حوار مع صديقي القسيس

أمس دعاني أحد الأصدقاء إلى الغداء في بيته في مدينة "لوس أنجلوس" حيث وجدت عدداً آخر من المدعوين مثلي .. منهم من أعرف ومنهم من لا أعرف .. وبعد تناول الغداء جلسنا نشرب القهوة ونتبادل أطراف الحديث في هموم هذه الدنيا ومتاعبها التي لا تنتهي، وبينما نحن كذلك فاجأنا واحد من الجالسين قبالتي يقوم من مجلسه ويقبل نحوي، ويطلب مني مرافقته مشيراً إلى الشرفة القريبة، فاستأذنت الحاضرين وقمت أرافقه، حتى وجدتني في شرفة فارهة مطلة على المحيط اللا زوردي، وكان الوقت أصيلاً، والسماء صافية، والأفق البعيد بدأ يصطبغ بلون الأصيل الساحر فينشر في الجو إحساساً عذباً ينعش الروح .

طلب مني صاحبي الجلوس على الأريكة الواسعة بينما جلس هو قبالتي على كرسي خشبي متواضع، وفاجأني فناداني باسمي الصريح، ولما سألته عن معرفة اسمي أجاب:

-         لقد سمعت عنك الكثير من صديقي فريد [صاحب الدعوة] وقرأت الكثير مما تنشره على صفحات التواصل الاجتماعي ..

أحسست بالراحة وأنا أجد في هذه الغربة من يعرفني جيداً ويتابع ما أكتب وما أنشر.. لكني توجست في نفسي من الانفراد بهذا الرجل الذي يعلم عني كل شيء، ولهذا بادرته بالحوار قائلاً :

-         أنا سعيد بهذه البداية .. عزيزي .. لكنها لا تكتمل إلا بتعريف نفسك لو سمحت؟!

فأجاب بنبرة مشوبة بشيء من الاعتذار  :

-         صحيح .. صحيح .. أنت محق ..

وراح يحدثني عن نفسه، فعرفت أنه يعمل منذ سنوات طويلة قسيساً متطوعاً في واحدة من أكبر كنائس هذه المدينة، وعرفت أنه ولد هنا من والدين مسلمين جاءا قبل خمسين سنة من بغداد، وقال إن والديه لم يكونا متدينين يوماً من الأيام، فلم يشاهدهما يصليان مرة واحدة، وهكذا ترعرع في بيئة مسيحية جعلته يعتنق المسيحية منذ نعومة أظفاره دونما معارضة تذكر من الوالدين، ثم درس اللاهوت المسيحي وتدرج في المراتب الكنسية حتى كرسوه قسيساً متفرغاً لتعليم الداخلين الجدد في المسيحية ..

شكرته على هذه المعلومات وعلى هذه الصراحة، وخامرني إحساس بالألم والحسرة لاستهتار والديه المسلمين، لكني وجدتها مناسبة لأعرف منه حقيقة عقيدة الخطيئة والخلاص التي تقوم عليها العقيدة المسيحية .. فانبسطت أساريره ، وأقبل يحدثني باهتمام بالغ عن هذه العقيدة، قائلاً :

-         نحن نؤمن كما في الإنجيل أن الإنسان خاطئ بطبيعته، وقد ورث خطيئته هذه عن آدم، فقد ولد الإنسان خاطئاً ويكبر وهو خاطئ، إن بالفعل أو بالقول أو بطرق كثيرة، فالخطيئة من طبيعة الإنسان .. يقول الإنجيل : "فخطيئتنا تفصلنا عن الله، وأجرة الخطيئة هي الموت" (رومية 23:6) أي إن عقوبة الخطيئة هي الموت، إن كان موتاً روحياً أو جسدياً، إذن عقوبة الموت حق لكل كائن بشري في هذه الأرض، فالخطيئة أذية لله، والإنسان لا يستطيع الاتحاد بالله بسبب هذه الخطيئة؛ فهي العدو أو الحاجز الذي يفصل بينهما ..

-         فماذا يحدث إذن ؟

قال كأنما يسألني، فسألته :

-         ماذا يحدث ؟ تفضل ...!!

قال :

-         الخطيئة بشعة وكبيرة للغاية إلى حد أنني مهما فعلت للتخلص منها تبدو أفعالي صغيرة وبسيطة للغاية لا تكفي لغسل خطيئتي، فلو ساعدت الفقراء يكون فعلي جميلاً للغاية، ويقول الإنجيل إن علي أن أفعل ذلك، لكن كل الأفعال الحسنة غير كافية لغسل الخطيئة من حياتي، إن لأفعال الحسنة خير لاشك في هذا .. لكنها غير كافية لغسل الخطيئة من حياتي .. ولهذا نجد أن الرب قد أرسل يسوع المسيح .. إنساناً بشراً عادياً ..  إنساناً بلا خطيئة، إنساناً يفضل العذاب على الخطيئة، إنساناً فريداً لم تدخل الخطيئة إليه، وقد أغري بكافة الأساليب والطرق لكنه لم يخطئ، وبالتالي فإن عقوبة الموت لا تعنيه، مثلما تعنينا نحن، إن يسوع يستحق الحياة الأبدية، وهذه هي قيمته من وجهة نظر روحية .. فمن وجهة النظر الروحية لم يكن المسيح يستحق الموت لأن الخطيئة لم تنجح في الدخول إلى قلبه، لقد كان إنسانا فوق الطبيعة، وقد أطاع اللهَ إلى درجة أنه رضي الخضوع لعقوبة الموت تماماً كأي إنسان خاطئ .. لقد كان يسوع إنساناً فوق الطبيعة، لم يكن إنساناً خاطئاً، ولم يكن يستحق الموت إلا أنه كان مستعداً للموت من أجل الآخرين، ليدفع ثمن خطاياهم .. ومن الغريب أن تجد الناس يقومون بتضحيات كبيرة في محاولة منهم لإخراج الخطيئة من حياتهم، لكن هذا لا يكفي مهما ضحوا .. أما تضحية المسيح الكبيرة فهي كافية لغسل كل خطاياهم، لأنه كان بلا خطيئة، وبقي طاهراً حتى النهاية، ولذلك تقبل الله تضحيته ثمناً لخطيئة كل الناس .. وقبل الله وضعه على الصليب ..

قاطعته :

-         وهل لهذا تحتفون بالصليب وتحملونهوتنشرونه في كل مكان؟

-         أجل .. طبعاً .. فالصليب يمثل الدور الأساسي في حياة كل مسيحي، فعلى الصليب مات يسوع مضحياً بنفسه من أجلنا، وكان موته على الصليب خلاصاً لكل الذين يؤمنون به، والذين تلقوا تضحيته في قلوبهم وقبلوها، فهؤلاء هم الذين دفع يسوع ثمن خطاياهم .. فالصليب هو ثمن الخطايا، ولهذا كان له هذا الدور المركزي في الحياة المسيحية، وانتزاع الصليب من الحياة المسيحية يقضي على العقيدة المسيحية من أساسها .. نعم .. ولهذا كان للضليب دور مركزي في الحياة المسيحية، فالصليب كان المفتاح لغسل الخطايا من حياتنا، وهي هدية مجانية من الرب الذي دفع ثمن خطايانا بنفسه، وهذه التضحية التي قدمها الرب لنا مهمة للغاية، فهي ليست مثل التضحيات التي أقوم بها أنا الإنسان، لأني أقدم التضحية وأنا خاطئ فتكون تضحيتي غير طاهرة، أما تضحية الرب فهي تضحية طاهرة، لأنها تأتي من رب تجلى في صورة إنسان طاهر كامل .. لم يكن يوماً خاطئاً .

قال محدثي ذلك واسترخى في مقعده ورفع كأس القهوة إلى فمه ورشف منه رشفة هنية وأرسل بصره نحو السماء في سلام، كأنما في إشارة منه للرب أنه أدى واجبه على أحسن وجه، لكني قطعت عليه الرحلة إلى السماء، فقلت له :

-         أشكرك على هذه الصراحة .. يا عزيزي .. وعلى هذا البيان الوافي الذي انتظرته طويلاً من بعض الإخوة المسيحيين لكني لم أسمع منهم مثل هذا البيان والتفسير الذي سمعته منك اليوم .. فشكراً لك .. كل الشكر ..

فرد علي بامتنان :

-         لا شكر على واجب.. يا صديقي .. فهذا هو واجبي .. بل هو واجب كل من يؤمن بالمخلص ...

-         صحيح .. يا عزيزي .. لكن ليس كل مؤمن قادر على مثل هذا البيان الذي تفضلت به أنت ..

انتفش صاحبي وعاد يرتشف قهوته بارتياح وسلام، لكني عدت أناكفه وأقطع عليه سلامه، فقلت :

-         لكن .. يا عزيزي .. ما تفضلت به يثير عندي جملة من الأسئلة التي أرجو أن يتسع صدرك لها ؟!

فوضع القهوة جانباً، وعدل جلسته، وأقبل نحوي باهتمام قائلاً :

-         طبعاً .. طبعاً .. تفضل .. على الرحب والسعة !

قلت :

-         شكراً .. واسمح لي أن أبدأ بسؤال قد يبدو خارجاً عن موضوعنا ..

-         حسناً .. لا بأس .. تفضل ...

-         سؤالي .. يا صديقي .. ما هي نظرة المسيحية إلى ولد جاء إلى هذه الدنيا ثمرة علاقة آثمة .. زنا .. هل هو طفل طاهر أم ...

قاطعني بنبرة حاسمة :

-         طبعاً هو طفل طاهر بريء بلا خلاف .. ولو سألت أي مسيحي في العالم لقال لك هو بريء بلا شك ..

قاطعته بإشارة من يدي (مهلك ! ) وقلت :

-         يا عزيزي .. أرجو التريث في الجواب .. لأن جوابك هذا ينسف القاعدة الأولى في فكرة الخطيئة التي بنيت عليها حديثك كله ..

اعتكرت نظرات محدثي، ووضع كفه على جبهته في إشارة إلى الإحساس بتسرعه في الجواب، لكنه عاد يكابر، فرسم ابتسامة فاترة على وجهه وأقبل يسألني :

-         كيف ؟

قلت :

-         لا تستعجل .. يا عزيزي .. فما تفضلت به يثير إشكالية أكبر من هذه ...

-         ما هي ؟!!

-         إذا سلمنا بما تفضلت به .. يا عزيزي .. فإنه يعني أن الخطأ بدأ من الرب (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)

-         كيف ؟!!!

-         هذه القصة التي طرحتها .. عزيزي .. تفيد أن الخطأ بدأ من الرب الذي عرض آدم للاختبار وأوقعه في الخطيئة التي انتقلت إلى نسله، وبحسب روايتك؛ عندما أدرك الرب خطيئته عمد إلى غسلها بنفسه فتجسد في صورة المسيح وقدم نفسه للصلب تكفيراً عن خطيئته لا عن خطيئة آدم !!

ضرب محدثي جبهته بكفه كأنما أدرك هذه الحقيقة الصادمة، وقام يمضي، فيما كانت الشمس تدفع عن نفسها غمامات تحاول عبثاً سترها عن العالم !

وسوم: العدد 759