النكبة وليلة الصواريخ في دمشق
هناك خطأ لغوي يبدو بسيطاً في منظومة تأريخ الفلسطينيين والعرب للنكبة، فنحن لسنا اليوم أمام الذكرى السبعين للنكبة، بل أمام الذكرى السبعين لبداية النكبة.
الفلسطينيون لا يتذكرون الماضي، حين يتكلمون عن نكبتهم، بل يتكلمون عن حاضر نكبوي مستمر، ولعل إحدى علامات هذا الحاضر المؤلم، هو القرار الأمريكي المتعجرف بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة عشية الذكرى، والاعتراف بالقدس عاصمة «أبدية» لإسرائيل.
تفكيك منظومة النكبة كذاكرة، والتعامل معها بصفتها مساراً مستمراً، ليس عملية صعبة في واقع حياة الفلسطينيين، منذ الطرد الكبير عام 1948، فوقائع الحياة الفلسطينية داخل الخط الأخضر بين 48 و67 والتي تميزت بالحكم العسكري ومصادرة الأراضي، وسحق الناس في حياتهم اليومية، تبرهن على ذلك. ثم جاء الاحتلال عام 1967، ليقوم بمدّ المسار النكبوي الى الضفة الغربية وغزة، بحيث صارت كل فلسطين ساحة لنكبة مستمرة يصنعها الجشع الإسرائيلي لنهب الأرض وقتل روح المكان، ويبررها هوس مسياني يهودي بالحق «الإلهي»، في الاستيلاء على الأرض التي يملكها «المحتلون» الفلسطينيون العرب منذ مئات السنين.
لم تكن صناعة النكبة ممكنة، لولا مزيج العجز والتواطوء العربيين، فالنهاية البشعة لحرب 1948، كانت في أحد وجوهها تنفيذاً لقرار التقسيم، الذي قيل أن الأنظمة العربية رفضته، لكن الوقائع التاريخية الموثقة اليوم تثبت أن ضم الضفة الى الأردن كان نتيجة اتفاق مسبق بين عبدالله أمير شرقي الأردن وبن غوريون، وان الإسرائيليين حققوا عبر هذا الشكل من تقسيم فلسطين هدفهم الأول، وهو إخراج الشعب الفلسطيني من معادلة القرار حول مصيره، والغاؤه كشعب.
أما الفصل الثاني من النكبة الذي بدأ بعد هزيمة حزيران/ يونيو، فكان هدفه التأكيد على طرد الفلسطينيين من بلادهم، حتى وان أقاموا فيها، في عملية معقدة، كانت أداتها الكبرى هي المستعمرات السرطانية في القدس والضفة، التي جعلت من المستوطنين المتحالفين مع اليمين القومي العنصري والديني القوة المهيمنة على السياسة الإسرائيلية.
هدف هذا المسار النكبوي الثابت هو إبادة الفلسطينيين سياسياً، ومحو الإسم الفلسطيني من المعادلة، هذا الهدف ورثته غولدا مائير عن بن غوريون وأورثته لنتنياهو الذي وجد في المناخ الدولي الذي تفرض عليه الترامبية قواعدها السياسية، الحليف الأول لتحقيق هذا الهدف، الذي صار، حسب اليمين الإسرائيلي، في متناول اليد.
غير أن هذا الهدف الإسرائيلي ليس ممكن التحقق إلا عبر إخراج الشعوب العربية من المعادلة بشكل نهائي، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا عبر التواطوء غير المباشر، أو عبر الانطلاق من «الانجازات» الرهيبة التي صنعها النظام العربي المتهالك، بفروعه الاستبدادية المختلفة، ولعل التجسيد الأكثر وضوحاً يتجلى اليوم في لحظتين:
اللحظة الأولى هي اللحظة الأسدية. وحين نطلق على هذه اللحظة الاسم الأسدي فهذا لا يعني انها تقتصر على نظام الحركة التصحيحية الذي أسسه حافظ الأسد عام 1970، بل تشمل أنظمة العسكريتاريا والمستبدين «الجمهوريين»، من القذافي الى صدام وزين العابدين وصولاً إلى المجلس العسكري المصري.
فهذا النظام يحمل شعاراً واحداً هو أنه يختصر البلد، ولن يسمح باسقاطه إلا من خلال تدمير البلد، وهذا يعني أن الشعوب ليست شعوباً بل هي مجموعات من العبيد. ولقد وصل جنون السلطة في سوريا الى درجة أن النظام بعدما دمر ما دمره وقتل من استطاع قتلهم، ارتضى أن يصير ألعوبة في أيدي الايرانيين وميليشياتهم الطائفية من جهة، والتجأ الى الجيش الروسي من جهة ثانبة، بحيث صارت سوريا اليوم قطعاً موزعة بين القوى العسكرية المختلفة التي تحتل أراضيها.
خروج الشعب من المعادلة، حوّل دمشق، في ليلة الصواريخ ، إلى ساحة للصراع بين إسرائيل وإيران. لقد نجح النظام الاستبدادي في إخراج سوريا من سوريا، محوّلاً الوطن إلى ساحة تتساقط عليها الصواريخ، ويتلاعب بها المتصارعون على النفوذ، وكأن الجولان المحتل وفلسطين (سوريا الجنوبية) ليستا مسألة سورية.
اللحظة الثانية هي اللحظة الخليجية، التي يجسدها اليوم أمير «التحديث»، محمد بن سلمان، وهي لحظة أعماها الصراع الطائفي، بحيث صارت مستعدة للتحالف مع «الشيطان» الإسرائيلي، من أجل مواجهة النفوذ الإيراني. لم يرقص أحد طرباً لقرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي أكثر من أمراء النفط، الذين كانوا شريك نتنياهو في رقصة التانغو الدموية على أنقاض الاتفاق النووي، وأمام احتمالات حرب استنزاف مفتوحة ستدمر ما تبقى من المشرق العربي.
تتقاطع هاتان اللحظتان المتصارعتان في مسألة جوهرية أساسها تحويل المشرق العربي إلى ملحق بقوتين إقليميتين متصارعتين:
اللحظة الأسدية تخرج الشعبين السوري واللبناني من المعادلة، وتحوّل البلدين إلى ساحة يستخدمها الايرانيون في استراتجيتهم التوسعية.
واللحظة الخليجية ترتكب الحماقة الكبرى عبر الالتحاق بالمشروع الإسرائيلي، معتقدة أن الدولة العبرية ستحمي أنظمتها، وهذا عين قلة النظر، إذ يكفي أن ينظر حلفاء إسرائيل الجدد الى المصير البائس الذي انتهت اليه القوى التي تحالفت مع إسرائيل في لبنان، وكيف تركت إسرائيل حلفاءها لمصيرهم البائس.
وفي الحالين يتحقق فصل جــــديد من فصول النكـــــبة، التي لا تنتهي. إخراج العرب من المعادلة إنجاز إسرائيلي لا يقل أهمـــية عن إخراج الفلسطينيين منها. وهذا ليس ممكناً من دون تواطوء عربي، هو الشريك الثاني للصهاينــــة في صنــاعة نكبتنا المستمرة.
الصواريخ التي ضربت دمشق كانت إعلاناً صارخاً بأن مرحلة جديدة من النكبة قد بدأت. في دمشق لا تضــــرب إسرائـــيل مواقع سورية بـــل مواقع ايرانية، والسوريون لا حول لهم، بعدما حيل بينهم وبين الحياة على يد من يدّعي انه يجسد المقاومة والممانعة.
إنه الحضيض.
وسوم: العدد 773