ربيع براغ.. وانتحار الاستبداد!
حين انتصرت الشيوعية في روسيا مع مطالع القرن العشرين، استطاع الروس الشيوعيون ضم العديد من الدول المجاورة إليهم، وتم إعلان دولة جديدة ذات نظام شيوعي في 28 ديسمبر 1922 باسم اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، وذلك في مؤتمر المندوبين المفوضين من جمهورية روسيا السوفياتية وما حولها.
وقد أنشأ الاتحاد في مواجهة حلف الناتو ما يسمى بحلف وارسو عام 1955م، ليضم دول أوربة الشرقية والوسطى الشيوعية، واستمر حتى سقوط الأنظمة الشيوعية الأوروبية وتفكك الاتحاد السوفيتي (عام 1991م). وشاعت في دول الحلف الشيوعي الديكتاتورية، والاقتصاد الموجه، ووصاية الأخ الأكبر الذي لا يسمح لأحد بالكلام أو الاختيار أو التفكير الحر، وفرض على كتابات الأدباء والكتاب والصحف أن تسير وفقا للخط الماركسي اللينيني، فيما يسمى الالتزام الذي يمجد الطبقة العاملة، ويشيطن الطبقة الرأسمالية، ويبشر بالصراع الدموي أو الحتمية التاريخية التي تجعل من سحق الأغنياء بالعنف والدم هدفا واجبا ومشروعا، وتحصر الولاء للحزب الشيوعي أو بالأحرى لجنته المركزية، ومكتبه السياسي.
صار الاتحاد السوفياتي وأتباعه من الدول الشيوعية القوة الثانية في العالم في مواجهة القوة الأولى للغرب وأتباعه. واستطاعت موسكو أن تبني قوة عسكرية ضخمة، وبدا أن قوتها لا تقهر، وأن تماسكها لن يتزعزع، وأن حلف وارسو سيظل إلى الأبد يخيف أعداء الشيوعية.
في مثل هذه الأيام منذ نصف قرن حاول الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي في أوائل يناير 1968 أن ينهج اتجاها إصلاحيا أقرب للديمقراطية، فيما عرف باسم "الاشتراكية ذات الوجه الإنساني" بقيادة الشيوعي الإصلاحي ألكسندر دوبتشيك، ولكن حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي؛ حشد أكثر من نصف مليون جندي اقتحموا تشيكوسلوفاكيا من جميع الجهات ليلة 20 -21من أغسطس 1968، ليقضي على هذا الوجه الإنساني، ويمحو ما عرف باسم ربيع براغ، ويخلف وراءه 108 من القتلى ويصيب 500 من التشيكوسلوفاك!
كان ألكسندر دوبتشيك يحلم بتغيير الوضع في بلاده وفقا للوجه الإنساني للاشتراكية، الذي يحقق حرية الصحافة والتعبير، وحرية التنقل، واقتصادا غير مركزي، ودستورا يقنن المساواة بين الأمتين التشيكية والسلوفاكية، في إطار جمهورية فيدرالية. وصرح دوبتشيك بأنه يسعى لتغيير نظام الحكم التشيكوسلوفاكي وإحلال اشتراكية ديمقراطية في خلال 10سنوات، وإمكانية إعادة السماح للأحزاب بالعمل السياسي. بيد أن التدخل السوفييتي أو تدخل الأخ الأكبر أجهض جميع الإصلاحات، باستثناء التعديل الدستوري المنشئ للفيدرالية. وعادت أجنحة الحزب المتشددة لتئد كل رغبة في الإصلاح وتفرض قيودا أشد صرامة على التعبير والحريات والاقتصاد، مما أدى إلى هجرة واسعة خارج البلاد!
كان إصرار السوفيات على وأد ربيع براغ حاسما، لدرجة إعلان أندريه جروميكو وزير الخارجية السوفياتي ضرورة القضاء على هذا الربيع ولو أدى إلى حرب عالمية ثالثة! لم تقم الحرب العالمية الثالثة، واستغل الغرب ربيع براغ وما تلاه من أحداث إعلاميا، مما جعل السوفيات في قلق دائم، من تسلل أفكاره إلى داخل موسكو والعواصم الشيوعية الأخرى، وهو ما كانت نتائجه مثمرة بالفعل بعد حوالي عقدين من الزمان، حيث تفكك اتحاد الجمهوريات السوفياتية ذاتيا، وانتحر الاستبداد تلقائيا عام 1989وقامت في براغ وغيرها من العواصم الشيوعية حكومات ديمقراطية ترفع القيود عن الحريات والأحزاب والاقتصاد، ولقي بعض الطغاة الشيوعيين من أمثال شاوشيسكو حاكم رومانيا مصيرا داميا فاجعا، وإن كانت الثورة المضادة لم تنهزم تماما، فخاضت جولات أخرى دامية، انتهت إلى تصفيتها في نهاية المطاف!
في بلادنا العربية انتصرت الثورة المضادة، واستخدمت القوة المسلحة لقهر الشعوب، وأنفق الأعراب مليارات لوأد الربيع العربي وتشويهه، وتأثيمه، وإلقاء اللوم عليه فيما أصاب الأمة من انتكاسات وخيبات وفشل ذريع في المجالات الإنسانية كافة، وظن أعداء الحرية والكرامة أن الدنيا دانت لهم، ولكنهم تناسوا درس ربيع براغ الذي سحقته دبابات ومدرعات نصف مليون جندي، فإذا به يأتي على الأخضر واليابس بعد عشرين عاما، وهي مدة قصيرة في حياة الأمم والشعوب، ويدفع النظام المستبد إلى الانتحار. وكان من المفارقات اللافتة أن ألمانيا الشرقية التي عاشت البؤس والفقر والتخلف تحت الحكم الشيوعي لمدة نصف قرن تقريبا، تتغير وتتقدم، وتتحول إلى مكان أفضل من روسيا نفسها، وأن تكون قائدة التطور والتغير إلى الأفضل امرأة من ألمانيا الشرقية اسمها أنجيلا ميركل!
لقد أنجب ربيع براغ وعيا إنسانيا عالميا تجاوز حدود الكتلة الشرقية الشيوعية ودول وارسو التي قادت الثورة المضادة بكل الجبروت والطغيان العسكري، إلى العالم كله في آسيا وإفريقية وأميركا اللاتينية التي اكتشفت أن هناك شيئا آخر اسمه الحرية التي لا تقدر بثمن، وأن هناك أبطالا للحرية وكتابا أحرارا صنعهم ربيع براغ وسجل التاريخ أسماءهم في صفحات من نور.. ويكفي أن نذكر الكاتب الشهير ميلان كونديرا، ورصيفه فاتسلاف هافل الذي صار رئيسا للتشيك بعد سقوط الشيوعية.
وإذا كان ربيع براغ قد أنجب أدباء على مستوى العالم ، وكتابا يشار لهم بالبنان لأنهم وقفوا في جانب الحرية، فإن الثورة المضادة للربيع العربي لم تقدم لنا للأسف إلا نماذج من كتاب الارتزاق والنفاق والحظيرة، الذين راحوا يلقون باللوم على الإسلام والمسلمين، واقرأ إن شئت تفسير أحدهم لهزيمة الربيع العربي في مصر، وهو بالمناسبة رجل كل العصور. إنه يرى أن سبب فشل الربيع العربي هو عدم فصل الدين عن الدولة لأن الفصل يمهد للديمقراطية، وفى تقديره أن الديمقراطية لا تتحقق إلا بالعلمانية التي تضمن ألا تكون للسلطة الدينية (هل في الإسلام سلطة دينية؟) أي وجود في السلطة السياسية، لكن الذى حدث هو أن المرحلة السابقة على ثورات الربيع العربي في مصر- يقول الشقيّ- كان الفضاء السياسي فيها خاليًا من النشاط الحزبي، فما كان موجودًا فقط هو نشاط الجماعات الإسلامية أو الجماعات الدينية أو جماعات الإسلام السياسي التي كانت تقتسم السلطة مع النظام الذى كان قائمًا، فهذه الجماعات اقتسمت السلطة مع السادات، الذى أحياها من جديد(؟؟)، وبعد ذلك اقتسمت السلطة مع حسنى مبارك الذى أعطاها النقابات(؟؟)، فتسللت إلى التعليم والصحة والحياة الدينية طبعًا(؟؟)، ويمكن أن نضيف أيضًا التأثير السلبى لبعض النظم السياسية المجاورة لنا التي لعبت بورقة الدين في نشاطها السياسي، فكانت النتيجة أنه عندما قامت ثورة ٢٥ يناير لم تكن هناك جماعات سياسية منظمة إلا جماعة الإخوان، والسلفية، وهما في تقديره حالتا دون ما أردناه (من أنتم؟)، بل بالعكس سارعتا بالاستيلاء على السلطة بالسيطرة (؟؟). هل يمكن أن نناقش مثل هذه السمادير؟ الاستبداد ينتحر إن لم يجد من يقاومه! خذوا الحكمة من ربيع براغ!
الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 789