تؤويهم وتظلهم من قيظ الصيف وبرد الشتاء.
جرى بيع وشراء على الأرجح في مواد التموين واللباس مع قلتها وندرتها.
فتحت المدارس أبوابها والمعاهد والكليات قاعاتها.. غصت بروادها.. مثل ذلك الدوائر والمؤسسات.
خالد أيضاً انضم إلى زملائه في الكلية يكمل الفصل الأخير من دراسته.
كل يوم يروح ويجيء يرى أهل بلده يعيدون صيانة بيوتهم المهدمة.. يقترح على والده العمل على ذلك:
- ما رأيك يا أبي في إصلاح ماتهدم من دارنا؟
أبو سامي يهز رأسه بالإيجاب دون أن يجيب مرة أخرى وفي يوم آخر خالد يثير الموضوع من جديد:
- إلى متى سنظل هكذا محصورين في غرفتين؟
يقول ساهماً:
- إلى ما شاء الله...
يذهب إلى أمه.. ينبري قائلاً:
- أمي ما له أبي.. إن بقي منطوياً على نفسه.. أخشى أن يحصل له شيء.. لا قدر الله.
- اسكت يا ابني.. أبوك يحمل على ظهره عبئاً ثقيلاً.
- نعم.. لكن...
قاطعته قائلة:
- مصيبتنا كبيرة.. أبوك جمل المحامل.. الله يعينه ويعينّا.
- ربنا بالوجود.. تكلمي معه يا أمي.. واجبنا أن نٌروِّحَ عنه.. الله يفرج كربته وكربتنا.. وكربة كل الناس.
- طيب.. حاضر.. سأتكلم.. صبرك يا خالد.
- اللهم إني صابر.. غزة كلها صبر وانتظار.. فرجك يارب.
- الصبر مفتاح الفرج.. الصبر طيب.
يخطر له فكرة فيسأل:
- أمي.. لماذا سموا الشجر بالصبر.. ثمر الصبر.. أله علاقة بصبر الأشخاص؟!!
أطرقت قليلاً.. ثم قالت:
- ما الذي جعلك تفكر في هذا؟..أتيت بالفكرة والله، قد يكون من تحَمُّل نخزات شوك ثمر الصبر.
- صحيح.. فكرة جيدة.. قد يكون ذلك.. وقد لا يكون.
ارتاح قليلاً للخاطر.. لكنه عاد ينكر ذلك في لهجة غير مطمئنة:
- إن كان هكذا.. فعلى أهل بلدنا الإكثار من زراعته.
- على قولك ...
ثم مضت عنه .. اختصاراً للكلام، تحينت الفرص للحديث مع أبي سامي.. آه للشوك.. حياتنا شائكة.. طرقنا مليئة بالأشواك.. أحست المرأة أن لها فلسفة فهي صاحبة تجارب.. غير أن تجاربها ضئيلة بجانب تجارب زوجها، إذن لتقعد بجواره وتتجاذب معه أطراف الحديث، لعل وعسى أن يخرج عن صمته.. يطلق وحدته.. ويندمج في الأحاديث مع أفراد عائلته مثلما كان سابقاً:
- سبحان الله.. الجو حلو اليوم..
ينظر إليها متفحصاً.. ثم يلتفت جانباً ويطلق زفرة.
- أبو سامي.. أريد أن نذهب اليوم إلى السوق.
يخرج عن صمته:
- وماذا في السوق!!
- نشم الهواء.. نتنفس.. ونشتري بعض أشياء تلزمنا في البيت.
- ممكن.. بصير.. خذي البنات معك.
- وأنت؟
- لا أدري.. أنا قاعد في الدار.
- لا.. لا يصح الخروج بدونك.
أطرق رأسه قليلاً، فعادت تقول مشجعة مستثيرة فيه الأريحية:
- ماذا قلت؟.. أبو سامي.. أنت سيد راسنا.. أنت كل شيء عندنا.. دعنا نذهب سوية.
- طيب.. طيب.. كما تريدين.
- بارك الله بك.. ستفرح البنات.. وخالد أيضاً، وإن لم يكن معنا.
تنهد قائلاً:
- خالد.. لي معه حديث طويل.
- وماهو؟!!
- فيما بعد.. سأقول لك.. في وقت آخر.
- ولم.. ليس الآن؟!!
- كل شيء في وقته.
- ومتى وقته؟
- عما قريب.. قريب جداً.
- عسى أن يكون خيراً؟
- إن شاء الله كل الخير.
في ذلك اليوم المشمس خرجت العائلة عدا الكنتان اللتان لما تنقضِ عدتهما.. بل شارفت على الانتهاء أخذت أم سامي توصيهما:
- انتبها للأولاد.. أم علي إياك أن يخرجا للشارع.
- حاضر عمتي.
- وأنت يا فاطمة انتبهي لنفسك..
- حاضر.. طمني بالك.
- ولا أقول لك.. هات الأولاد نخرجهم معنا..
- كما ترين يا عمتي.
- إذن.. أسرعي.
مع مر الأيام توثقت الحاجة أن فاطمة غير حامل، وشاع الأمر في أوساط العائلة.
* * *
خرج أبو سامي من انطوائه.. صار يسعى على رزق أسرته، أيضاً خالد يسعى إلى كليته ليتم فصله الدراسي، عندما يرجع وفي أيام العطل يتعاون مع والده في إعادة ترميم ما تهدم من منزلهم.
الأم مرة أخرى تسأل بعلها:
- هل تكلمت مع خالد فيما كنت تنوي.. ولم تفصح لي به ؟!!
- اقترب الوقت.. نحن على موعد..
- ويدع الأمر مبهماً.. هي تدمدم لوحدها.. خالد.. خالد لم يبق لنا إلا أنت.. ذهب الغوالي لم يبق سواك.. أنت الغالي، لنا الله.. لا إله إلا هو..
اغرورقت عيناها بالدموع.. سالت على وجنتيها.. تجففها براحتها أو بمنديل ورقي.
- يارب.. يارب.. رحمتك يارب.
لا تلامس مسامعها ثمة إجابة، تظل مع نفسها على منوالها، يسري في مخيلتها شريط الذكريات.. بمرارة بالغة تكتم معاناتها النفسية وقد فقدت ثلاثة من فلذات كبدها في حروب مضت.
عند وضع آخر مدماك من صيانة الدار انزوى أبو سامي بولده جانباً يحدثه.. بل يبوح له بسره:
- الحمد لله.. خلصتم امتحانات.. وهنا قاربنا نخلص ما يلزم الدار من إصلاح.. لعن الله أحفاد القردة والخنازير..
- يارب دمرهم..
يرفع يديه بالدعاء:
- اللهم عليك بهم وبمن ساندهم.. فإنهم لا يعجزونك.
- آمين يارب.
- نجاحك مؤكد بإذن الله يا خالد.. ومتى تصدر الشهادة؟
- بعد أيام..لن تطول.
- محضر لك وظيفة..مؤكدة بمشيئة الباري.
خالد ينهض ويسأل بلهفة:
- متى وأين وماهي؟!!
- اجلس.. كل شيء في وقته.
ثم يحدق في وجه ابنه فجأة قائلاً:
- أقولك حاجة..؟
- نعم يا أبي.
- أولاد أخيك ... ثم يصمت.
- وما لهم أولاد أخي رحمه الله؟
- أنا أريد تأمينهم.
- بأمان الله.. الأولاد عندنا مؤمّنون يا أبي..
- صحيح ما تقول.. ولكن...
- لكن ماذا؟!!
- لن أدوم لكم.
- بعيد الشر عنك.. الله يخليك فوق رؤوسنا.
- لا تعرف متى يكون الأجل.. لذلك أريد أن أعمل شيئاً ضمن عائلتنا.. فهل تساعدني؟
- أنا رهن الإشارة.. كلنا تحت أمرك.
- أريد أن أزوجك..
- تزوجني!!
- نعم.
- وأنا لم أعمل بعد.. وقد لا أجد عملاً.
- قلت لك: العمل مؤمن.
- أنا ما زلت صغيراً يا والدي.
- بل صرت رجلاً.. لا تصغر نفسك.
- أبي...
- ألم تَعِدْني.. قبل قليل.. أما قلت: إنك رهن الإشارة؟
- يطأطىء رأسه.
- نعم.. صحيح.. قلت..
- الزوجات حاضرات يا خالد..
- ماذا؟! يقولها في ذهول..
- نعم.. هو ما أقول..
- زوجات؟! كم واحدة..؟!!
- اثنتان.. هما في الدار عندنا.
يردد مذهولاً مبهوراً:
- اثنتان.. في الدار.. ماذا قلت!!؟
- هو ما سمعت.. وهذا مطلبي.. ولا أظن أن عندك أدنى اعتراض.
- أنا لا أعترض... إنما كيف يكون ذلك؟
- الأمر سهل جداً.. ربنا ييسر كل شيء.. إذا نحن عقدنا العزم، لا يصح أن يبقى الوضع على ما هو عليه ونحن في دار واحدة والبنات محرمات عليك.. يجب أن تكونا حِلّا ً لك، وهذا أسلم لديننا جميعاً.
خالد يطرق رأسه، وأبوه يستحثه:
- قل: موافق يا خالد.. إنه أملي فيك.
- لكن.. لكن.. هل هما توافقان؟
- أنت قل: نعم.. والباقي عليّ أنا.
- حاضر يا أبي..كما تريد وكما ترى.
* * *
بهذا يكون قد تحقق للرجل الشطر الأول من حلمه العائلي.
أمرٌ شغل باله على مدى شهور منصرمة منذ توقفت الحرب الجنونية.. حرب الصهاينة الملاعين.. فقد فيها عزيزين على قلبه.. لكنهما أديا واجبهما الديني والوطني.. وخاصة أسامة.. لم يذهب بلا شيء.. لا ريب أنه أفنى عدداً من جنود العدو المارق، رحمك الله يا أسامة كنت بطلاً بكل ما للكلمة من معنى.. رحمك الله يا سامي كنت شهماً أصيلاً، استطرد في ذكرياته وهمسات قلبه وهمهمات لسانه، لا يبرح يردد:
- يا إلهي.. أنت جاهي.. حالنا لا يخفى عليك.. رحمتك يارب.. اللهم اجعل لنا مخرجاً.. اللهم ارزقنا رزقاً حسناً بحسنة أطفال ونساء.. يارب.
ينتزع نفسه من حالة يغرق فيها بين الفينة والأخرى، يقترب من أم المؤمنين.. يقصد أم سامي..ترداد اسم سامي له حساسية في البيت وكذلك أسامة، صار يناديها بأم المؤمنين.. هكذا أسلم للقلوب والعواطف:
- اسمعيني جيداً.
- نعم.
- اليوم توصلت إلى قرار.. القرار قديم.. إنما اليوم أنجزت شيئاً مهماً.
- وماهو؟
- تكلمت مع خالد..
- أعرف.. أنك تتكلم معه كثيراً.
- لا.. اليوم غير.
- أهو الحديث الطويل الذي تحدثت عنه أكثر من مرة؟
- نعم.. نعم وخالد قد وافق.
أحست المرأة بهاجس ما لا تعرف كنهه، فأسرعت متسائلة:
- وافق على أي شيء؟!
- على فكرتي يا بنت الحلال.
انفرجت شفتاه عن ابتسامة خفيفة راضية:
- سأزوجه.. قريباً.. قريباً جداً..
قالت مستهجنة:
- تزوجه!! حالنا لا يسمح بذلك يا رجل.
- عكس ذلك تماماً.. حالنا يستدعي هكذا عمل.
- كيف.. ألا ترى ما نحن فيه..!
قاطعها قائلاً:
- أنت لا تدركين مشروعي.. مشروعي.. القصد منه لملمة عائلتنا وحمايتها.
- وضح لي ما تقصد.
- على سنة الله ورسوله.. هاتان المستورتان.
ثم يشير إلى الحجرة خلفه:
- أنوي أن أزفهما لخالد.. وقد وافق هو بدوره.
فوجئت بالأمر مما جعل حدقتيها تتسعان هنيهة، ثم خرجت من ذهولها قائلة:
- هاها!!.. قل لي من الأول.. هو هذا الموضوع الذي كنت تكتمه عني.. سامحك الله!
- أنا اتخذت قراري منذ زمن.. والآن جاء وقته.. أما قلت لك: كل شيء في وقته مليح؟
- صحيح.. معك حق.
- الآن جاء دورك.. اذهبي وحدثي البنات بالموضوع.. خير البر عاجله.
- حاضر.. سأفعل.
* * *
البنات جميعهن قاعدات في حجرة صامدة لم يطلها طرف من القصف، أم سامي تقبل عليهن مُسلِّمة كعادتها كلما دخلت مكاناً أو لقيت أحداً:
- السلام عليكم.
يُجِبنَ التحية بالتتابع، تتابعن أيضاً قياماً احتراماً لها.. هي تشير لهن بالجلوس:
- لا أحد يقوم.. مساكم الله بالخير.
يردون التحية لها، أم سامي تقعد على طرف سرير فيه أم علي، تتفحص الوجوه.. تقلب ناظريها هنا وهناك ثم تبدأ حديثها:
- إسمعن يا بنات..
تنقل ناظريها من وجه إلى آخر والجميع ينصت:
- أقول لكم حاجة مهمة؟
إحدى بناتها تقول:
- نعم يا أمي.
- الكلام ليس من عندي.. هو من عند أبيك.
- تفضلي قولي.. عسى خيراً.
- كله خير.. والدك لا يقول شيئاً إلا فيه خير.
تتجه إلى كنتيها السابقتين:
- موضوع يخصكما.
أم علي تقلب وجهها، بينما فاطمة تشير بيدها إلى صدرها.
- أي نعم.. أنا جئت بطلبكما.
- طلبنا.. طلبنا!!
- ماذا تعني؟!!
- طلب من عمكما.. بزواجكما من ابننا خالد..
- هذا طلبه .. هكذا يريد الرجل.
فاطمة تقول بصوت مبهور:
- نحن الاثنتين.. أم واحدة منا؟!
- كلاكما.. نعم.
الصبيات تتبادلن النظرات الحائرة.. بينما يرين الصمت على الجميع.
- ما قلتن؟ أنا أراه على صواب.. سترة للجميع.. ولمصلحة الطفلين الحبيبين،لا يحن على العود إلا قشره، ولا أحد يمكن أن يرعاهما أكثر من عمهما.
لا تسمع جواباً سوى تبادل نظرات فتتابع:
- وأنتن يا بناتي.. ما رأيكن فيما عزم عليه أبوكما؟
تجيب إحداهن:
- نعم الرأي.. وهل أخذ رأي خالد فيما نوى عليه؟
- نعم يا ابنتي.
- وما جوابه؟
- أجاب بالموافقة.
الكنتان تتبادلن النظرات من جديد:
- ما قولكما يا حبيباتي؟
فاطمة تخرج عن صمتها:
- بعد إذنك امرأة عمي..عليّ استشارة أهلي.
- لا مانع.. إنما قولك أولاً.. أتوافقين؟
تهز رأسها بالإيجاب.
- وأنت أم علي.. ماذا تقولين؟
هي الأخرى تهز رأسها مجيبة:
- عمتي.. كما تفصلون نحن نلبس.
بنتاها أيضاً تهز رأسيهما بالإعجاب:
- الله يرضى عليكن.. جميعاً يا بنات.. أثلجتن صدري.
ثم تقوم مغادرة إلى زوجها لتبشره بما أنجزته تلك الساعة.
* * *
وهي تمشي الهوينا نحو زوجها أحست أنها أنجزت مهمة ليست بالسهلة.. يا لضخامة ما أعطي رجلنا من قوة في الجسم والعقل.. يكاد يكون عبقرياً.. بل هو عبقري حقيقة.. لا ينقصه سوى شهادات كي يصبح أستاذاً جامعياً، لا بل قد يكون بسلوكه الاجتماعي وتجاربه الخصبة أعلى درجات من أساتذة الجامعة.
وهي أيضاً تتلمذت على يديه.. إنها من ذات المدرسة.
فجأة وجدت نفسها أمام الرجل، فاجتذبت نفسها من خواطرها المغرقة كي تنقل له ما توصلت إليه من إنجاز ضمن مشروعه البحت.
أبو سامي لا يوفر جهداً ولا يضيع وقتاً في مهمته فيشق طريقه إلى ذوي فاطمة.. فاطمة الزهراء.. إنها فتاة مزهرة في ريعان شبابها قد كانت عروساً للفقيد العزيز الذي قضى نحبه في الدفاع عن شعبه وأرضه.. «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».. نَعِمتَ يا شهيد في مثواك الأخير.. كأنك غسيل الملائكة..
هذه الفتاة العزيزة من معزة فقيده الشهيد الراحل، لن يدعها تغادر بيته، مكانتها في الذؤابة من العائلة مثلما كانت مكانة أسامة.. فلتبق لنا ومعها ذكرى فقيده العزيز.. فهي وما تحمله من آثار تساوي مثاقيل المثاقيل.
بعد توقف العدوان الإجرامي على بلدهم قدم والد فاطمة يطلبها لتعيش في كنفه، غير أن أبا سامي أقسم عليه أن لا تخرج من عرينها.. إنها واحدة من فلذات كبده وليس غير.. تقعد معنا مكرمة معززة.. وأنت يا أخي نم قرير العين هانيها.
لم تكن مهمته معقدة ولا عسيرة، فقد أجابه صاحب النسب بيسر وسهولة ما دام الشاب مرضيّاً عن دينه وخلقه ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ .
أما الجزء الثاني مما رمى إليه فقد أَجَّله إلى اليوم الثاني فأولئك أبناء عمومته ومن عشيرته.. الأمر عندهم جله بساطة لا عنت فيه ولا مساومة «أهلية بمحلية».
في تلك الأمسية أوت أم علي إلى مخدعها مبكرة، تدثرت بغطائها، بينما تركت فاطمة تداعب الطفلين تسلي بهما وحدتها.. تروح عن نفسها وما ألمَّ بها من ألم وحزن بعد فقدان زوجها ولما تزل عروساً في عز فرحة لم تكتمل.. لا غرو أنه شهيد الواجب قضى في الدفاع عن بلده وأمته، إنه فخر لها وللعائلة، سالت الدموع الصامتة على وجنتيها تخفف من مرارة أحاطت بها.. ثم أشاحت بيدهامطوحة بالذكريات بعيداً.. لتفكر في حاضرها، هي لا تكاد تصدق ما حدث الليلة، فهل من المعقول أن يقوم خالد بحمل امرأتين مرة واحدة وأطفال أيضاً وفي سن مبكرة.. تراه أمراً صعباً من ناحيته ومعقداً بوجه عام، تكاد تشفق عليه من ثقل المهمة والتبعات.
هي لا يهمها الأمر كثيراً وإن كان يتعلق بها شخصياً من طرف واحد، الموضوع بالنسبة لها شبه عادي، فلا تفصلها عنه سوى شهور قليلة في العمر.. هل ستودع ذكرياتها بسرعة.. وتتناسى أيامها السعيدة القليلة، لا ريب أنها صعبة، لكن ليس في اليد حيلة.. ذلك قضاء الله وقدره، كذلك ستودع سواد ردائها على وجه السرعة.. لا تستطيع مخالفة عمها وعمتها وقد عاينت فيهما الطيبة والوفاء وحسن المعاملة والأداء.
ومن طرف أهلها لا تغضب أحداً إن جاء قرارهم متمماً لما عزم عليه كبير الدار، وهو الأرجح والأصوب.
وما أخرجها من سبحاتها غير نداء الطفلة الحلوة ذات السنوات الست:
- امرأة عمي.. فاطمة ما لك لا تكلمينا؟!
ثم قام شقيقها ابن السنتين والنصف وقعد في الحضن الحاضن الرقيق، وبرفق عادت تداعبهما وتلاطفهما، وتضفي على الحديث حلاوة وطلاوة:
- نعم يا أحبابي.. أنا معكم.
- إحكِ لنا حكاية.. لكن حكاية حلوة هه.
- حاضر.. حبيبتي، أي واحدة تريدين.. حكاية أطفال الحجارة.. أم قصص خالد وأبي عبيدة.. تراتيل اليرموك أم فتح الشام وفلسطين؟...
* * *
لم يُوافِها النوم ولم تطبق جفنا أم علي تلك الساعة وقد أقبلت نحو فراشها لا تلوي على شيء، الآن دار ذهنها وبدأ حديثها الداخلي.. تراءى لها الشاب الصغير الذي سيغدو زوجاً لها عما قريب.. بالأمس كان طفلاً يوم أتت الدار عروساً في عز شبابها.. أحست كأنه مضى على ذلك عقود رغم أن الزمن مضى مسرعاً؟؟ يا إلهي.. حكمك يا رب.. هكذا كتب علينا، ما لها غير ذلك.. هي راضية بقضاء الله:
- سيان عندي.. أقبل بالقادم أياً كان.. مهما كان في قلبي من أحزان.. وإن أثقلت علي نفسي بشيء فإني أجد ذاتي قوية أغالب الوساوس.. راضية بقدري وقدر طفليّ.
أما زوج المستقبل اليافع الصغير فهي تستطيع أن تستوعبه، وإن بدر منه أمر أو كلام لا يسرها فتصبر عليه وتداريه مثلما يداري الإنسان عينه الغالية ، فهي تكبره بما يقارب عشر سنوات.. إلى أن انتهى سهادها إلى نوم خال من الأحلام...
في صبيحة اليوم التالي خرج خالد من البيت هائماً على وجهه لا يرى أحداً ولا ينظر في شيء.. مشغول بنفسه وبأفكاره وبما هو فيه وما أصبح عليه، قاصداً الكلية ليستطلع النتائج أو يتسلم الشهادة إن كانت جاهزة.
في طريقه إلى لوحة الإعلانات كان بعض الطلبة متجمعين لم ينتبه لهم مما أثار عجب أصحابه.. لم يقف ولم يسلم، تابع ملصقات اللوحة فوجد اسمه من الناجحين بدرجة جيد.. افترقت شفتاه عن ابتسامة وبدت قسمات وجهه منفرجة هانئة وتمتم:
- الحمد لله.
أدركه أصحابه مهنئين:
- السلام عليكم.
- كيفك خالد؟
- مبارك النجاح.
- تهانينا خالد.
- الله يبارك فيكم ويخليكم.. مبارك عليكم النجاح.
- إن شاء الله إلى الأكبر يا خالد.
- وأنتم أيضاً.
تساءل مستفسراً:
- ترى طلعت الشهادات؟
رد أحدهم:
- بعد ما طلعت.
- أنا أستاذن.. بخاطركم.
- خالد إلى أين..!!
- ما لك مستعجل؟!!
- أنا مشغول.. سلام.
- ويلك.. ما لك.. على غير عادتك.
قال ضاحكاً وهو يغادرهم:
- ورائي أشياء مهمة.. عندي ما يشغلني.. لا وقت للحديث والمزاح.
- ماذا عندك.. قل لنا؟!!
- عندي ما ليس عندكم.
- ماذا؟!
- غداً تعرفون.. وداعاً.
انقلب إلى أهله مسروراً يحمل في حقيبته فرحتين فرحة النجاح وفرحة العرس..مضى في طريقه مرة يضحك وأخرى يعبس.. من المحال أن يخطر أمره على بال.. بين يوم وليلة سيكون عروساً متزوجاً امرأتين ثيبتين ومعه أطفال.. صاحب أسرة تحفها الغبطة والمسرة.. كيف يكون العرس المنشود، بالتأكيد دون أغاريد ولا زغاريد في ظل ما أصاب عائلتهم في حروب العدوان الصهيوني الجائر، هز رأسه مطوحاً بما ينهش رأسه: ليس مهماً، المهم.. ما سيكون.. نظرة إلى المستقبل.. أهو مستقبل زاهر أم ذابل؟ أم معه حمل وحمل ثقيل على كاهله؟
هل يستطيع النهوض بما يترتب عليه من تبعات؟.. أم ينوء بحمله فيكبو كبوة لا قيام بعدها؟.. أحس بدقات قلبه تربو وتزداد وطيساً..ضغط على صدره براحته، رويدك.. الأمر هين.. محلولة بإذن الله.. ألم يقل الوالد: إن الوظيفة جاهزة.. هذا من جانب ومن جانب آخر قناعتنا أن الرزق على الله.. فكل مخلوق له رزقه.. ﭽﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﭼ.. ما برح أبي يرددها، واجب الإنسان أن يسعى والباقي عند المولى.
شيء واحد يحز في نفسه، كان له أمنية أن يرتب للانضمام إلى فصائل المجاهدين المرابطين ليشارك في الدفاع عن حياض الوطن وعن شرف المواطنين.. ينتقم من بني صهيون لأشقائه وأبناء بلده، في وقت يحول وضعه الاجتماعي الجديد بينه وبين ما يرنو إليه.
* * *
ما مضت غير أيام قلائل حتى أزف موعد الزفاف، فكان صامتاً مثلما ظنه هو، وكما رسمه والده، سرت في أرجاء الدار فرحتان؛ فرحة به وآخرى بأرملتي الشهيدين الغاليين والأطفال معهم وانضمامهم من جديد إلى العائلة، أو يمكن أن يقال: بقاؤهم تحت الرعاية الحاضنة.
بكل سهولة ويسر غدا خالد زوجاً برفقة أسرة محترمة وفيها أطفال وردات.. زينة الحياة الدنيا، مضى أسبوع العرس بالتمام والكمال، فانطلق وحيد الدار إلى وظيفته التي وعد بها والده.. مندفعاً للعمل الجاد وبمنتهى الشفافية والإخلاص، فوراءه أسرة.. وعليه مسؤوليات وواجبات.
ما من أحد في الدار أو الجوار أو الأقارب ومن حولهم إلا سُرَّ سروراً شديداً للحدث الهام، سواء من حضر يوم العرس أم من لم يحضر.. وهطلت التبريكات تترى على أبي سامي وأم سامي والعرسان في وقت واحد.
خالطت قلب كبير العائلة فرحة غامرة، وبات في كل يوم وليلة هانئاً راضياً بما صاروا إليه، فقد نجح مشروعه نجاحاً باهراً وفي وقت قياسي.. يدعو ربه صباح مساء أن يوفق ويجعل التمام على خير.
كل هذا في كفة وفي الكفة الأخرى الراجحة ما تحقق من نصر في معركة العصف المأكول على أيدي المجاهدين من أبناء غزة.. وإن كان قلبه مكلوماً على فقدان ثلاثة من أعز الناس عليه، فقد نالوا شرف الشهادة.
جرحه عميق.. لكن دواءه طيب ثمين.. بالنصر المبين.. ولم شمل الفريق.. والتوحد على الطريق.. كأنه الماس والعقيق.
وسوم: العدد 672