من الذاكرة
من زبائن دكاننا في أعزاز ، رجل مسن شهم في تعامله صادق في قوله ، أمين عفوف كريم شفوق رحيم ، يؤدي فرائضه الدينية على أكمل وأتم وجه ، يخاف الله ، يفي في الوعود ، ويسدد الدين في ميعاده ، وقد حباه الله ملكا واسعا ، أرض وأشجار زيتون ، وأشجار فاكهة أشهرها المشمش نوع ( شكر بره ) .
تقع قريته على رابية جبلية من جبل الأكراد في الشمال الغربي من مدينة أعزاز ، حيث يقيم في داره الكبيرة الواسعة ، يسكن في الدار مع زوجته ، وأبناء أخيه المتوفي ، ، وهو عقيم لاينجب ، فكان أبناء أخيه أولاده ، يحبهم ويعطف عليهم ، يألم لألمهم ويفرح لفرحهم .
كان أحد أبناء أخيه البالغ من العمر خمسة عشر عاما ، يتردد على دكاننا ليؤمن متطلبات العائلة من المواد الغذائية وسواها .
وفي احدى المرات طلب من والدي الأذن لي بالذهاب معه الى القرية ، فأذن .
وضع الصبي لوازم البيت المطلوبة في طرفي وعاء قماشي منسوج من الشعر يسمى ( الخرج ) ، وركبنا الحمار معا ، وسرنا في طريق بين بساتين أعزاز ، حيث اجتزنا قرية قسطل جندو ، ثم انحرفنا نحو الطريق اليساري وتابعنا سيرنا الى قرية - الجامان- .
وصلنا القرية ، وهي عروس في الجبل ترتدي حلة خضراء من الأشجار ، وأمام بيتهم شجرة سنديان كبيرة جدا عمرها مئات من السنين ، دخلنا الدار الكبيرة الواسعة ، ساحة الدار وحولها غرف بعدد أفراد العائلة ، لكل غرفته يسكنها مع زوجته وأولاده ، وللصبي غرفته الخاصة به .
دخلنا القاعة الكبيرة المخصصة للعم صاحب الدار ، نظرت للأعلا فرأيت قناطر وأقواس تقوم على أعمدة وهي مفروشة بأثاث مريح ، وفي صدر القاعة حامل خشبي فوقه اللحف والفرش والمغطاة بقماش أبيض ملون بألوان زاهية .
كان الوقت عصرا ، جاء العم من مسجد القرية ، فرحب بي كثيرا وفرح بزيارتي وقال :
أنتما في عمر متقارب ، وشابان تحبان الصيد ، خذا بندقيتا الصيد غدا واذهبا الى البساتين حول القرية لتصطادا طيور الزرزور والحمام البري ، وما قد تجدانه من أرانب وسواها .
أحضرت زوجة العم طعاما ، أذكر منه البيض البلدي المقلي بزيت الزيتون ، مع رقائق خبز الصاج الرقيق جدا ، لاأدري ان كانت جودة طهي الطعام واعداده هي الدافع للأكل بشهية واعجاب ، أم أننا كنا جائعين فأعجبنا الطعام .
وفي المساء وقبيل صلاة العشاء ، وفي القاعة الكبيرة ، اجتمعت العائلة بكامل أفرادها الرجال وزوجاتهم وأولادهم والعم وزوجته ، تحلق الجميع حول مائدة امتدت لامتار ، وحوت مالذ وطاب من طعام ولحوم مشوية ومقلية ، ولبنا طازجا صنعوه من حليب أغنامهم ، أكل الجميع ، وتسامروا وتحدثوا ، وقصوا قصصا ، وحكوا حكايات . ثم انصرف الجميع الى النوم .
في الصباح تناولنا طعام الافطار ، وتأبط كل منا بندقية ، وخرجنا الى الصيد ، كان رفيقي صيادا ماهرا جدا ، وكنت أقل خبرة منه ، تجولنا بين الأشجار وقطفنا من الثمار ، وشربنا من ينابيع المياه الجبلية الرائعة .
حصيلة صيدنا عصافير وحمام ، عدنا الى المنزل نحمل الصيد فاستقبلتنا امرأة العم ، ساعدناها في تنظيف الصيد ، وقامت باعداده طعاما خاصا لنا ، أكلنا وحمدنا الله ، ثم عدت الى بلدي أعزاز بعد أن قضيت رحلة جميلة ليوم وليلة في ربى الجبل وفي ضيافة اخوتي من الأكراد .
هكذا كنا ، وهكذا يجب أن نبقى ، نحن اخوة تجمعنا أرض الوطن ، وتجمعنا المصاهرة ، كما تجمعنا العادات والتقاليد التي غدت واحدة مع مرور الزمن ، والأهم من كل ذلك يجمعنا ديننا الحنيف وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وسوم: العدد 705