تطرف التطرف… خنوع الخنوع
هل يمكن للتطرّف أن يتطرّف، وللخنوع أن يكون أكثر خنوعا، ما دام كل منهما قد عمل كل ما لديه للحصول على هذه المرتبة، وكلاهما في الحقيقة مرتبة سُفلى، لا تمت للقيم البشرية ولا للأخلاق في شيء؟ التطرف خروج على كل ما اتفق عليه المسار الإنساني، من عدل وحوار وعقل وضمير وأخلاق وقبول بوجود الآخرين وباختلافهم. والخنوع هو الإقرار المريض بذلك كله والانصياع المطلق له، على أمل الحفاظ على بقاء من نوع ما، وحياة تشبه الحياة، لكنها لا تمتُّ إلى جوهرها بصِلة.
الخانع بهذا المعنى متطرف معكوس، يجيز ممارسة العنف ضده ويقبل به، بل يمنحه الاعتراف بالوجود والحق في الحياة المأخوذة، عنوة، منه.
في الحالة الفلسطينية، ومنذ أوسلو، دخلت السلطة الفلسطينية، حاشرة شعبها في هذا الحيز الضيق، قابلة بمحاورة التطرّف وإصدار شهادة حياة له موقّعة من الضحية، وقد عمدت السلطة فيما بعد، فعلا وليس قولا، على تحطيم أرجُل وأيدي كل من لا يوقّع على تلك الشهادة، أو زجّه في السجن، أو تحطيمه بكل الوسائل المتاحة.
لذا، لم تكن مسيرتها خلال ربع القرن الأخير إلا هرولة لا تنتهي في مجرى الخنوع الذي، لحسن الحظ، لم يقبله الشعب الفلسطيني، فابتكر الكثير من وسائل المقاومة؛ يبدأ بعضها بحجر، ويمر بانتفاضات وسكاكين، وخروج الأفراد على قوانين التنظيمات، وميلاد حركة المقاطعة وصولا إلى مسيرات العودة.
لكن الحكاية ليست هنا؛ ليست في الشعب الذي يعرف عدوّه أكثر مما تعرفه قيادتُه، ولعل أخطر تحدّ يواجهه تاريخ شعب أن يمتلك وعيا لا تمتلكه قيادته، بل وتحاول هذه القيادة محو كل وعي يتأسس، فإن لم تستطع راحت تحاربه.
مخطئ من يظن أن أوسلو ونهج الخنوع لم يُصِبْ بقيةَ التنظيمات، فبقدر أو بآخر أخذ كلٌّ حصة ما من خنوع أوسلو، أحسَّ بذلك أم لم يُحس، ووافق على أوسلو أو لم يُوافق، أو ســــعى إلى تقليده أحيانا وهو ينفيه، كما حصل ويحصل في محادثات التهدئة أو الهدنة الطويلة في غزة. وكأن الهدنة شكل من أشكال الانتصار، ناسيا من يسعى إليها ذلك الدّور الرهيب الذي يلعبه الزمن في فرض حقائقه، أكان يمرّ ممتلئا بالأحداث، أو يمرّ خاليا منها؛ أي ممتلئا بالموات.
في خنوع الخنوع هناك التبرع بمدن بأكملها، بل بفلسطيننا البحريّة كلها، بفلسطين كلها، مقابل مزيد من الحصار في الحقيقة، ومزيد من التحكم بكل حفنة هواء وجرعة ماء وزرقة من سماء؛ فالخانع يعطي كل شيء مقابل لا شيء في الحقيقة، لأن ما قد يُمنح له لن يكون حتى الهدوء.
والخانع يتبرع بقبوله بدويلة منزوعة السلاح، وهي في الحقيقة ليست منزوعة السلاح وحسب، بل منزوعة من كل شيء؛ من كرامتها، ومن مستقبلها، ومن نشيدها الوطني، مهما ارتفعت أصوات التلاميذ مرددة له في الصباح، ومنزوعة من عَلَمها الذي لم يعد أمرا متفقا عليه؛ بمعنى، منزوعة من عَلميْها، سواء انتمى الأول للأرض وما فيها من ألوان، أو انتمى الثاني للسماء بما فيها من وعود بالجنان.
لكن تطرف التطرف دائما يقف متربّصا بخنوع الخنوع؛ وهكذا يأتي من يتطرف على تطرف ليبرمان، الوجه القبيح، بين وجوه قبيحة لا تحصى، في دولة الكيان العنصري، لأنه يقبل بهدنة مفتوحة أو شبه مفتوحة في غزة، ويكون على ليبرمان أن ينسلّ من موقفه نافيا له ومنحازا لتطرف التطرف في مواجهة خنوع الخنوع. في وقت يخرج فيه خنوع الخنوع في الضفة لوصف مفاوضات التهدئة بين الكيان الصهيوني وغزة بأنها ضرب للهوية الفلسطينية! وهذا أمر غير مُستغرب، إذ ثمة من لا يرى خنوع خنوعه، لأنه يستطيع، بعماه، أن يرى فيه تمردا على خنوع خنوع الآخر!
ويأتي من الجانب الصهيوني من يتطرّف على خنوع الخنوع الماثل في دعوة السلطة إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وفي حقيقة الأمر أن الدولة الصهيونية لن تقبل بأي دولة فلسطينية في أي مكان في هذا العالم. وبالمناسبة، لن تقبل حتى بما يروّج لإلهاء بعض العقول المُغيّبة، ولخلق الفتن، في معارك ما يسمى بالوطن البديل، لأن هذا الكيان لن يقبل في النهاية بوجود دولة للفلسطينيين محاذية له، ونعني الأردن، ولا في جوفه، ونعني الضفة الغربية، ولا على طرفه كما يحلم بعض من في غزة التي تجنح للتهدئة أو التسوية، كما لو أن مقاومتها كانت سياسية، لا وطنية، ومرحليّة، لا حتى الحرية والتحرير! هذا الكيان العنصري ودولته القومية يريد كيانات هزيلة لا غير في جوفه، مُبتلعة، وعلى أطرافه، وما بعد أطرافه، ذيليَّة، وهو ينجح اليوم، وقد بدأت بعض الدول العربية تتصهين على الهواء مباشرة، وينجح في إقامة منظومة من دول الهُزال تحرسه من أحلام الشعب الفلسطيني وحيوية هذا الشعب التي لم يستطع العدو محْقها خلال أكثر من مائة عام.
خنوع الخنوع في كل مكان اليوم، وكل الخانعين يعتقدون أنهم أقوى من شعوبهم، في داخل فلسطين وخارجها.
يُساق العدو الصهيوني إلى المحاكم الدولية بسبب جرائمه، وأول من يسحب القضايا من تلك المحاكم هم الناطقون باسمه، أو حلفاؤهم من المتصهينين العرب الجدد، ويتقدّم العالم خطوات في بعض برلماناته وبعض من حكوماته للسير في ركب حركة المقاطعة لهذا الكيان الصهيوني، فيتقدّم ممثلو السلطة لدعوة هؤلاء الشرفاء للتريّث، ولو قليلا، لأن اندفاعاتهم من أجل الحق ستلحق الضرر بمباحثات خنوع الخنوع مع تطرف التطرف!
شعب يتقدم بلا كلل، وقيادات لا تكفّ عن حشر العصي في عجلات عربات تقدّمه، وثمة صمت في الحقيقة مرعب أيضا، ليس بالقليل، بين كثير من المثقفين في الداخل الفلسطيني، لا يمكن أن يُفسر ببراءة. ويُفزع المرء كثيرا هذا التباهي بالتقاط الصور المدججة بابتسامات عريضة مع كثير من رموز خنوع الخنوع. هذه الصّور التي سيعمل كثيرون على التخلّص منها في زمن لم يعد هناك مجال أن نتخلص فيه من أي صورة تُنشر، لكي يتنصلوا من رمزية لا تليق بكلماتهم التي كتبوها وأعمالهم التي أبدعوها، وهم يرفعونها عاليا باعتبارها تاريخ هذا الشعب وتاريخ أحلامه، التي لا يمكن أن تكون أحلاما سابقة، فالأحلام معنا، وأمامنا دائما حين يتعلق الأمر بحرية لم تتحقق، ووطن لم يزل مسلوبا.
وبعد
(من أغنية قديمة كتبتها في الثمانينيات لفرقة بلدنا):
تلوّى يا مذيع وغنّي لحالك
موال الأرض ما هوِّ موالك
لبلادْ بتصرخْ ولا على بالك
كإنِّ القدس في الهند الصِّينيِّةْ!
هل يمكن للتطرّف أن يتطرّف، وللخنوع أن يكون أكثر خنوعا، ما دام كل منهما قد عمل كل ما لديه للحصول على هذه المرتبة، وكلاهما في الحقيقة مرتبة سُفلى، لا تمت للقيم البشرية ولا للأخلاق في شيء؟ التطرف خروج على كل ما اتفق عليه المسار الإنساني، من عدل وحوار وعقل وضمير وأخلاق وقبول بوجود الآخرين وباختلافهم. والخنوع هو الإقرار المريض بذلك كله والانصياع المطلق له، على أمل الحفاظ على بقاء من نوع ما، وحياة تشبه الحياة، لكنها لا تمتُّ إلى جوهرها بصِلة.
الخانع بهذا المعنى متطرف معكوس، يجيز ممارسة العنف ضده ويقبل به، بل يمنحه الاعتراف بالوجود والحق في الحياة المأخوذة، عنوة، منه.
في الحالة الفلسطينية، ومنذ أوسلو، دخلت السلطة الفلسطينية، حاشرة شعبها في هذا الحيز الضيق، قابلة بمحاورة التطرّف وإصدار شهادة حياة له موقّعة من الضحية، وقد عمدت السلطة فيما بعد، فعلا وليس قولا، على تحطيم أرجُل وأيدي كل من لا يوقّع على تلك الشهادة، أو زجّه في السجن، أو تحطيمه بكل الوسائل المتاحة.
لذا، لم تكن مسيرتها خلال ربع القرن الأخير إلا هرولة لا تنتهي في مجرى الخنوع الذي، لحسن الحظ، لم يقبله الشعب الفلسطيني، فابتكر الكثير من وسائل المقاومة؛ يبدأ بعضها بحجر، ويمر بانتفاضات وسكاكين، وخروج الأفراد على قوانين التنظيمات، وميلاد حركة المقاطعة وصولا إلى مسيرات العودة.
لكن الحكاية ليست هنا؛ ليست في الشعب الذي يعرف عدوّه أكثر مما تعرفه قيادتُه، ولعل أخطر تحدّ يواجهه تاريخ شعب أن يمتلك وعيا لا تمتلكه قيادته، بل وتحاول هذه القيادة محو كل وعي يتأسس، فإن لم تستطع راحت تحاربه.
مخطئ من يظن أن أوسلو ونهج الخنوع لم يُصِبْ بقيةَ التنظيمات، فبقدر أو بآخر أخذ كلٌّ حصة ما من خنوع أوسلو، أحسَّ بذلك أم لم يُحس، ووافق على أوسلو أو لم يُوافق، أو ســــعى إلى تقليده أحيانا وهو ينفيه، كما حصل ويحصل في محادثات التهدئة أو الهدنة الطويلة في غزة. وكأن الهدنة شكل من أشكال الانتصار، ناسيا من يسعى إليها ذلك الدّور الرهيب الذي يلعبه الزمن في فرض حقائقه، أكان يمرّ ممتلئا بالأحداث، أو يمرّ خاليا منها؛ أي ممتلئا بالموات.
في خنوع الخنوع هناك التبرع بمدن بأكملها، بل بفلسطيننا البحريّة كلها، بفلسطين كلها، مقابل مزيد من الحصار في الحقيقة، ومزيد من التحكم بكل حفنة هواء وجرعة ماء وزرقة من سماء؛ فالخانع يعطي كل شيء مقابل لا شيء في الحقيقة، لأن ما قد يُمنح له لن يكون حتى الهدوء.
والخانع يتبرع بقبوله بدويلة منزوعة السلاح، وهي في الحقيقة ليست منزوعة السلاح وحسب، بل منزوعة من كل شيء؛ من كرامتها، ومن مستقبلها، ومن نشيدها الوطني، مهما ارتفعت أصوات التلاميذ مرددة له في الصباح، ومنزوعة من عَلَمها الذي لم يعد أمرا متفقا عليه؛ بمعنى، منزوعة من عَلميْها، سواء انتمى الأول للأرض وما فيها من ألوان، أو انتمى الثاني للسماء بما فيها من وعود بالجنان.
لكن تطرف التطرف دائما يقف متربّصا بخنوع الخنوع؛ وهكذا يأتي من يتطرف على تطرف ليبرمان، الوجه القبيح، بين وجوه قبيحة لا تحصى، في دولة الكيان العنصري، لأنه يقبل بهدنة مفتوحة أو شبه مفتوحة في غزة، ويكون على ليبرمان أن ينسلّ من موقفه نافيا له ومنحازا لتطرف التطرف في مواجهة خنوع الخنوع. في وقت يخرج فيه خنوع الخنوع في الضفة لوصف مفاوضات التهدئة بين الكيان الصهيوني وغزة بأنها ضرب للهوية الفلسطينية! وهذا أمر غير مُستغرب، إذ ثمة من لا يرى خنوع خنوعه، لأنه يستطيع، بعماه، أن يرى فيه تمردا على خنوع خنوع الآخر!
ويأتي من الجانب الصهيوني من يتطرّف على خنوع الخنوع الماثل في دعوة السلطة إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وفي حقيقة الأمر أن الدولة الصهيونية لن تقبل بأي دولة فلسطينية في أي مكان في هذا العالم. وبالمناسبة، لن تقبل حتى بما يروّج لإلهاء بعض العقول المُغيّبة، ولخلق الفتن، في معارك ما يسمى بالوطن البديل، لأن هذا الكيان لن يقبل في النهاية بوجود دولة للفلسطينيين محاذية له، ونعني الأردن، ولا في جوفه، ونعني الضفة الغربية، ولا على طرفه كما يحلم بعض من في غزة التي تجنح للتهدئة أو التسوية، كما لو أن مقاومتها كانت سياسية، لا وطنية، ومرحليّة، لا حتى الحرية والتحرير! هذا الكيان العنصري ودولته القومية يريد كيانات هزيلة لا غير في جوفه، مُبتلعة، وعلى أطرافه، وما بعد أطرافه، ذيليَّة، وهو ينجح اليوم، وقد بدأت بعض الدول العربية تتصهين على الهواء مباشرة، وينجح في إقامة منظومة من دول الهُزال تحرسه من أحلام الشعب الفلسطيني وحيوية هذا الشعب التي لم يستطع العدو محْقها خلال أكثر من مائة عام.
خنوع الخنوع في كل مكان اليوم، وكل الخانعين يعتقدون أنهم أقوى من شعوبهم، في داخل فلسطين وخارجها.
يُساق العدو الصهيوني إلى المحاكم الدولية بسبب جرائمه، وأول من يسحب القضايا من تلك المحاكم هم الناطقون باسمه، أو حلفاؤهم من المتصهينين العرب الجدد، ويتقدّم العالم خطوات في بعض برلماناته وبعض من حكوماته للسير في ركب حركة المقاطعة لهذا الكيان الصهيوني، فيتقدّم ممثلو السلطة لدعوة هؤلاء الشرفاء للتريّث، ولو قليلا، لأن اندفاعاتهم من أجل الحق ستلحق الضرر بمباحثات خنوع الخنوع مع تطرف التطرف!
شعب يتقدم بلا كلل، وقيادات لا تكفّ عن حشر العصي في عجلات عربات تقدّمه، وثمة صمت في الحقيقة مرعب أيضا، ليس بالقليل، بين كثير من المثقفين في الداخل الفلسطيني، لا يمكن أن يُفسر ببراءة. ويُفزع المرء كثيرا هذا التباهي بالتقاط الصور المدججة بابتسامات عريضة مع كثير من رموز خنوع الخنوع. هذه الصّور التي سيعمل كثيرون على التخلّص منها في زمن لم يعد هناك مجال أن نتخلص فيه من أي صورة تُنشر، لكي يتنصلوا من رمزية لا تليق بكلماتهم التي كتبوها وأعمالهم التي أبدعوها، وهم يرفعونها عاليا باعتبارها تاريخ هذا الشعب وتاريخ أحلامه، التي لا يمكن أن تكون أحلاما سابقة، فالأحلام معنا، وأمامنا دائما حين يتعلق الأمر بحرية لم تتحقق، ووطن لم يزل مسلوبا.
وبعد
(من أغنية قديمة كتبتها في الثمانينيات لفرقة بلدنا):
تلوّى يا مذيع وغنّي لحالك
موال الأرض ما هوِّ موالك
لبلادْ بتصرخْ ولا على بالك
كإنِّ القدس في الهند الصِّينيِّةْ!
هل يمكن للتطرّف أن يتطرّف، وللخنوع أن يكون أكثر خنوعا، ما دام كل منهما قد عمل كل ما لديه للحصول على هذه المرتبة، وكلاهما في الحقيقة مرتبة سُفلى، لا تمت للقيم البشرية ولا للأخلاق في شيء؟ التطرف خروج على كل ما اتفق عليه المسار الإنساني، من عدل وحوار وعقل وضمير وأخلاق وقبول بوجود الآخرين وباختلافهم. والخنوع هو الإقرار المريض بذلك كله والانصياع المطلق له، على أمل الحفاظ على بقاء من نوع ما، وحياة تشبه الحياة، لكنها لا تمتُّ إلى جوهرها بصِلة.
الخانع بهذا المعنى متطرف معكوس، يجيز ممارسة العنف ضده ويقبل به، بل يمنحه الاعتراف بالوجود والحق في الحياة المأخوذة، عنوة، منه.
في الحالة الفلسطينية، ومنذ أوسلو، دخلت السلطة الفلسطينية، حاشرة شعبها في هذا الحيز الضيق، قابلة بمحاورة التطرّف وإصدار شهادة حياة له موقّعة من الضحية، وقد عمدت السلطة فيما بعد، فعلا وليس قولا، على تحطيم أرجُل وأيدي كل من لا يوقّع على تلك الشهادة، أو زجّه في السجن، أو تحطيمه بكل الوسائل المتاحة.
لذا، لم تكن مسيرتها خلال ربع القرن الأخير إلا هرولة لا تنتهي في مجرى الخنوع الذي، لحسن الحظ، لم يقبله الشعب الفلسطيني، فابتكر الكثير من وسائل المقاومة؛ يبدأ بعضها بحجر، ويمر بانتفاضات وسكاكين، وخروج الأفراد على قوانين التنظيمات، وميلاد حركة المقاطعة وصولا إلى مسيرات العودة.
لكن الحكاية ليست هنا؛ ليست في الشعب الذي يعرف عدوّه أكثر مما تعرفه قيادتُه، ولعل أخطر تحدّ يواجهه تاريخ شعب أن يمتلك وعيا لا تمتلكه قيادته، بل وتحاول هذه القيادة محو كل وعي يتأسس، فإن لم تستطع راحت تحاربه.
مخطئ من يظن أن أوسلو ونهج الخنوع لم يُصِبْ بقيةَ التنظيمات، فبقدر أو بآخر أخذ كلٌّ حصة ما من خنوع أوسلو، أحسَّ بذلك أم لم يُحس، ووافق على أوسلو أو لم يُوافق، أو ســــعى إلى تقليده أحيانا وهو ينفيه، كما حصل ويحصل في محادثات التهدئة أو الهدنة الطويلة في غزة. وكأن الهدنة شكل من أشكال الانتصار، ناسيا من يسعى إليها ذلك الدّور الرهيب الذي يلعبه الزمن في فرض حقائقه، أكان يمرّ ممتلئا بالأحداث، أو يمرّ خاليا منها؛ أي ممتلئا بالموات.
في خنوع الخنوع هناك التبرع بمدن بأكملها، بل بفلسطيننا البحريّة كلها، بفلسطين كلها، مقابل مزيد من الحصار في الحقيقة، ومزيد من التحكم بكل حفنة هواء وجرعة ماء وزرقة من سماء؛ فالخانع يعطي كل شيء مقابل لا شيء في الحقيقة، لأن ما قد يُمنح له لن يكون حتى الهدوء.
والخانع يتبرع بقبوله بدويلة منزوعة السلاح، وهي في الحقيقة ليست منزوعة السلاح وحسب، بل منزوعة من كل شيء؛ من كرامتها، ومن مستقبلها، ومن نشيدها الوطني، مهما ارتفعت أصوات التلاميذ مرددة له في الصباح، ومنزوعة من عَلَمها الذي لم يعد أمرا متفقا عليه؛ بمعنى، منزوعة من عَلميْها، سواء انتمى الأول للأرض وما فيها من ألوان، أو انتمى الثاني للسماء بما فيها من وعود بالجنان.
لكن تطرف التطرف دائما يقف متربّصا بخنوع الخنوع؛ وهكذا يأتي من يتطرف على تطرف ليبرمان، الوجه القبيح، بين وجوه قبيحة لا تحصى، في دولة الكيان العنصري، لأنه يقبل بهدنة مفتوحة أو شبه مفتوحة في غزة، ويكون على ليبرمان أن ينسلّ من موقفه نافيا له ومنحازا لتطرف التطرف في مواجهة خنوع الخنوع. في وقت يخرج فيه خنوع الخنوع في الضفة لوصف مفاوضات التهدئة بين الكيان الصهيوني وغزة بأنها ضرب للهوية الفلسطينية! وهذا أمر غير مُستغرب، إذ ثمة من لا يرى خنوع خنوعه، لأنه يستطيع، بعماه، أن يرى فيه تمردا على خنوع خنوع الآخر!
ويأتي من الجانب الصهيوني من يتطرّف على خنوع الخنوع الماثل في دعوة السلطة إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وفي حقيقة الأمر أن الدولة الصهيونية لن تقبل بأي دولة فلسطينية في أي مكان في هذا العالم. وبالمناسبة، لن تقبل حتى بما يروّج لإلهاء بعض العقول المُغيّبة، ولخلق الفتن، في معارك ما يسمى بالوطن البديل، لأن هذا الكيان لن يقبل في النهاية بوجود دولة للفلسطينيين محاذية له، ونعني الأردن، ولا في جوفه، ونعني الضفة الغربية، ولا على طرفه كما يحلم بعض من في غزة التي تجنح للتهدئة أو التسوية، كما لو أن مقاومتها كانت سياسية، لا وطنية، ومرحليّة، لا حتى الحرية والتحرير! هذا الكيان العنصري ودولته القومية يريد كيانات هزيلة لا غير في جوفه، مُبتلعة، وعلى أطرافه، وما بعد أطرافه، ذيليَّة، وهو ينجح اليوم، وقد بدأت بعض الدول العربية تتصهين على الهواء مباشرة، وينجح في إقامة منظومة من دول الهُزال تحرسه من أحلام الشعب الفلسطيني وحيوية هذا الشعب التي لم يستطع العدو محْقها خلال أكثر من مائة عام.
خنوع الخنوع في كل مكان اليوم، وكل الخانعين يعتقدون أنهم أقوى من شعوبهم، في داخل فلسطين وخارجها.
يُساق العدو الصهيوني إلى المحاكم الدولية بسبب جرائمه، وأول من يسحب القضايا من تلك المحاكم هم الناطقون باسمه، أو حلفاؤهم من المتصهينين العرب الجدد، ويتقدّم العالم خطوات في بعض برلماناته وبعض من حكوماته للسير في ركب حركة المقاطعة لهذا الكيان الصهيوني، فيتقدّم ممثلو السلطة لدعوة هؤلاء الشرفاء للتريّث، ولو قليلا، لأن اندفاعاتهم من أجل الحق ستلحق الضرر بمباحثات خنوع الخنوع مع تطرف التطرف!
شعب يتقدم بلا كلل، وقيادات لا تكفّ عن حشر العصي في عجلات عربات تقدّمه، وثمة صمت في الحقيقة مرعب أيضا، ليس بالقليل، بين كثير من المثقفين في الداخل الفلسطيني، لا يمكن أن يُفسر ببراءة. ويُفزع المرء كثيرا هذا التباهي بالتقاط الصور المدججة بابتسامات عريضة مع كثير من رموز خنوع الخنوع. هذه الصّور التي سيعمل كثيرون على التخلّص منها في زمن لم يعد هناك مجال أن نتخلص فيه من أي صورة تُنشر، لكي يتنصلوا من رمزية لا تليق بكلماتهم التي كتبوها وأعمالهم التي أبدعوها، وهم يرفعونها عاليا باعتبارها تاريخ هذا الشعب وتاريخ أحلامه، التي لا يمكن أن تكون أحلاما سابقة، فالأحلام معنا، وأمامنا دائما حين يتعلق الأمر بحرية لم تتحقق، ووطن لم يزل مسلوبا.
وبعد
(من أغنية قديمة كتبتها في الثمانينيات لفرقة بلدنا):
تلوّى يا مذيع وغنّي لحالك
موال الأرض ما هوِّ موالك
لبلادْ بتصرخْ ولا على بالك
كإنِّ القدس في الهند الصِّينيِّةْ!
وسوم: العدد 789