علام تحوم الغربان ؟ !

تلاقيا في الدرب عقب صلاة العشاء . 

قال رمضان : حظي زين ، قادم إليك .

رد مصطفى : حظي أزين ، هيا ! 

_ في وقت آخر ، تعال معي ! 

_ معك ؟ ! إلى أين ؟ ! 

_ ربما تستغرب ما سأقوله . 

قعدا ، فقال رمضان : أظن أسامة مات ! 

_ مات ؟ ! 

_ مات .

_ كيف عرفت ؟ ! 

_ مات شرقي الخط . 

_ كيف عرفت ؟ ! 

_ يختفي هناك . 

_ أعرف ، كيف عرفت بموته ؟ ! 

_ رأيت غربانا تحوم على المكان الذي يختفي فيه .

حدق فيه مصطفى في نور القمر ، وسأل : ما علاقة حومان الغربان بموته ؟ ! 

_ تحوم على جثته ، أنت تفهم . 

_ كلام غريب . 

_ إصابته كانت خطيرة ، وعلاجنا لها بدائي . ظني أنه مات ، وأن الغربان كانت تحوم على جثته .

سأتأكد من هذا بنفسي ، سر معي ! 

_ هذا عمل يحيط به الخطر ، قد تواجهنا دورية إسرائيلية ، والأمر يلفه الشك . 

_ قلبي يقول إن الغربان تحوم على جثته ، سر معي ! 

_ الأمر محفوف بالخطر . 

_ اتكل على الله ! إنه صديقنا . 

_ أخونا ، لكن . . .

_ لا تتردد ! تعال معي ! 

مشيا في بستان لوز انتهى بهما دانيا من خط الهدنة ، فهبطا واديا في جنبه أجمة أثل انقذف فيها رمضان 

، وعاد حاملا شيئا . قال : بطانية نلفه فيها . 

تعجب مصطفى : إلى هذا الحد تثق في ظنك ؟ ! 

_ خفض صوتك ! وصلنا السلك ، اتبعني ! هناك ثغرة تحت السلك حفرتها السيول ، نمرق منها . 

نفذ رمضان من الثغرة ، فتبعه مصطفى . تعجب من نفسه : ماله يتبع هذا الطائش المتهور مخدرا منزوع الإرادة ؟ ! أيمضي إلى هلاكه بهذه السذاجة والسلاسة ؟ ! هم بأن يقول : دعني أرجع ! ماهذه الحماقة التي نقترفها ؟ ! 

لكنه تابع سيره خلف رمضان . الوادي الذي يسيران فيه امتداد للوادي الذي هبطاه منذ قليل . 

قال رمضان همسا دون أن يلتفت خلفه : اجرِ ! 

جريا . تقافزت الأرانب البرية ، وجرت أمامهما وعلى الجنبين ، ونفرت طيور من مجاثمها في الشجيرات 

ومتطاول الحشائش زاعقة هلعة ، واقتحمت أنفيهما روائح العشب الكث مذابة برائحة ندى الليل وعبير الأرض

. فجأة تعكرت الرائحة االزكية ! داخلتها رائحة خفيفة مزعجة ! 

همس رمضان مراخيا سرعته : تشم رائحة ؟ 

قال مصطفى نازعا صوته من عمق صدره : أشم . 

_ رائحة جثة . 

_ قد تكون رائحة حيوان ميت . 

_ حيوان ميت ؟ ! 

قالها رمضان في استهزاء خفيف ، وتوقف ، وجذب مصطفى ، وأوقفه . قال : نمشي على مهل ، قربنا 

، الرائحة قويت . 

كرر مصطفى : قويت .

سارا متمهلين حذرين تهاجمهما أحاسيس الوحشة والشك والأسى الغامض . ضرب رمضان جيب بنطلونه 

فحدثت خشخشة . قال : علبة الكبريت معي . 

قويت الرائحة ، وصعبت إطاقتها ، فسدا أنفيهما . 

قال رمضان : اقعد نتسمع ! 

قال مصطفى ملتفتا خلفه : ممكن يكون عندها كمين ، فنضيع .

همس رمضان : هذا لم يخطر لي . جئت إلى هنا مع أسامة أكثر من مرة قبل مد السلك وبعده . المكان 

مهجور ؛ لذلك اختبأ فيه أسامة مدة شهرين منذ مطاردته . يخرج منه ويعود إليه . 

قال مصطفى : سر بنا إذن ! 

تقدما ، فقويت الرائحة . لاحت لهما حشدة شجر في نور القمر الذي كان يتوالى انجلاء وانحجابا في غيوم الربيع . قال رمضان : انتظرني هنا ! سأذهب وحدي لأتأكد . 

قال مصطفى : نبقى معا أحسن . 

تقدما متوجسين متوترين ، وتحت سدرة كبيرة لمحا امتدادا أسود مشوشا . تابعا التقدم . سخن وجهاهما . توالت 

دقات قلبيهما سريعة حارة . الرائحة مخيفة تقلب المعدة . اختفى القمر . أعتم المكان ، فامحت معالم الامتداد الأسود . عاد القمر للمعان شاحب ، فبانت جثة إنسان . أضاء رمضان عود كبريت ، فبانت جثة أسامة . وجهه منقور مشوه . نشج الاثنان . هدأ رمضان أولا ، فقال : افرد البطانية ! 

تجمد مصطفى مشلولا لا يقدر على فعل شيء . فرد رمضان البطانية ، وقال : امسك من الرجلين ! 

تردد مصطفى . لا يزال ينشج . قال رمضان : امسك ! سأرفع من الرأس . 

رفعا الجثة قليلا ، فانفصل الرأس . وضعه رمضان في البطانية ، ودفعا بقية الجثة إليها ، ولما أطرافها ، 

وسارا ذاهلين شبه فاقدي الوعي ، وبعد أن اجتازا السلك الشائك أمنا واطمأنا . انعدم خطر الاصطدام 

بدوريات الليل الإسرائيلية . وضعا البطانية عند شجرة لوز ، ووقفا صامتين محزونين . قال مصطفى :

ماذا نفعل ؟ 

أجاب رمضان : نذهب إلى عمه . 

رفعا البطانية وواصلا السير ، ولما بلغا سدرة قديمة فوق مرتفع في قطعة أرض لعم أسامة قال رمضان : 

نزل هنا ! سأذهب إلى عمه .

اقترح مصطفى : أذهب أنا ؟ 

_ تلطف في إخباره ! 

مضى إلى الحجرة المستقلة التي يتخذها عم أسامة مجلسا . 

نادى فخرجت امرأة . زوج عم أسامة . قالت : أبو عوني قدامك . ادخل ! 

واختفت في منزل الأسرة الملاصق للمجلس . ارتفع صوت أبي عوني : تفضل ! 

حيا مصطفي ، ووقف في الباب . قال العم : ادخل ! لماذا تقف ؟ ! ما بك ؟ ! 

أشاح مصطفى وجهه يقاوم دمعه . سأل العم : خير ؟ ! 

وقام من عند كانون النار المتأججة ، وتقدم إلى مصطفى . سأل : ماذا ؟ ! 

_ أسامه .

_ ماله ؟ ! 

_ مات . 

_ يا ولد! 

أدار مصطفى ظهره ، وانبجس في بكاء عنيف . أمسكه أبو عوني من ذراعه اليسرى متسائلا :

ماذا ؟ ! مات أسامة ؟ ! كيف ؟ قل ! يا ولد ! مصطفى ! فهمني ! 

بالكاد نطق مصطفى : تعال ! 

مضى الاثنان . أبو عوني يسأل ومصطفى ينشج ويغمغم . وصلا السدرة . 

قال رمضان : البقية في عمرك . جئنا به من وراء الخط . 

سأل أبو عوني : هو الذي في البطانية ؟ 

_ ميت منذ أيام . 

انتحب أبو عوني ، وفي سرعة غريبة كف انتحابه . قال : رحمه الله . ندفنه غدا . 

قال رمضان : ندفنه الآن .

_ المقبرة بعيدة . 

_ ندفنه هنا . 

_ تحت السدرة ؟ ! 

_ هذه رغبته . 

_ رغبته ؟ ! كيف ؟ ! 

_ أحلف بالله إنه قال لي : أتمنى إذا قتلت أن أدفن تحت هذه السدرة لحبه لها . 

_ ندفنه تحتها . سأحضر الطورية والكريك . 

تناوب ثلاثتهم الحفر . لم يحفروا قبرا بالصفة المألوفة . حفروا نقرة تلائم ما في البطانية . وبعد أن صلوا عليه 

أودعوه حضنها ، وقرؤوا الفاتحة ، ومضوا . لاقتهم نسمة قوية . التفت رمضان ، فرأى غوارب السدرة تميس 

نافثة وسوسات دامعة.

وسوم: العدد 673