تلك الصغيرة
بين اليقظة والمنام ، خيالات وخيالات تمر أمام ناظريها ، تتلمس بطنها بحب وسعادة ، صارت البطن صغيرة وخالية من روح حبيبة كانت بداخله ، تسعة أشهر مضت كأنها سنوات تسع ، كلها هم ومرض وحزن وترقب ، شعرت أنها كبرت قروناً في تلك الأشهر .. عندما بدأت علامات الوضع تظهر عليها .. من آلام وأوجاع أحست بغصة تأكل قلبها أكلاً ، أحست بأن كل خلية في جسمها تحترق لأنها ستلد طفلاً كما قال لها الطبيب يوماً (غير طبيعي) .. تنظر إلى صغارها فرحين :
ـ ماما ستذهب للمشفى وتحضر طفلاً جديداً للأسرة .. منذ اليوم سيزيد عددنا واحداً.
وهي غارقة في أوجاعها النفسية والجسدية .. مع نسمات الفجر الباردة وكلمة (الله أكبر) تشق الصمت وتعلن الشمس ثورتها اليومية على الظلام والأحزان .. اشتدت آلام المخاض .. قررت أن لا تدخل المشفى إلا بعد أن تتم كل مراحل المخاض في البيت .. كان شبح الفراق يطاردها .. عيناها معلقتان بالأطفال في البيت .. ابنها وابنتها صائمان لأنه رمضان ، كيف سيفطرون وكيف سيدبرون أمورهم ؟ فجأة تأتيها مغصة شديدة تبكي بحرقة ، ابنتها الكبرى تحاول أن تقدم لها أي خدمة ولكنها تتسمر في مكانها ، فالآلام أكبر من حجم تلك الصغيرة ومن قدرتها على العطاء والمساعدة ..
هبطت الدرجات رويداً رويداً وصوت ضعيف يتأوه يخرج من قلبها ..
غطت في شبه غيبوبة .. وفجأة فتحت عينيها وصارت تصرخ :
ـ نور .. تعالي .. نور .. أنا تعبانة ..
ثم غابت عن الوعي .. اقتربت الممرضات منها .. أمسكن بيدها .. ضربنها على وجهها .. استعادت القليل من الوعي .. سألنها :
ـ من نور ؟ أين أهلك ؟ أنت لاجئة ؟
قالت بوهن :
ـ ما معي أحد .. نور مسافرة ليست هنا ..
وغابت عن الوعي .. فاقت وهن يحملنها حملاً إلى الحمام حتى يغسلن وجهها ويزلن آثار النزف عنها لعلها تصحو ..
ثم أعادوها إلى سريرها وحذروها من الاستغراق في النوم حتى لا تقع في غيبوبة .. ونصحوها أن تحضر نور عندها .. ابتسمت وقالت :
ـ أنا بخير ..
وهمست في قلبها : نور بقربي .. تلك الروح الحبيبة التي غادرت بجسدها البلاد وبقيت روحها ترفرف حولها تشاركها أفراحها وأتراحها .. تلك الأخوة في الله التي جعلتها تنطق اسمها لتنبه الممرضات إليها لينشلنها من الغيبوبة نشلاً ..
وصلت المشفى وهي في أشد حالات الوهن .. ما إن أتم زوجها إجراءات الدخول ودخلت غرفة الفحص .. حتى بدأت الممرضة تصرخ :
ـ لم تأخرت هكذا ؟ من أين سنأتي بالطبيبة بهذه السرعة ؟
ورأتهن يتصلن بالطبيبة ويشرحن الوضع بذعر لأنها مسؤولية يحاسبهن القانون عليها إذا حصل أي خطأ طبي .. خلال أقل من ربع ساعة كانت الطبيبة موجودة وهي تشعر أن الحزن قد اقترب بمقدم طفل لا تدري كيف سيحتمل قلبها الضعيف رؤيته معاقاً .. مع كل صرخة مخاض تشق الفضاء كانت من الداخل ألف صرخة وصرخة تقطع نياط القلب .. ويأتي صوت الصغيرة يجلجل في أنحاء الغرفة .. صرخة الحياة .. الطبيبة قالت بسعادة :
ـ ما شاء الله تبارك الرحمن أجمل طفلة رأيتها ..
تلقفتها الممرضات وأخذن يفحصنها .. وهي تسأل :
ـ دكتورة لا تكذبي هل هي طبيعية ؟ دكتورة أرجوك ..
والطبيبة تبتسم وتقبلها وتقول :
ـ عروس مثل القمر .. طبيعية بل وأكثر من طبيعية .. أجمل منك يا هانم ..
طلبت من الممرضات أن يدخلن الأب .. دخل الغرفة برهبة .. قالت له الطبيبة :
ـ قل لزوجتك بنتك طبيعية أم لا ؟
هو يبكي هي تبكي والقلب يسجد شاكراً لمولاه ..
في يوم من الأيام أخبروها أنها تحمل طفلاً معاقاً وأن عليها أن تجهضه .. هي سلمت أمرها لله .. وأبت أن تقتل نفساً بغير حق .. فكان عطاء الله كبيراً ..
وسوم: العدد 698