الظلم ظلمات
أبي من ذلك النوع من الرجال الذين أشربوا في الحياة كأساً دهاقاً، وأمي امرأة أرادت أن تأخذ زينتها في كل حفل تقيمه قريناتها، وعند كل منعطف تمر به لاهثة.
وأخي الأكبر مني سناً، والأوسع مني باعاً في المعرفة، والأكثر مني تجربة في الحياة، والأقرب لقلبي والديه، متزوج من ابنة عم له ذي ثروة محترمة، أما أنا فقد بؤت بغضب من أمي ولعنة من أبي، لأني عزمت على الزواج بفتاة غير ابنة خالتي تلك التي اختارتها لي، التي أعرفها وأعرف مشربها ومنبتها.. إن هي إلا صورة مصغرة عن أمها، ولوحة مكبرة عن نفسية أمي.
كان أبي في صباي يظلمني لسبب وحيد.. هو أني أعق سلوكه وأنبذ نمطه.
وأتخذ لنفسي سلوكاً يثير اشمئزازه كما يثير حفيظته، وبدل أن تكون أمي الدرع الواقية لابنها اليافع فإذا هي طبعة ثانية منقحة عن أبي، قد قبر الظلم في داخلها وعاد بعدما اندثر، تتدحرج الفتنة أمامها ككرة يتحكم في اتجاهها اللاعبون المحترفون.
وكنت أنا تلك الشجيرة الصغيرة المورقة.. تتلاعب بها العواصف بقصد اقتلاعها من روضها الهادئ الجميل.. لتقذفها بقوة التيار إلى ملهى الحياة الصاخب المنفعل.
وبدأ الصراع لاهباً بين جنتي ونارهم، كل المتنازعين متصلبون.. وكان رأس أخي الناعم.. ( الأكثر تجربة ) كما يقول والدي: أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة، كان رأسه يمتد كرأس أفعى تعطيهما من طرف اللسان حلاوة و«طاعة».. ومن الطرف الآخر تلقي سمومها المميتة.
صرت عاقاً وصار هو مرضياً، لم أكن آسف على حظي ولم أندب موقع نفسي منهم، وإنما كنت آسف على تيههم.. ولربما كنت في ساعة من ساعات الشدة أدعو لهم بالهدى.
ولشد ما كان يؤنسني سكون الليل.. وترانيم السحر وخيوط الفجر.. فتلك الظلال تلقي في حسي حدساً جميلاً وأملاً مضيئاً.
فشقيقي الذي يرى الحياة مادة.. والكون قد أوجد نفسه.. والإنسان قد تطور من قرد فآل إلى ما هو عليه.. ولا خالق ولا رازق غير ذاك الذي يسعى له الفرد بين الناس، فبقدر الجهد المبذول يكون العطاء.. والقضية قضية أرقام، لشد ما يقلقه أن ينظر شقيقه إلى السماء راجياً من هناك العطاء بعد أن يلقي البذور في الأرض.
وأبي قد يخجل بي وبأفكاري «المتزمتة القديمة البالية» عند لقاءاته بأقرانه السياسيين القدامى وذوات المتاع والباع.
وأمي يؤرقها كثيراً أن ترى صاحباتها اللاتي يتحرين آخر الصرخات في عالم الأزياء، ومبتكرات وسائل التجميل؛ أن يرين (كنتها) -أي زوجتي- بزيها المحتشم، المتواضع، وما برحت تصفه بالملبس (الذي يوحي بالشؤم ).
* * *
حملت نفسي بعيداً عن عمارة أبي التي تتسع لخمس عائلات لأقضي شطراً من الزمن مع من كانت سبباً رئيسياً لطردي من رحمة والدي.
لم تكن مشكلتي لتصل إلى حد المأساة، ولم يكن الشعور الذي ينتابني قاسياً إلى حد يجعلني نادماً على شيء ضاع مني. وبمرور الأيام تأكد لدي أن والدي أراد معاقبتي على معصيتي، فنقل كل أملاكه إلى ابنه المطيع قبل مفارقته الحياة، كما تبين لي أن أمي سامحها الله كانت نافخة الكير له.
وقد من الله علي بالصبر والسلوان، فلم أشعرهما بما يدور في نفسي ويضج به رأسي، وكنت أعودهما بين الحين والآخر زائراً غير مرغوب فيه، وكنت أكمم فاه زوجي بالتجهم والصمت المغرق، وقضية الرزق عندي قضية مفروغ منها، لذلك ما فكرت قطعاً في موانع الحمل مثلما كانت تفعل أمي في صباها أو أخي وزوجه هذه الأيام، وإذا بي ميسور الحال خالي البال، مستور الجانب، لا أحتاج أحداً، فقد فتح الله علي بحسنة الدنيا، مقدماً فغدت حياتي سعادة سرمداً.
انتقل والدي إلى العالم الآخر.. إلى عالم لا يضيع فيه مثقال حبة من خردل ، يومها اشتد بي الحزن وخلت نفسي من رواسب الماضي فرحت أدعو له كثيراً بالمغفرة.
وقد أصر بعض الأقارب والمعارف على ولديه -أي أنا وأخي- للحضور إلى المسجد القريب من فجر اليوم الثاني، كنت أجد السير عند السحر كي ألحق صلاة الفجر في المسجد الذي يبعد عن مسكني مسافة نصف ساعة، وللمرة الأولى رأيت أخي يدخل المسجد ويصلي، ولاحظت أنه قد قطب حاجبيه واجتر عقدة إلى جبهته.. ينظر من طرف عينيه ليتابع المصلين ويفعل مثل حركاتهم.
وبعد انقضاء الصلاة، قام رجل من الأقارب وهمس شيئاً في أذن الإمام، فقد قرأ الإمام شيئاً من الأدعية، ثم تجمع الناس في حلقة وأخذ الإمام لفافة من يد الرجل، وأخذ الحاضرون يتناقلونها، وكل واحد يعطيها جاره قائلاً: أوهبتك إياها فيرد الآخر: قبلتها منك، في نهاية المطاف عادت الصرة للإمام فأعطاها للرجل.. دسها الرجل في جيب معطفه ثم أخرج من الجيب الآخر كيساً، وأخذ يوزع منه قطع النقود المعدنية على أولئك السذج المحترفين الذين جاؤوا خصيصاً لهذا الغرض كما فهمت فيما بعد من الرجل المقرب، وفهمت شيئاً آخر كان مستعصياً على ذهني إجابة على استفساري عما صنع الرجل تلك الساعة بقوله:
- عملنا للمرحوم (سقوط صلاة ).
- ماذا سقوط صلاة !!!
- أي نعم.
- ثم اقترب الرجل ليهمس لي.. ففاحت من أنفاسه رائحة كريهة فأشحت بوجهي قليلاً وانا أستمع لقوله.
- لازم تحج له حجة بدل.
- حجة بدل؟
- طبعاً من ماله.. المال موفور.. سلامة خيره.
تحاشيت الخوض في أي جدل في وقته غير المناسب، لكنني بإلحاح ذاتي تحولت إلى معرفة محتوى اللفافة القماشية.. وعلى وجه التحديد لتأكيد معلوماتي: يا عم ماذا يوجد في الصرة؟
- أجاب مفتخراً ذهب.. أساور.. عقود.
- من أين جئتم بها؟
- من سامي بيك.
ولم يطل بنا الموقف فقد أقبل أخي ( سامي بيك ) ليأخذ اللفافة الذهبية ومضينا كل في سبيله.
في اليوم الثالث للوفاة صنعوا طعاماً ( على روحه ) ليطعموا الفقراء، وتوافد الفقراء، وكانوا هم أولئك (الدراويش ) أنفسهم إضافة للأقارب والمعارف والأصدقاء القدامى الذين أترفوا وامتلأت بطونهم، وقام ( الدراويش ) يقفزون ويتمايلون ويترنحون فيما يسمونه ذكراً.
كانت زوج أخي تطل من النافدة لترى المشهد الذي يضحكها في غمرة أحزاننا، كما كان أخي يداري ضحكته الماكرة في خبث، وكنت أسأل نفسي عما جعلهم يبذخون هذا البذخ، ويعلنون عن كرمهم هذا الإعلان بعد ممات والدي، حيث ضن في حياته، وأي شي منعه من البذل ومن تأدية فرائض الله عندما كان فوق التراب.
* * *
عدت إلى منزلي ذات يوم كعادتي بعد فراغي من عملي وقد خلا من حركة أولادي الخمسة، فأحسست أن في ضيافة زوجي امرأة، فدفعني حرصي الدائم على النقاء في علاقات أسرتي مع الآخرين، دفعني إلى استنباط الخبر، فوجدتها تداري عني سراً وتكاد تخفي ما وراء المرأة بادعائها أنها إحدى القريبات.. جاءت في زيارة عابرة، غير أن تلك القريبة أصرت على لقائي، وبعد تمهيد ليس بالمطول فاجأتني بقولها:
- خذ بالك من أمك.
- وما لها أمي ؟
- أمك صارت اليوم غير ما كانت بالأمس.
وتوهمت أن أمي قد اتعظت بالموت فبدلت من سلوكها وانضبطت في حياتها، فأخدت أدفع ذلك الوهم قائلاً:
- أمي وأعرفها أكثر من كل الناس.. والله لا تهتدي وإن اهتدت... وجعلت أبلع ريقي لأستجمع أنفاسي اللاهثة من جديد، لكني انثنيت عن عزمي في التقريع والإساءة لأمي فعدت قائلاً:
- على كل حال.. هداها الله وهدانا جميعاً.
أحسست بنظرات المرأة ثابرة فتحولت بوجهي بعيداً، وقد كنت من البداية متحاشياً النظر في وجهها، اصطدمت بعيني زوجي المعاتبة، قالت المرأة القريبة:
- اسمع يا أخي.. لولا معرفتي بغيرتك وحرصك على أمك كحرصك على نفسك وغيرتك على امرأتك لما جئتك أبداً.
أحسست بذهني يوجم وتتلبد الحركة فيه عندما استطردت المرأة قائلة:
- أنا أعرف أنك قاسيت من أمك.. وعانيت من معاملة والدك رحمه الله، ولكن الولد دائماً يكون حناناً لأبويه مساعداً لهما.
تصبب مني العرق.. أغرقت في لجة أفكار متطاحنة، اندفعت وراء الحجب أستجدي الحقيقة الخابية، منتقياً لفظة النداء: يا خالة.. قولي لي بصراحة ووضوح ما حدث لأمي؟
- هدئ نفسك.. لم يحدث لها شيء.. وإنما...
ولعلها قطعت حديثها عن قصد لتلهب عاطفتي فوجدتني أستشيط حماسة للمعرفة وكدت أسمع دقات قلبي المتزايدة، ولو أنها رجلاً لهززت كتفيه بعنف ساعة نهضت هاتفاً:
- قولي لي.. ماذا جرى؟!!
فنهضت هي الأخرى وكذلك هبت ( أسماء )من موقعها.
- لا تخف.. ما حدث لها شيء.. لكن أرجوك أن تحضر أنت وأسماء إلى بيتنا.. فأمك هناك.
* * *
ووجدت أمي هناك فعلاً، ولعل مصيبة حلت بها لا أدري تفاصيلها، غير أن جواً مكفهراً قد خيم على المكان والسكان..
كانت تلك المرة الثانية في حياتي التي أرى فيها أمي وقد حجبت رأسها بوشاح وإن كانت بعض خصلات شعرها متدلية، أما المرة الأولى فكانت يوم لبست السواد حداداً على فقيدها.
شيئاً فشيئاً استطعت أن أفهم قصتها، فقد طردتها زوج ابنها الآخر(المطيع)، فالتجأت إلى هؤلاء الأقارب تستجدي المأوى والمأكل في عرينهم.
أما حليها الكثيرة التي يمكن لها أن تعيش بثمنها مدى حياتها فقد أجابت بشأنها:
- أخدها اللعين يوم عملوا ( سقوط صلاة ) للمرحوم ولم يُعِدْها.
انحدرت دمعتان على خديها.. اختلط نشيجها بكلماتها..
- الله يجازيك يا سامي.. الله ينتقم منك يا سوسن.. يا امرأة الزفت.
راحت ( أسماء ) تكفكف دموعها، وتطيب خاطرها بكلمات المواساة، وتدعوها إلى منزلنا مكرمة معززة.
انتابني إحساس طفل يريد أن يمرغ وجهه في صدر أمه.. يطلق لعواطفه المكبوتة عنانها.. يبكي في حضنها.. يمسح دموعه براحتيها، وما منعني من ذلك غير وجودنا في بيت أولئك الطيبين.
عدت وأمي وزوجي إلى منزلنا مزجياً جزيل الشكر لتلك الأسرة مغبطهم على أريحيتهم.
وفي ذلك اليوم جلست أدعو لأبي وقد خلت نفسي من شوائبها، وارتحلت عني كل مشاعر الأسى.
وبينما كنت وأسماء نؤدي دور السائس الحاذق المتمرس.. نلطف الجو.. نضفي عليه نوعاً من المرح.. نؤدي الخدمات لأمي ونقوم بالواجبات نحوها، جاءني خبر عن (سامي بيك) الذي تقلب كثيراً في المراكز، فقد ترقى من جديد في وظيفته ليكون صاحب صولة وجولة.. ومكانة محترمة في محيطه الطبقي ومحفله الاجتماعي.
يتبع...
وسوم: العدد 679