المسرحية الدموية في سوريا
أطلقوا على مسرحية الضربة الصاروخية على سوريا إسم «العدوان الثلاثي»، من أجل إقامة مقارنة بين بشّار الأسد وجمال عبدالناصر!
هذا التزوير اللغوي لم يكن سهلا ومباحا، لولا أنه يأتي في سياق حفلة تزوير شاملة يقودها رئيس أمريكي يلعب بالسياسة كما يتاجر بالعقارات، يعتدي على حقوق الإنسان في بلاده، ويقود حملة عنصرية ضد المهاجرين، ويرقص بالسيف على إيقاعات البترو- دولار الخليجي، ويتصهين أكثر من الصهاينة، ثم يأتي ليعطي العالم دروسا في الأخلاق وحقوق الإنسان!
الهمجية هناك والهمجية هنا، همجية العنصري الأمريكي في مواجهة همجية المستبد السوري، وبينهما ومعهما همجيات متنوعة تمتد من إسرائيل إلى موسكو، ومن طهران إلى أنقرة والرياض، وصولا إلى لندن وباريس.
مواجهة لا تشبه سوى الرقص فوق الجثث، من اليمن إلى مصر المحروسة بالاستفتاء الرئاسي، ومن سوريا المغطاة بالكلور والدم إلى فلسطين المغطاة بالدم والعنصرية.
هذه المواجهات هي إحدى أولى علامات زمن ما بعد الحقيقة.
ماذ يجري؟
هل نحن أمام مسرحية دموية، أم نحن أمام صراع حقيقي يبحث عن آليات انفجار لم تكتمل بعد، أم نحن أمام كابوس تاريخي لا نعلم إلى أين سيأخذنا؟
قراءة ما أطلق عليه إسم الضربة لا تضيف جديدا إلى معرفتنا بالوقائع الفظائعية التي تجري في بلد ممزق إسمه سوريا، محاصر بالاحتلالات، ومتروك للخراب.
ما قام به التحالف الغربي ليس سوى مسرحية لحفظ الماء في وجه لا ماء له، فلقد انهار خطاب حقوق الإنسان الذي استخدمته الولايات المتحدة لملء الفراغ الناجم عن سقوط الإتحاد السوفياتي، وهو خطاب اجتذب اليه الكثير من النخب القديمة – الجديدة، التي كانت تبحث عن خطاب بديل لخطاب مواجهة الإمبريالية وثورات العالم الثالث ضد الإستعمار الجديد. هذا الخطاب الأمريكي لم يكن سوى محارة فارغة من المضمون، لأنه تلاشى عند أول امتحان جديد بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمير، في هيجان الحربين على أفغانستان والعراق، وأغرق العالم في صراع وحشي، بحيث صار العالم العربي هو ساحة القتل والدمار التي وجدت في المستبدين من حكّام العرب ضالتها، جاعلة منهم أداة لتدمير بلادهم.
هذا هو الإنجاز الأكبر الذي حققه بشار الأسد، واستحق من خلاله البقاء في السلطة. فلقد تفوّق المستبد السوري على جميع أقرانه محولا انتفاضة شعبية سلمية تطالب بالحرية والكرامة إلى مجزرة مفتوحة، سمحت لكل قوى التوحش بالتسلل إلى سوريا والإمعان في قتل الشعب السوري. من التطرف الأصولي النصروي – الداعشي المدعوم من الخليج وتركيا إلى الأصولية الإيرانية وميليشياتها المختلفة وصولا إلى القيصر الروسي، والى المغرّد الأمريكي الباحث عن دولارات الملوك والمشايخ في مدن الملح العربية.
نجح الأسد في تحويل الصراع بين شعب يطالب بحريته وبين نظام مستبد إلى صراع بين الدول على مناطق النفوذ في بلاده. أخرج الشعب من المعادلة بالعنف والقتل، وأدخل قتلة محترفين يشبهونه إلى المعادلة، بحيث صار الصراع بين هؤلاء القتلة هو الموضوع، وفرض على العالم بأسره أن ينسى آلام الشعب السوري ومآسيه.
ورغم أن المسرح السوري يبدو بالغ التعقيد، نتيجة هيمنة العنصرية والأصولية على اللغة السياسية في عالم اليوم، وهي لغة مخادعة وكاذبة وتحتاج إلى تفكيك دائم، غير أنه يجب التنبه إلى مسألتين:
الأولى هي أن هذا الانضباط في اللعب بالنار بين القوى الدولية والاقليمية المتصارعة، هو إنضباط هش ومهدد بالانهيار في أي لحظة. تتمثل هشاشته في تناقضات اللاعبين وعدم قدرتهم على ضبط جموح طيشهم العنصري وشهواتهم التوسعية، وقد يتحول هذا الطيش في أية لحظة إلى انفجار مفتوح على كل الاحتمالات.
ولعل مفارقة هذا الانضباط هي أنه نتاج الرضى الضمني أو المعلن عن ضرورة بقاء الديكتاتور السوري في السلطة، حتى وإن كانت سلطته شكلية، وهو العقاب الذي تمّ إنزاله بالشعب السوري كي تصير سوريا درسا لكل الشعوب.
الثانية هي الانهيار النهائي لما تبقى من «القيم» التي استخدمت في خضم الحرب الباردة. فقيم الديموقراطية والحرية تشهد انهيارها الشامل في الغرب، وقيم التحرر الوطني ومقاومة الامبريالية تتحول إلى ممسحة تحت أقدام القيصر الروسي وأصدقائه المستبدين والمعجبين به المحكومين بحنين إلى لغة ميتة.
ورغم أن هذه القيم كانت نسبية وحمّالة أوجه واستخدمت في الكثير من الأحيان لتغطية نزعات توسعية وكولونيالية، الا أن انهيارها يحوّل العالم إلى ساحة مكشوفة للتوحش، ولعل النموذج الصارخ لهذا الانكشاف الفضائحي يتجسد في دونالد ترامب الذي يدير العالم بلغة فجة وسوقية.
في هاتين المسألتين تقع مأساة المشرق العربي اليوم، من سوريا إلى فلسطين، ومن اليمن إلى العراق، ومن مصر إلى الخليج، فانهيار القيم يسمح لكل القوى التوسعية والاستبدادية والطائفية بالتلاعب بمصير هذه البلاد المنكوبة.
ان انهيار القيم يحمل في بلاد العرب دلالات مرعبة، كيف نقاوم الاحتلال الإسرائيلي وكيف نواجه الاستبداد ونحن نرى أن لغة المقاومة تُسرق كي تصير غطاء للاستبداد من جهة، كما أن لغة حقوق الإنسان تصادر كي تصير غطاء للاحتلال عبر مقارنات صبيانية بين أداء المحتل الإسرائيلي وأداء المستبد العربي، من جهة ثانية.
وفي خضم هذا الانهيار يصير الناس في بلادنا مجرد ضحايا، فمثلما اعتبر الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين أهدافا يتمرن قناصوه على إصابتها أمام جدار غزة، فإن الأسد وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل وأمريكا تتصرف مع السوريين بصفتهم إهدافا بديلة.
صار موت العرب وإذلالهم هو علامة بداية هذا القرن الجديد الذي وُلد في الجريمة العراقية وتكتمل اليوم ملامحه في الجريمة السورية.
وسوم: العدد 768