هَلاَّ عَذَلْتِيهِ
لا ألومُكِ..
فأنت امرأةٌ..
وهل تلام امرأة على طبع النساء؟!
خيبتي ظني في أول مُنعطفٍ مَرَّ بنا..
ألم أقل لك ذات نجوى: نحن الذين نخلق من نحب!!
نرسم له في مَخِيلَتِنَا صوراً وَضِيئَةً.. مثالية.. ولا نقف للمراجعة، نأبى التفكير الذي يخرجه من بؤرة اهتمامنا وهَالةِ أحلامنا.. نريده أن يبقى كما نشتهيه لا كما قد تفجعنا ثقتنا فيه، عندما نكتشف أنه دون العاديين من الناس، ومثله مئات الألوف ممن لا يلفتون نظرنا، ولا يستوقفنا إحساسنا بهم..
تصورتُ أَنَّ إحساسي بِكِ مختلفٌ، وأنك الأقرب إلى القلب، كأني أعرفك من عشرات السنين، وأي سنون؟! إنها سنون الصِّبا.. وشرخِ الشباب وكهولة التصابي؟!!
كانت حالُكِ التي شَكوْتِ لي أَثَّـرَتْ في نفسي، وجذبتني من وهدة اللامبالاة التي باتت تسيطر على غالبية الناس.. وبدأتُ أفكر فيكِ، وأنشغل بكِ، إذا وضعتُ رأسي على الوسادِ.. إذا فتحت عيني وانتبهتَ من رُقادِ.. كُنتِ أنتِ صاحبة اللحظة..
عايشني هَمُّكِ!!
إذا جلستُ وحدي، أو تحدثتُ مع منْ يعرفكِ، فَأَسْتَدِرُّ أَخْبَارَكِ، وأغوص فيما أظن أنه من أسرارك..
وقد قررت أَنْ ألجَ الخطوة الأولى!!
كنت أعرفه من زمن طويل، ووفقني الله لأزرع الدَّرْبَ بيني وبينه ثقةً واحتراماً وتقديراً، فكان لا يَرُدُّ لي طلباً، لكنني مع ذلك لا أستغل هذا، بل أدعمه بأدب الدخول وحسن الخروج..
أعلم مُسبقاً أن طلبي مجابٌ، وأن أمري لا يُردُّ، لكنني أجعله يشعرُ أن الأمرَ خرج منه وحده، وبكامل حُريته، وأُبَّـهَةِ سطوته، ذلك هو « أبو يعقوب »!!
سمع القوم نصيحته، واستجابوا لتأويله، فزرعوها سبع سنين دأبا.. وحصدوها.. حتى امتلأت الأهراء وفاضت، فكافؤه على حسن تدبيره وعظيم تفكيره، ففاض الخير، وقصده القاصدون من كل حَدْبٍ وصَوْبٍ، يطلبون رِفْدَهُ، وشيئاً مما عِنَّدَهُ..
كنتُ كلمته في شأنكِ، ودقيق أمرك، وَزَيَّـنْتُ له الوقوف إلى جانبك، وحذرته من المحاذير.. وفي كل مرة أقول له: غَطِّ نفسَكَ!! فالمتربصون بك كُثُـرٌ، لكنه – وهذا طبعة ينسى.. وكثيراً ما ينسى- فيحتاج إلى تذكير، أُذَكِّرُهُ عندما يأتي فيجلس بجانبي، فقال في الأخيرة: لا مانع، قلتُ له: ما المطلوبُ؟ قال: كذا وكذا من الوثائق..
عندما خلوتُ بنفسي اتصلتُ بكِ، صاح هاتفك حتى بُحَّ صوته!! وانقطع الرنين، قلتُ: تتصل هي بعد قليلٍ، فمضى الكثيرُ ولم يحدث..
الزمن يركض خلفي، والوقت يُداهمنا، وموعد التسجيل يُحاصرنا، في اليوم التالي عاودني الحنين فاتصلت!! فجاء الجواب: مغلق!! طال الانتظار يوماً كاملاً، فرابني من الأمر ما رابني، وغزتني اللَّعِلَّاتُ، وعلاني هَمٌّ، وسوءٌ ظَنٍّ، لكنني كنتُ أُمَنِّي النفس بهاتف منك « فما أضيقٌ العيشِ لولا فسحةٌ الأملِ ».
ولم يحدث شيء..
مر اليوم الثالث..
فأعطيتُ نفسي مُهْلَةً للاعتداد بالنفس، وعدم التهاون في كرامتي لهذا الحد، وقال لي إبليس: دعك منها.. وقال العليم الخبير: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)([1]) تذكرتُ قولَ أحد العارفين لقلبه: التمس لحبيبك سبعين عُذراً، فإن لم يعذره فقل: ما أقساك يا قلبي!!
فخرجت اللعلات ترد.. تُحاجِجُنِي.. تحاول أَنْ تُقنعني: لعلها مريضة.. لعل أحد أولادها جرى له مكروه.. لعل « زريف الطول »([2]) عاد من مغتربه.. لعل هاتفها سُرق.. لعله سقط منها وفُقِدَ، لعله.. لعله.. لعله.. حتى نفدتِ جُعبتي من لعلاتي.. فكتبتُ لك رسالةً هاتفيةً: « ابنتي.. اتصلي بي لأمر مهم يَخُصك.. عمو »
رسالة لا تُقاوم.
ولا تملك صاحبتها السكوت..
فَلَمـَّا لم يأتني الردُّ يوماً.. ولا يومين.. ولا ثلاثة.. تيقنتُ أن هاتفك قد سُرق، وأن لَاصَّهُ لا يفتحه إلا ليتكلم هو منه، ولا يستقبل هواتف من أحد..
هدأت نفسي قليلاً، ولكنني وقعت في الحيرة كثيراً..
كيف أصل إليك لتُجهزي أوراقك قبل نفاذ الأجل المضروب؟!
تذكرتُ أنك وصَفْتِ لي مكانَ بيتِكِ، لكنني لَمَّا كنتُ لم أُدقق في المعلومات؛ اقْتَصَرَتْ معرفتي على المنطقة فقط..
تذكرتُ أنك قُلتِ لي- لما أيقظتُكِ من نومة الضُّحى- أَنَّ عمك الوحيد مات، وأنك ذهبت إلى بيت العزاء عند قُرْمِيَّة العائلة، وعُدْتِ مع أخيك وأولادك إلى عمان في الهزيع الأخير من الليل..
كنتُ قد قرأت نعياً لعمك هذا، قصصتُ النعي من الجريدة، واحتفظتُ به، القلق عليك دفعني للبحث عنه، لعلي أعرف بيت العزاء في عَمَّانَ، فأسأل عنك هناك، أو أعرف أخبارك فقط، ولا أخبرهم بِمَا أُريد، فقد كُنتِ تكرهين أن يعرفَ أقاربُك بحالك وأسرارك، فضيقُ العيش عندك فضيحة تحتاج إلى ستر!!
جلستُ في مكتبتي لا رَغبةَ لي في الكتابة أو القراءة، وغزاني طيفُك، وأحاطت بي التداعيات، حتى أخذتْ بتلابيب روحي، تقودني فأنقاد وراءها كبعير أخذوا بخطامه، أو أسير جذبوه من قيده فانجذب وانصاع..
يا تُرى؛ ما حال « زريف الطول » اليوم في مغتربه؟!
هل وقفتِ له تنصحينه ألا يغترب « وبلادك أحسن لك »؟!
هل سمع منك واستجاب؟ أم علاه عِنَادُ ابن زُرَيْق([3])؟! فلم يتبين له النصح إلا « في ضُحى الغَدِ »!!
قلتُ في نفسي: ما أظنها نصحته!!، بل لعلها دفعته إلى المغترب، ألم تقل لي إنها عاشت معه وأولادها هناك سنين؟!
عاطفتي نحوكِ جعلتني أتخيل نصحتيه، ولا يستجيبُ، وأنت الآن في وضع لا يَسُرَّ قريب ولا حبيب، وكل ما تقومين به دور
« سَبَّابَة المتندم » كثير من النساء ترضى بهذا الوضع وتستنيم له، فلا حَوْلَ لها ولا طَوْلَ، لأن البديل – كما قُلْتِ لي- التخلي عن أولادك، وترمينهم إلى أهلهم، وتعودين لأحضان أمك، وقد أظلتك سن الأربعين بقتامتها، وفتحتْ لك درب التوجس من المجهول، ألم تُحدثيني في أول هاتف بيننا أنك « تَغْزُوك الكَوَابِيسُ »؟! فأنت في حاجة لأن أَسْمَعُكِ!!
قلتُ لكِ: أنا لا أعرف التأويل، ولا أُحسِنُ تفسير الأحلام، والشرع لا علاقة له بها، إنما هي هِبَاتٌ ربانية لأشخاص معينين، عُرفوا بذلك أمثال نبي الله يوسف.
أعود إلى الوراء قليلاً.. تذكرين أول مرة رأيتُك فيها عند أبي أحمد، يومها سألتُك عن تاريخ ميلادك!! فنثرته أمامي، فقلت لك: أنت واسِطَةُ العِقْدِ؟!
قلتِ: يُسعدني جداً أن تَعِدّني مع هؤلاء وتنزلني هذه المنزلة.
يا صغيرتي!!
ما أنزلتك هذه المنزلة إلا لأغرس في نفسك حديدة الحدود فتحفظينها، وتقفين عندها، أمر مهم عندي أن تُحَدَّدَ المسافة منذ البداية، لكن غاظني منك – واعتبرته تجاوزاً للمسافات- أو هو تمهيد للتجاوز عندما تناديني بلفظ التبجيل وحده؛ فقلت لك: قولي لي:
« عمو »، فقلت: عمو.. ثم أردفته باللفظ إياه!! فَسَكَتُّ على اعتبار أن الأيام ستكشف لي ما ترمين إليه، فقلبي قد مَرَّ بمثل هذه التجربة من قَبْلُ وعاد مكلوماً، فخرج يترقب خِيفَةً من قادم الأيام.
آخر العام يقتربُ، أوراق أيامه تتساقط، وكلما تساقطت الأوراق دخلتُ في معمعة الحيرة، بين وَعْدِ استجابة من أبي يعقوب، مع أني قلتُ له: عن مخرج يجنبك الحرج أمام الأُخريات، والوقوف في صف المسكينات، ترافقك ضيق الحال وذِلَّةِ السؤال، وكلما ركبني هذا الأمر « أُعَلِّلُ النفسَ بالآمال أَرْقُـبُـهَا » وأقول: خطوة.. خطوة.. ولا تستعجل، فلكل حادث حديث، ولعل الله يفتح عَلَيْكَ أو عليها أو على أبي يعقوب بحيلة تتجنب فيها الزحام المهين، والإندراج في قائمة المساكين، أما الأوراق والوثائق والصور فلا حيلةَ لنا فيها فَكَائِنَةٌ.. كَائِنَةٌ.. والحيلة فقط- إن يسرها الله لنا- ففي التنفيذ، والله المعين على كل حال.
قالت زوجتي: هل عاودتَ الاتصالَ بها؟! قلتُ: حاولتُ، لكن الرد الآلي قال لي: « إن صاحب الرقم طلب عدم استقبال مكالمات قادمة نحوه؛ فأوقفناها »..
كان الفجرُ أوشك على القدوم، فانشغلتُ بالاستغفار ودعوتُ لكِ، وبعد الصلاة عاودتني زوجتي قائلة: لعلها تريد الانقطاع عن الدنيا تفرغاً لأولادها، فامتحانات منتصف العام قد بدأتْ، وأنتَ قُلْتَ لي: إن لها ولداً عمره سبعةَ عشرَ عاماً، فهو في « التوجيهي » أو يكاد، قلتُ: لَعَلَّ.
لكن - لا أكتمك- لم أَسْتَرِحْ لهذا لمصير، فكل الذي رأيته منك قبل ذلك من الفرحة بي وبسماع صوتي، والتشبث بتلابيب ذيول كلماتي وأنا أحاول الانسحاب من المكالمة، وتجهيزك للقاء آخر، أو مكالمة أخرى ليبقى الود متصلاً؛ جعلني أتصور أنني آثر عندك من كل أَحَدٍ.
أتذكرين يوم أن طالت المكالمة بيننا، وأنا أسمع- عبر الهاتف- نغمةَ تَنْبِيهٍ- لا أدري لي أم لك؟!- وإذا بك تستمهليني دقيقة لتردي على إلحاح هاتف صديقة؛ فأغلقت الخط من جهتي، وبعد ثوان إذ بك تتصلين وتقولين إن صديقتك على الطرف الآخر تعرفني.. أو تعرف اسمي على الأقل.. وتريد أن تسمع صوتك!!.. ودون أن أوافق أو لا أوافق شبكتِ الهواتف الثلاثة مع بعضها!! كيف؟!! لا أدري الآن، فأنا عجوزٌ، وكبار السن مثلي بينهم وبين التكنولوجيا عدم استلطاف، لذا لا أتوغل في معرفتها ولا التعامل معها، وحنينُنَا إلى الماضي أغلب على حياتنا..
تكلمنا.. وتكلمنا.. كانت الفرحة تطل من صوت « أماني » صديقتك وهذا اسمها لا أمانيها، وهي تسمع صوتي، وطال الحديث وامتد، وانحرف إلى الشكوى من الحال وسوء المآل، فحسبك بها أنها سكنت في « أبي نصير »، والدَّيْنُ رَكِبَ زوجَها، و« ضحكوا » عليه وأوهموه وإياها بأَنهم شركة لا تتعامل بالربا، فأخذوا منهما ثلاثين في المئة مقابل خدمات!! فكانا كمن « هرب من تحت الدَّلْفِ فوقف تحت المزراب ».
شعرتُ أن الكلام بدأ يتكرر، وأن الوقت يضيع، وعَلَيَّ أن أحسن الخروج، فلما أحسستِ بذلك جاءني صوتك: سأجمعك بأماني يوماً من الأيام!!! وكان هذا آخر العهد بك.
داهمني الوقت، وضَيَّـقَ علي الخناق، حاولت أن أسأل عَنْكِ، لكنني خشيت أن أُثير الرِّيبَـةَ، ولو دافعتُ عن نفسي وكشفتُ الحقيقة سأوقعكِ أنتِ في حرج لا تحبينه، وسأوقع نفسي في حرج لا أتحمله لأن الدفاع سيفتح عليَّ باباً من العذاب!! فماذا لو طلب أبو « أحمد » أن أتدخل لبعض أقاربه أو معارفه أو جيرانه؟! كيف سأرد؟ كيف سأتصرف؟ ألم يقل أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ: « نفسك أولى بك » فعزةُ النفس أَلَّا تحتاج الناس ولو في أمر صغير، ورحم الله الشافعي إذ يقول: « هان عليكَ من احتاج إليك » وأنا ـ بعد تجارب مريرة ـ مع نساء كاذبات، قررتُ ألا أتدخل لامرأة قط بعد « فوزة » وزوجها الذي يسكر ولا يصوم رمضان ولا يصلي، ويتطاول بلسانه على أهل الخير!! فلما انكشف الأمر لي وعرفت الحقيقة أغلقت خط الشفاعة لمثل هؤلاء، وقد تكررت صور أخرى مع أخريات!!
أما أنتِ، فكنتِ مختلفة، منذ أن وقع بصري عليكِ، وعلمتُ سبب تواجدِك في هذا المكتب، وطبيعة عملك الذي تزاولينه.
أعترف الآن أني استرحتُ إليك.. أو خفتُ عليك.. لا أدري أي الإحساسين غلب عليّ!! لكنني قُلْتُ لك: لو كنت أعرف هاتفك لهنئتك بالعيد، كما فعلت مع « أبي أحمد » وزميلتك « حنان »، فسارعتي بمدي به، ولما غَيَّرْتِ رقمك أرسلتِ لي رسالة هاتفية تخبرني برقمك الجديد، وحتى لا أكون قد نسيتك ذيلتها بعبارة « سكرتيرة أبي أحمد » فأرشفتها، وكانت هواتفي لك عندما أعجز عن الوصول لأبي أحمد، فهو يفيق من النوم عند الحادية عشرة صباحاً. فاتصل بـ « حنان » فأجدها غارقة بخيالات وأحلام العريس الجديد، فأتصل بك لتخبريه بما أريد!! حتى كان اليوم الذي اسْتَدْرَجْتِنِي فيه فوصل الكلام إلى
« تريز والتر » مجنونة « بيكاسو » التي انتحرت بعده بأربع سنين، فأكبرتِ فيها هذا الحنين وَوَشَمْتِهَا بالوفاء؟!! قُلتُ في نفسي: المقاييس مختلفة (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ)([4]).
هئنذا اليوم – بعد فجر اليوم الأول سنة 2014م- أُصَبِحُّ عليكِ من جديد، وأتذكرُ أن طُلاب المدارس ما زالوا على مقاعد استرجاع المعلومات، وإثباتِ المهارات، فإن صدقتْ نبوءة زوجتي تكونين ما زلت رافعة راية الحظر، وأنا لم يعد عندي رغبة في تجربة الاتصال من جديد، والله يفعل ما يريد، وكما تقول زوجتي دوماً:
« لعله خير » وأنا أقول: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ )([5]).
أعودُ إلى الوراء، وأتذكرُ ضَعْفَ ذاكرتي في حفظ الأسماء، منذ أربعين سنة وأنا قاوم هذا، وليس هذا وحسب، ولكن عدم التصاق الصور في ذهني أيضاً.. لو قابلتني اليوم في الشارع قد لا أَعْرِفُكِ، إلا إذا ذكرتني من جديد بنفسك فَاسْتَذكِرُ، أما اسمك فهو مسجل على هاتفي الخلوي منذ أَنْ سجلتِ رقمك عليه بأناملِكِ، لعلي أحتاج إليه، أو تحتاجين أنت إليَّ، فلا أهرب منك كما أهرب من كل رقم مجهول الصاحب، فأنا أخاف المجهول.. المجهول لا يأتي بخير.. هكذا عودتني هذه الأرقام!!
بالأمس..
عاودني الحنينُ إلى عقد الخمسين من القرن الذي مضى
- والذي يُسميه ناسُ هذه الأيام « الزمن الجميل »- وقد بدأتْ ذاكرتي تُضيعه، فاسترحمتُ « جوجل » ففتحت لي أبواباً لا قِبَلَ لي بها، وقذفتني بأمواج كادت تُغرقني في سلسبيل رائق ذكرياتها، إذ كنتُ ذلك الطفل الصغير، والصبي الغِرّ النحيل..
أدهشني أن أَجِدَ مواداً مسجلة منذ 1954م وبنقاء صوت عجيب، لأناس كانوا ملء السمع والبصر.. شُهْرَةً.. وجُمْهُورَاً.. وحُظْوَةً.. أسكنتهم القلوب!! أين هم اليوم؟! غيبتهم الغُيوب!!
تُعجبني الكلمةٌ الرائعةٌ التي تجيء في موضعها من شاعرٍ فَذٍّ عرف الطريق إلى صدق المعالي، ورقة المشاعر، ثم تأتي روعة الأداء.. فأبكي!!
ما الذي يُبكيني في هذه السن؟
الحنين للطفولة؟
الشوق للماضي؟
أم لرحيل هؤلاء جميعاً بمن فيهم من كان يُعَايِشُنَا في تلك الفترة؟!
أين أبي؟... مات.
أين عمي؟... مات.
أين عمتي؟... ماتت.
أين أختي؟... ماتت.
أين.. أين.. أين؟ لم يعد بيني وبين آدم أحد!! الدور عليَّ أنا!!
أعود وأكرر بحزن وأسى « يا عيني علينا يا قلبي »([6]) فَيَنْهَلُّ الدمعُ شلالاً من عينيَّ، فأغرقُ في صمتي، وأهربُ من تيار الذكريات إليكِ مرة أخرى.
أين أنتِ الآن؟
ماذا تفعلين؟
هل أعدتِ فتح هاتفك؟
هل استبدلتِ هاتفك بآخر؟
هل غيرتِ رقمك مرة أخرى؟
أسئلة كثيرة، لكنني – ولا أكتمك- لم أعدْ أشعرُ برغبةٍ في الاتصالِ بك *
([1]) سورة فاطر/8.
([2]) أصلها «ظَرِيفٌ » لكني أكتبها باللهجة المحكية.
([3]) البغدادي في رائعته
« لا تعذليه فإن العَذْلَ يوجعه قد قُلتِ حقاً ولكن ليس يسمعه »
([4]) البقرة/148.
([5]) يوسف/21.
([6]) كلمة من أغنية لنجاة الصغيرة بعنوان «وفي وسط الطريق ».
وسوم: العدد 702