الدكتور شهيد

ذهبنا والدموع تأبى إلا أن تخرج من سجنها لتعلن الحزن أشد الحزن على الدكتور (حسان) .. جلسنا مع زوجة أخيه البالغة من العمر خمساً وعشرين سنة أم لطفل وطفلة فيهما من الجمال الملائكي ما ندر أن ترى مثله .. لم نستطع أن نجالس والدته لأنها في بلد الدمار والموت في سوريا .. كانت (عروبة) زوجة أخيه تروي قصته والدموع ملء الجفون :

ـ حسان سنة أخيرة طب ترك الدراسة والتحق بصفوف الأطباء المسعفين ، كان شعلة ذكاء ونشاط وهو الابن الثاني لحماتي ، زوجي الدكتور (حسام) يكبره بسنتين ولكن حسان تفوق على زوجي فهو اختار البقاء في البلد والتضحية من أجل جرحى الوطن ، أما زوجي فقد رضخ لإرادة والدته التي ألحت عليه أن يترك البلد من أجل الصغار فهو طبيب ومستهدف منهم ..

بعد استشهاد (حسان) بأيام ، تأتي (عروبة) إلينا تودعنا وتطلب منا السماح لأنها ستعود إلى الوطن إلى بلد الموت بكل ألوانه من قصف إلى حرق إلى هدم إلى ذبح وحتى الكيماوي صار وسيلة مباحة على أرضه ، وكأن ما يسيل على أرضه ماءٌ وليست دماءً ، فحسام لم يعد يحتمل بقاءه بعيداً عن والديه بعد استشهاد أخيه ..

مضت الأشهر ونحن نتواصل مع (عروبة) عبر وسائل الاتصال الحديثة ، كلماتها كانت دائماً مغلفة بحزن وهم .. قالت ذات مرة :

ـ عشت عمري كله وأنا ألاحق حسام .. وهو يهرب مني .. فما إن تجمعنا بلد حتى يتركني ويسافر ليلبي نداء الواجب والوطن .. ثم ألحق به ثم يتركني ويسافر .. هو لا يعلم أنه زوجي فقط بل هو طبيبي وصديقي وأخي وكل ثروتي ..

تأبطت شراً من كلماتها .. استعذت بالله من الشيطان الرجيم ورجوت المولى أن يحرسه من أجلها ومن أجل الوطن ..

فجأة تأتينا أخباره على الفيس بوك وشعارات التهنئة تبارك لعروبة بنجاة زوجها الدكتور حسام من الموت بأعجوبة حين قلبت سيارة كانت تقله هو وثلاثة أطباء من رفاقه وهم في طريقهم إلى المشفى في إدلب .. غمرتني سعادة مقيدة بالخوف على تلك الزوجة الرقيقة التي تحمل في طيات قلبها حب رجلها الأول والأخير ..

لم تمض أيام على تلك القصة حتى يأتيني اتصال باك من أختها تقول :

ـ حسام استشهد .. صارت عروبة أرملة .. صار الصغار الثلاثة أيتاماً ..

قلت لها :

ـ وحدي الله يا أختي .. لقد نجا من الحادث بأعجوبة ، وأنا اليوم كنت أهم أن أرسل إليها رسالة أهنئها فيها على سلامته ..

قالت :

ـ نجاه الله من الحادث ليتم نعمته عليه ويختاره شهيداً .. تصوري كان في البيت عند أهلي مع زوجته وأولاده وقرروا المبيت تلك الليلة عندهم ولكن أختي الكبرى قدمت هي وأولادها الخمسة فجأة عند أهلي هرباً من القصف الشديد في منطقتهم ، تريد الزيارة والمبيت أيضاً ، وكما تعرفين عن أخلاق حسام وأدبه قرر أن ينسحب من البيت ليترك المجال لأهلي فيأخذوا راحتهم من دون قيد أو حجاب .. ولما ودع عروبة .. قالت له :

ـ حين تصل إلى المشفى اتصل بي سأخبرك بخبر جميل جداً سيسرك ..

ابتسم حسام كعادة وجهه البشوش ورحل يا أختي .. ما إن وصل المشفى حتى بدأت الغارات الجوية وبدأت القنابل والشظايا تتطاير في أرجاء الجو الحزين .. ترك سيارته وأسرع إلى الناس يلمهم من باحة المشفى وما حوله لماً ويدخلهم إلى الداخل ولما انتهى من عمله وأراد أن يدخل معهم جاءته شظية غدارة دخلت في وسط قلبه أردته شهيداً في أرضه بعد أن أدى واجبه نحو الله والوطن حتى آخر نفس في حياته ..

قلت لها وأنا أجهش بالبكاء :

ـ عروبة لديها بنت وولد فكيف تقولين ثلاثة أيتام ؟

حينها اشتد صوت عويلها وقالت :

ـ أرادت أن تخبره عبر الهاتف أنها حامل بالطفل الثالث .. رحل قبل أن يعرف أن زوجته حامل ...

تذكرتها حين قالت :

ـ عشت عمري وأنا ألاحق حسام ..

في أقل من سنة فقدت أم الطبيبين طبيبيها ..

من فترة سمعت أختها تقول عنها :

ـ كلما أرادت أن تأكل الطيب من الطعام أوتلبس الجديد من اللباس تقول :

ـ والله ما باكل ولا بلبس وحسام مو عايش بيننا ..

وسوم: العدد 696