نظرة في قاعدة التخريج على ما مضى
هذه انبثقت عن جعل كل ما مضى من الآراء الفقهية المالية أصلا، فما تخرج عليها من المعاملات المعاصرة أجيزت أو منعت، وهذا ليس بجيد ، إذ لم يتعبدنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالتوقف على صور العقود الأولى التي نص عليها الفقهاء، ومنع استحداث غيرها بحيث لا تصح أي صورة لعقد جديد إلا إن كانت على وفق تلك
بل الواجب هو التوسط والبدء بالنظر في الكتاب والسنة وقواعد ومقاصد الشريعة والاستفادة مما سطره فقهاؤنا مما ينطبق أو يقارب الصورة الواقعة في عصرنا مع ملاحظة اختلاف الوقائع والالتفات إلى المعاني في تنزيلها والاهتمام بالاستفادة من منهجيتهم في النظر دون الاقتصار على منتوج تلك المنهجية
وقد حصل التحير في كثير من المسائل المعاصرة نتيجة لإشكالية التخريج الفقهي على الوقائع في غير واقعنا ومن المعلوم أن النازلة قد تجمع شبها من كل باب وهذا الشبه يتنازع المسألة ويتنازع معه المتنازعون من الفقهاء المخرجون وانظر إلى صورة واحدة من صور الإجارة المنتهية بالتمليك كيف تجاذبتها الأنظار
الصورة : أن ينتهي العقد بالتمليك مباشرة بلا عقد جديد لنقل الملك
فهذه الصورة تشبه أن تكون بيعا في المعنى وإجارة في اللفظ لأن المؤجر يراعي في الإجارة وضع سعر أو زمن أو مصلحة ما مقابل انتقال الملكية وليست تبرعا ولا هبة محضة.
وهنا اضطربت أقاويل المعاصرين:
فمنهم من قال كما قدمنا هو بيع لأن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ
وعلى هذا التخريج منع مجمع الفقه الإسلامي هذه الصورة لأنها كانت إجارة انقلبت بيعا بدون عقد جديد وهذا أمر مخترع لا أصل له .
ومنهم من قال هو إجارة منتهية بالهبة .
ويمكن لقائل أن يقول هو بيع وإجارة فهو من البيعتين في بيعة لأن الاجارة في حقيقتها بيع.
أما من قال أنه بيع فغلب المعنى على حسب القاعدة الشهيرة وهي معتبرة عند الجمهور خلافا للشافعية
في عدم اعتبارها سوى في مسألة من قال وهبتك هذه بألف فهي بيع لا هبة
ويرد عليه أن البيع ينتقل به الملك إلى المشتري بمجرد العقد فإذا تخلف عن الأقساط ( الثمن) فلا ينفسخ العقد بل يجبر على التسليم بخلاف هذا العقد في واقع الحال فإنها تكون إجارة لا بيعا في حال التخلف عن الأداء فالعقد متردد بين بيع وإجارة بحسب الوفاء بالشروط وهذا غرر
ولو جعلناه جعالة لكان أشبه لأن الجعالة تقبل مثل هذا التردد.
أما من قال هي بيعتان في بيعة وهو ممنوع لعموم نهى عن بيعتين في بيعة قال الترمذي
- حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر، وابن مسعود.
وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. والعمل على هذا عند أهل العلم، وقد فسر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما قال الشافعي: ومن معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجب لك داري، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته
أما من أجازها قائلا هي إجارة منتهية بالهبة تلقائيا بدون عقد جديد فظاهر لولا أن الهبة ليست محضة بل مقابل عوض على أجر المثل ، أو منفعة مقابل ذلك كأن يكون الإيجار طويلا إذ المؤسسة تنتفع بهذا الإيجار الطويل.
فكانت الهبة مقابل أحد هاتين الجهتين فكانت هبة بعوض وهي ما تعرف عند الفقهاء بالهبة للثواب وهي معاوضة في حقيقة الأمر .
والقول بالجواز في هذه الصورة قريب. فهذه صورة واحدة وقع فيها الخلاف في التخريجات.
وعندي أن نجعلها عقدا جديدا ونجري عليه المفسدات الستة الاستقرائية التي تعود بالابطال فإن حصل منها مفسد فسدت وإلا فهي صحيحة
وقد بينت ذلك في موضعه
من كتابنا المفصل في فقه العصر
فقه الأموال
وسوم: العدد 796