صوت اللاشيء

كنّا دائمًا نقول إنّ شيئًا من هذا لن يحدث لنا.

أن نبهت ونبدأ في التباعد التدريجيّ حتّى تنقطع كلّ الحبال والخيوط والشعرات التي تربطنا؛ لن يحدث.

أن نختصم بشدّة وعنف وتقع القطيعة الأبديّة بيننا؛ لن يحدث.

أن نقول قد كبرنا وانتهى عمر هذه الصداقة الطفوليّة؛ لن يحدث.

تخيّلنا كلّ شيء رأيناه يحدث أمامنا للصداقات، كلّ الاحتمالات المعقولة واللامعقولة، واتّفقنا أنّ شيئًا منها لن يحدث لنا، قلنا لن يفرّقنا إلا الموت الذي لا نقدر له ردًّا.

هكذا مضينا جذِلَتَيْن بكلّ تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، قضينا معًا أكثر من عشرين عامًا، حتّى قاربنا نهاية دراستنا الجامعيّة. اتّصلتِ بي صباح يومٍ لتقولي لي بهدوء إنّكِ لن تحضري اليوم. سألتُكِ بتلقائيّة: مريضة؟

- لا..

وبسخرية قلتُ: مالك مزاج؟

- تقريبًا.

شيءٌ ما حاك في صدري من ردّكِ المقتضب، لكنّي علّلتُه بمزاجٍ سيّء لا غير. وكصديقةٍ تعرفكِ تمامًا أنهيتُ المكالمة على أنّ كلّ شيءٍ سيكون بخير.

في مساء اليوم ذاته أرسلتُ لكِ أسألكِ: هل تحسّنتِ؟ لم تردّي. أرسلتُ بعد ساعة: ما بكِ؟، ولم تردّي أيضًا. هنا اشتعل القلق في داخلي لهبًا، اتّصلتُ.. ورنّ هاتفكِ طويلا ولم تجيبي. مرّة أخرى، وثالثة ورابعة وعاشرة.. أكثر من عشرين مكالمة لم تجيبيها!

أخيرًا تخيّلتُك ملقاةً في فراش الطوارئ في المشفى، ورأيتُ أمّكِ تبكيكِ! أعتذر عن فأل السوء هذا.. لكنّ الأعوام التي قضيتُها معكِ لم تسعفني بسبعين عذرٍ، لم تسعفني إلا بهذا العذر الواحد.

وقرّرتُ أن أتّصل بأمّك، رنّ هاتفها رنّتين ونصـ..

بصوتٍ فرِح: هلا والله.. هلا وغلا بـ...

- السلام عليكم، كيفك خالة؟

وما بين التحايا والسلام والحمد وأخيرًا السؤال عنكِ، جاءني جواب أمّكِ كاللطمة: هي بخير طبعًا بألف خير، اليوم كانتْ في المحكمة وصار عقد زواجها..

خرج صوتي باهتًا لم أعرفه: - عقد زواجها؟

أكّدتِ لي أن ما سمعتُه صحيحًا، فباركتُ لها بسرعة وأنهيتُ المكالمة.

بقيتُ وقتًا لا أدري قدره أحدق النظر في الجدار وكأنّي أعيد اكتشاف طبقاته، وكانت في ذهني بضعة أسئلة علّك تجيبينها:

ما الذي يفترض أن أفكّر به الآن؟

كيف عليّ أن أشعر؟

لماذا لم تخبريني ببساطة أنّكِ ذاهبة للمحكمة؟

لماذا لم تخبريني أصلا أنّكِ ستتزوّجين؟

لا يهمّ أن تخبريني قبلا.. لماذا لم تردّي على الرسالة وتقولي لي مثلا:(احزري ماذا حدث اليوم؟ هيييييه لقد تزوّجت!)؟

هل أنا حمقاء أنّي لم أنتبه من قبل أو يخطر في بالي ذلك؟

هل أنا حمقاء لأنّي بدأتُ الآن أشعر بالاستياء وبدأ استيائي يتحوّل إلى سخط وبدأ سخطي يتحوّل إلى غضب وقريبًا سيتحوّل غضبي إلى اكتئاب؟

كتبتُ أسئلتي في ورقة، وصوّرتُها، وأرسلتُ الصورة لكِ. وذهبتُ لأحاول النوم.

في اليوم التالي لم تحضري للجامعة! ما معنى هذا؟ إنّه فصلنا الدراسيّ الأخير!!

سألني الجميع عنكِ؛ الزميلات والصديقات والأساتذة والأستاذات، الجميع يعرفنا، قلتُ لهم ما أعرفه: لقد تزوّجتْ. ولم أزد شيئًا على ذلك، أيَّ شيءٍ قد أزيد وأنا لا أعلم شيئًا؟

وحين رجعتُ للبيت، كتبتُ لكِ ما حدث في الجامعة، وأضفتُ في النهاية: هل تنوين الحصول على شهادتكِ أم لم تعودي مهتمّة؟

رددتِ عليّ بعد ساعتين: أريد أن ألقاكِ خارج الجامعة. وضربتِ لي موعدًا بعد أيّام في مقهى مفتوحٍ بعد المغرب. أخبرتُكِ إنّي سآتي.

وصلتُ المكان واتصلتُ بكِ فأجبتِ: إنّي أراكِ، أمامكِ إلى اليمين. رأيتُكِ أخيرًا، وحين وصلتُ إلى الطاولة واقتربتُ منكِ قلتِ لي: لا تعانقيني، لا أريد أن أبكي هنا.

نظرتُ لحظة في عينيكِ ثمّ أذعنتُ وجلستُ. وضعتِ كفّيكِ معقودتين على الطاولة كأستاذٍ يستعدّ لإلقاء محاضرة، فلاحظتُ آثار نقش الحنّاء فيهما.. وابتسمتُ بزاوية فمي وأنا أقول: وحنّة كمان..

وتخيّلتُك ستنفجرين بالكلام ردًّا عليّ، لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث.

رحنا نتأمّل الطريق السريع الممتدّ قرب المقهى وصوت السيّارات والحافلات تركض فيه ذهابًا وإيابًا، أصوات الجالسين قربنا، صوت طائرةٍ مرّتْ، صوت حفيف الأشجار القريبة، هديل حمام لا أدري أين يقف، تغريد عصافير المساء، صوت ملعقةٍ تقلّب السكّر في الشاي، صوت طفلٍ فزع من نومه وبكى، وفي داخلي كان صوت اللاشيء الذي لم يسمعه أحدٌ سواي تلك الليلة.

بدأتِ تتكلّمين أخيرًا: لم أخبركِ لأنّي لم أكن أعرف، وحين عرفتُ لم أصدّق. لقد حسَبنا كلّ الاحتمالات..لكنّ أقربها لم يخطر في بالنا. كنّا نعتقد أنّ (هذه الأشياء) انقرضتْ، وأنّها -لو حدثتْ- لن تحدث لنا حتمًا. تعتقدين أنّكِ تعرفين أهلي.. كنتُ أعتقد أنّي أعرفهم أيضًا. فجأةً صار هنالك ذلك (الشريك) الذي لا يريد أبي أن يخسر دعمه الماليّ لشركته، وفجأةً صار عنده ابن شابّ، وفجأة صار زواجي منه أمرًا لا مفرّ منه. صارتْ حياتي فجأةً حلقة من مسلسلٍ عربيّ سخيف؛ كنتُ أظنّ أنّه لن يحدث لي لأنّي لم أشاهده! والأسوأ من هذا كلّه إنّ أهلي رفضوا أن أدعوَ أحدًا من أصدقائي (البيئة).. تخيّلي؟ اضحكي ولا تحزني.. لم أحسب أنّ أمّي تعرف كيف تستخدم هذه الكلمة. صرتم جميعًا (بيئة).. مجرّد مخلوقاتٍ طفيليّة بالنسبة لها، أعلم أنّها ردّتْ على اتّصالاتكم بترحابٍ ولم يكن هذا تمثيلا ولا ادّعاءٍ، لكنّ -بحسب زعمها- لكلّ مقامٍ مقال! في النهاية هي تحبّكم.. ولكن ليس أمام أهل زوجي! ألم أقل لكِ إنّه مسلسل عربيٌّ سخيف؟. لا أدري حقًّا.. هل يأخذون السيناريوهات من حياتنا، أم يفرضونها علينا لنمثّلها ونعيش الدور؟!. كنتُ دائمًا أتمنّى أن أعيش دور (السهم الأخضر)! أعتقد أنّها راحتْ عليّ الآن.

وسكتِّ.

فتنهّدتُ وسألتُكِ وكأنّي لم أسمع شيئًا: هل ستحصلين على شهادتكِ الجامعيّة أم لا؟

نظرتِ إليّ بحزنٍ وقلتِ: لا أعرف، لم أعد أملك أن أقرّر شيئًا في حياتي.

رددتُ بحزم: بل تملكين. كيف جئتِ هنا إذًا والتقيتِني؟

بانفعالٍ أجبتِ: كنتُ أزور أهلي وألححتُ على أمّي أن أخرج لألقاكِ..

بانفعالٍ أكبر قلتُ: - ونجحتِ في إقناعها. والآن فتّشي عن طريقة لتكملي بها مشواركِ الذي لم يبقَ منه سوى ثلاثة أشهر..

بسخطٍ أجبتِني: وماذا بعدها؟ ها؟ قولي لي.. ماذا بعدها؟ لقد انتهتْ حياتي في اللحظة التي تمّ فيها هذا الزواج..

سكتُّ مبهوتة وكأنّي أراكِ أوّل مرّة، لكن في لحظاتٍ تحوّلتْ دهشتي إلى حزن بعدّة أوجه:

لو كان الذي حدث لكِ قد حدث لي، ماذا ستكون ردّة فعلي؟

حياتكِ لم تنته بعد، أتمنّى أن تفهمي ذلك.

إنّنا نفعل أشياء كثيرة في حياتنا لا نحبّها، لكنّنا نفعلها بأيّة حالٍ.

هل معكِ حقٌّ في هذا اليأس؟ من يقرّر هذا الحقّ؟

ماذا يمكنني أن أفعل الآن كصديقةٍ عرفتْكِ لأكثر من عشرين عامًا؟

أدرتُ ناظري عنكِ إلى الشارع: صوت فرامل قويّة، صوت زجاجٍ يتحطّم، صوت حديدٍ يُعجَن، صوت الناس يصرخون بالنجدة، أصوات المتجمهرين يتجادلون: أخرجوهم.. لا تخرجوهم.. انتظروا الإسعاف.. لن تصل في الوقت المناسب.. يختلفون حول مصير المحبوسين في السيّارة، ولا أحد يسألهم: ماذا تريدون؟ ما أدراكم.. لعلّهم يريدون الموت.

لم أركِ من ذلك اليوم، ولم أعرف ماذا اخترتِ، تلاشيتِ كأنّكِ لم تكوني. ولذا كتبتُ لكِ قصّتنا هذه، لعلّها تصلكِ، فإن وصلتْ وقرأتِها، فاغفري لي أنّي لم أملك ما أجيبكِ. لم أعرف ما أقول، فاخترتُ أن أسألكِ السؤال الوحيد الذي تمنّيتُ أن يسأله المتجمهرون للمصابين في الحادث:

هل تريدين الموت أم الحياة؟.

فإن اخترتِ الحياة فأنتِ تعلمين أنّها الخيار الأصعب، أنّ عليكِ أن تحاربي لتناليها. وإن اخترتِ الموت؛ فتذكّري أنّ الطريق إليه سهلٌ  جدًّا.. فقط أنصتي لصوت اللاشيء، وستصلين إليه.

وسوم: العدد 689