نوبة هذيان

عصام الدين محمد أحمد

رتب الصور كيفما تشاء

صورة :

-تنقح على ذهنى مفردات قصة ،أمتشق التعجب :

{ أتمهل الخطو إلى البئر أستشفاءَ،أشم الهواء المعبق بالأزهار ،أخلع ذيول المرض ضجراَ ،تهشم حائط البئر هجراناَ ،تعفنت مياهه بجيفة كلب نتنة ،جف مشرب البهائم هملاَ ،أفتش عن القرموط المفترس ،الذى أرهبتنى به أمى طيلة طفولتى ،لا يسكن القاع ،أتنسم أريج عم سيد السقاء ،يدلق الدلو فى الحوض المقبب ،الذى ينتهى بفتحة ،تقفل بخابور خشب مقبب ،يشحط قربته فوق أنحناءة الظهر ،يحتمى من البلل بجلد الماعز الوبرى ،تطفح زيرنا ماءَ ،يرفس مقايضة الماء بالغلال ،يرهن داره للعمدة ،يهجر المهنة ،يقصد القاهرة ،يذيع صيته فى سوق روض الفرج ،يتعهد بتوريد الفواكه والخضروات للجيش ،يحفر بئراَ حديدية ،يملؤها مالاَ ،يطمس معالمها أسفل باب الفولاذ ،يدفع للعمدة المال الوفير حتى لا يعود ثانية.}

أتربع جوار البئر المهجورة ،أنفض الأتربة ناحتاَ عيون سيجة خماسية ،أتساءل :

-أين الحيلة ؟

تهاجمنى تقاطيعه الجامدة :

{ يرص أحجار السيجة ، يكسب الأدوار (افرنجى )؛دون خسارة كلب من كلاب السيجة ،أغافله ،ألتهم كلباَ ،أقذفه بعيداَ ،أتنهد الصعداء ،أرقص نشواناَ ،يتذمر من كسبه الأعور ،يهيل الأتربة فوق العيون طمساَ ،يرهن أرضه للعمدة ،يفر غلى الكويت ألتماساَ للمال ،يتجبر العمدة مالكاَ ،يستحدث قصراٌ مزخرفاَ ،تنسطح أرضه زيادة .}

أسكرتنى النسائم عافية ،أرنو بعينى على مدى الشوف ،لا ألمح سوى أطياف متناثرة فى الأجران ،هدوء لا ينبئ بعواصف الصدور اللبدة ؛لوحة كونية بديعة ،لا أستبين الجار من المجرور ،الدواب أم أصحابها ،يقيل الطقس ،تنز السماء لهباَ ،ينطفئ الوميض رغما عن الحرور ،ينغلنى الصهد ،يتداخل السحور والفجر والضحى والمساء .

صورة:

أرتدى عباءة الراوى ،أستجلب نتف الحكايات :

{ تتسابق الأيام فوق جسدى المسجى ،تتبدل الأشياء أشباحاَ ،أضحى فراشى مؤتمراَ لكل مشارب القرية ،يحتد النقاش ــ دوما ــ بين العواد ،تنخرس الألسن تألما ،يسوطها الحاج عبد الرحمن ،تنغمس سياطه فى زيت الشريعة ،يزجر الحضور نقماَ :

-يسطو العمدة ، تتفرجون ،تمتعضون سراَ ،تزينون له القرابين .

تزوم الشفاه ،لا أحد يجيب ،يتأجج الحوار القابع فى الصدور حيرة .}

أتقلقل أسفل الغطاء الخشن ، أجلس منصتاَ متأملاَ ،تندمج مشاهد قريبة ،بعيدة :

{ أستضيف دارساَ يابانياَ ،نجوب حوارى القرية ،تروق له الشعاب الواسعة مقارنة بالقرى الأخرى ،نزور وابور الطحين ،يشرح المهندس بولس آلية المكنة ،نشاهد المنخل ،تعفرنا الردة ،نسبح فى الحقول تقييماَ ،تكتظ سباتات البوص بالاجهزة الكهربائية ،تبور الأرض جدباَ ،تفرغ الدور من الشباب الذى صعد أرجوحة الهجرة ،عطب جهازه للعرض السينمائى فى دوار الهجارسة ،يمهر حنفى فى أصلاحه فناٌ ،لم يسبق للأخير التعامل مع الأجهزة الحديثة ؛ولكن الله سلم ،يفاجأ المتفرجون بالفجل اليابانى المهندس وراثياَ ،يهمس العمدة فى أذنى :

-سيكون لك شأن عظيم .}

سلبتنى إغفاءة المساءات روقان البال ،تشتت المتصدقون بالسؤال هزيمة ،رفل الصوفى فى حضرة البكور متسربلاَ العمامة الخضراء ،أهدانى ورداَ ،يشكو شقاوة أطفال الحاج عبد الرحمن ؛يفضون مجالس الذكر بكرباج الشريعة ،أستمع على مضض ،ألتهى بتجريب الورد ،تنكرنى الآيات القرآنية ،أتحرك موضعى حرجاَ ،أكرر التلاوة ،تتعثر الآيات فى حلقى ،أمعن التدبر ،تنساب مسحات الأيمان رجرجة ،أقف .

صورة :

ينفلت عقلى مستكشف الأطروحات  ، يجثو ملامس ذكرى الأحداث :

{ ألمحه أسفل الصفافة ،تحمل ساقاى بدناَ نقهاَ ،توجهت إليه ،يحفنى ببشاشته الآسرة ،أقعدنى قبالته ،يصب لى كوباَ من شاى (الترمس )، يتجهم ، وسرعان ما يبتسم ،يتأرجح ما بين بين ،يسأل :

-كيف الحال يا أبو الخال ؟

أجيب خمداَ :

-لا يحمد على مكروه سواه !

أصمت ، تتأرجح الأسئلة ، تنفرتى نطقاَ ،يستأنس سكونى ؛ يحكى :

-فى قيالة يوم أربعاء من عشرين سنة ،لقيت ثلاثة مطاريد من عرب بنى حميل يتناجون ،يتشاورون ،أو هكذا شبه لى ،بيدهم بلاص جديد مغطى بالليف ،ندهت عليهم ،توقفوا لحظات طويلة ،قلت فى عقل بالى :

-تسل يا وله .

جززت على مخارج الحروف متسائلاَ :

-مشغولون ليه ؟

لم يجيبوا ،أوجست ريبة ،أتنمر مستفزاَ مستخبراَ :

-البلاص فيه إيه ؟

يتخبطون قلقاَ ،يبتسرون اللخبطة ،يرد أوسطهم طولاَ :

-فلوس وذهب .

أحتال عليهم مقنعاَ :

-الدنيا نهار ،طريق العودة غير مأمون ،اعطونى البلاص لغاية الليل .

استودعونى البلاص ،رحلوا ،وفى المساء أستقبلهم عيالى بالطلقات تشييعاَ ، أمطروهم حمماَ ،فروا ،تناسوا البلاص فى غمرة الحياة ،يستدرك مقنعاَ :

-*لم أسلب الفلاحين أراضيهم وماشيتهم، فمنهم من يرهن لى أرضه ولا يقدر على الدفع ،(زى)الحيلة وما باليد حيلة !!

يتلعثم لسانى أطراءَ ،أستأذن مغادراَ ،أهز بدنى نفضاَ للخدر .

صورة :

أقلب صفحات الشطط ،أتلو فصلاَ بلا عنوان :

-أعدو إلى حجر أمى المرفأ ،تربت بأياد حانية قدى المستعر ،تزعر المخاوف ،تنسحق أسفل قدميها ،تتوه أمارات أضمحلالى ،أقفز فوق السرير الجريدى ،رجوتها أن تدعنى منفرداَ،أنخرط فى الهدوء ،يدحرنى الكبر الأجوف فى صومعتى المصمتة ،أغفو :

{ تطفح الجرادل بالرمال ،أفرغ شكائر الأسمنت ،أرسم بالمونة دائرة داخل دائرة ،تنساب مياه الخرطوم بين الخليط ،تختمر المونة ،بأياد ناعمة أقلبها بالكريك ،تصبب الجبين عرقاَ ،جارت الأوجاع ،تظلم عمودى الفقرى ،تكاسل الوقت حبواَ ،تتالت الطواليش الملآنة والفارغة ،أعترانى الخلل ،أمحر مندرة العمدة الجديدة ،حاق بى الوهن ،تندس قروش قليلة فى جيبى ،يسخر العمدة من هيئتى الرثة ،يشمت ،أتناجى :

-سيق قدى بسيوف النواهل ،ما جنت يداى إلا صرة أسمال .

تصيح أمى لهفة :

-ما لك يا كبدى ؟

كالأبله الجائل فى القرية دون همدان أردد :

-لا شئ ؛الحال على ما يرام .

تخلع قرطها الذهبى ،تزفه أسفل الوسادة ،تأمر هامسة :

-خذه يا ولدى .

أتنحنح سقماَ :

-قرطك لن يفيدنى ثمنه ،ولن يفك رهنية الحيلة ،والسقاء رغب عن داره ،والفلاحون يقبلون أقدام العمدة طلباَ للعمل .

أقطع نسيج الغرفة جيئة وذهاباَ ،أفتش جيوبى المعلقة على مسامير الحائط ،يتقافز فوق الحائط برغوث عفريت ،يراقبه البق المنتفخ ،أتدثر الغطاء ،أنهض ،أرتق البلغة بالدوبارة الغليظة ،أقضم درجات السلم ،أتمطى خارجاَ.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 680