مطبّات أكاديمية على طريق الخروج من الصندوق العلمي

بعدما كشفنا – في المقالين السابقين – بطلان الرواية الأمريكية حول غزوة القمر، أو على أقل تقدير، أن الشك فيها مشروع، نتساءل في هذه السياقات: أليس من الغريب أن كثيرًا من المستسلمين لسطوة العلم الغربي يُسخّرون أنفسهم للدفاع عن وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وعن مخرجاتها ويجادلون عنها رغم تناقض الروايات العلمية؟!

هذا أمر يثير الأذهان حول خطورة منهج التسليم بالرواية العلمية… وهو تساؤل هام في رحلة الشك العلمي التي نخوضها تفاعلًا مع الأسئلة الوجودية حول أصل الوجود والحياة، وفي سياق التفاعل معه، لا بد من وقفتين على هذا الطريق: الأولى تُلخّص مطبات الخروج من الصندوق العلمي، التي تعرقل الأكاديميين (غربيين أو مسلمين) عن ممارسة التفكير الناقد والشك العلمي مما يعرضه هذا المقال، أما الثانية – في المقال اللاحق – فستعرض تكاليف ذلك الخروج من الجوانب المعنوية والمهنية، وهي التي يمكن أن تجعل مواجهة الخزعبلات العلمية مغامرة!

وقبل التفصيل، لا بد من البيان الواضح الصريح، أن هذا الشك العلمي ليس منطلقًا أساسًا من خلفية الصراع بين المسلمين والغرب، وإن كان له انعكاس على ذلك، بل إن هذا الشك ذو انعكاس على الأديان السماوية عمومًا، ثم إن هنالك علماء ومهتمّين غربيين ومسيحيين شكّوا أو أنكروا قبل المسلمين.

ولبيان المطبّات، يجب فهم طبيعة المشوار الأكاديمي، إذ جُلّ الباحثين يَروْن أن ذروةَ سنام النشاط هي في مساهمة ينشرها الباحث في مجلة مرموقة، والحصول على تمويل لأبحاثه أو تقديم استشارة فنيّة مدفوعة الأجر (ولا أبرّئ نفسي)، أما الباحثون في دوائر البحث والتطوير فهم يرون الذروة في منتج جديد أو فرصة استثمارية أو تحفيز مالي، ولذلك يغيب عنهم التفكير الناقد في الأطروحات الوجودية، وقد يمرّ على الباحث زمانٌ لا يشغل فيه ذهنه، ولا يولي مسألة الشك العلمي وانعكاسها الفكري أي اهتمام، واعترف أنني مررت بهذه الحالة، قبل هذه اليقظة. ولذلك يمكن أن يكون الأكاديمي – في خارج مجاله البحثي – عاميًّا مثل عامة الناس يتلقى الروايات العلمية الوجودية (أو غيرها) بالتسليم دون التفكير الناقد، كمن يكون عالمَ ذرة ثم يعبد خشبة أو بقرة.

وهذا الركون هو أكبر عائق أمام الخروج من الصندوق، لأنه في الوقت الذي يجب أن يكون الأكاديميون روّادَ مواجهة العلوم الزائفة والخزعبلات العلمية فإنهم لا يبادرون لمجرّد الشك، فكيف بهم أن يقودوا حراكًا عالميًا لإعادة العلوم إلى سياقها الصحيح؟!

وثمة أنماط أكاديمية خاصة قد ترسّخت كمحددات ومعايير مهنية، تقوم على مدارج خاصة بالسالكين، تُجبر كلَّ أكاديمي وباحث جديد أن يسلكها، جريا على نهج من سبقه: فكل باحث أو أكاديمي جديد يلاحظ تلك النماذج التي سبقته، خلال تحضيره لرسالة الدكتوراه عند مشرفه الأكاديمي، ثم لدى تسلّمه أول وظيفة بعد حصوله على الدكتوراه، ثم لا يلبث أن يجد أن اللحاق بها وتقليدها هو أفضلُ أسلوب للانخراط الأكاديمي، ولبناء مستقبله العلمي على خطا من سبقه.

وتكون فاتحةُ ذلك المسار – كما قلنا – في نشر الأبحاث في المجلات العالمية المحكمة لتحقيق حضور علمي يفتح للباحث الأبواب الأكاديمية ويُعلي من سِعره الوظيفي (مع احترامي لمكانة الأكاديميين)، ويُحقق له نوعًا من الرضا الذاتي (كعالِم)، وقبل ذلك كلّه يُبقيه على رأس عمله، وهذا النمط غالبًا ما يجعلُه مقلّدًا، ومسترضيًا للمحكّمين الذين يصدرون القرارات حول قبول أبحاثه خلال مراجعتها قبل النشر، وهم الذين يأخذون بعين الاعتبار صورة الباحث العلمية، ومدى انخراطه ضمن الجوقة العلمية، وهنا يحتاج الباحث أن يُبرز سلامة صورته المعنوية (integrity)، وهي ما قد تُفهم خطأ على أنها توجب عليه حسن الاندماج في الجوقة العلمية، ولذلك فإن الباحث يُحسّ بحاجة إلى رسم صورة مقبولة له في الأوساط العلمية تسهّل من اختراقه لتلك الأوساط.

ثم لمّا تشبُك سنارتُه في إحدى الجامعات أو المؤسسات، يحرص على الأمان الوظيفي وديمومة باب الرزق، ثم ترتفع تطلعاته نحو الترقية الأكاديمية وصولًا لرتبة بروفيسور، بدوافع مادية ومعنوية، مثل تحقيق الذات وحبّ المنافسة. وهذا ما يدفعه إلى أن يمارسَ الدور الدعائي حول نفسه، جنبًا إلى جنب مع المهام العلمية في حياته الأكاديمية، ويبدأ الأكاديمي أول أشواط الدعاية الذاتية (المشْروعة) عند تحضير السيرة الذاتية من خلال نشر عدد من الأوراق العلمية في المجلات ذات الأثر المعترف به (impact factor)، ثم رويدًا رويدًا يُتقن فن تكوين العلاقات وكتابة المقترحات البحثية، في دَوْر تسويقي يشبه دور مندوب المبيعات (ومرة أخرى مع الاحترام لشخصيات الأكاديميين).

وعلى سقف ذلك الحضور، يتطلع العالِمُ إلى أن يُشار له بالبنان فيُدعى لتحكيم الأبحاث التي تُرسل للنشر في المجلات العلمية، وكذلك تحكيم رسائل الماجستير والدكتوراه، مما يعتبره نوعًا من الشهادة بمكانته العلمية وحضوره العالمي، ويتوّج ذلك كلّه بدعوته للحديث – كمتحدث رئيس – في المؤتمرات العلمية العالمية، هذا في المجمل، وبالطبع لم نذكر هنا ضرورة إرضاء الجهات السياسية، حتى لا نُشعّب الحديث، ولأنه ليس ذا صلة مباشرة عند نقدِ الأطروحات العلمية.

وللدقة والموضوعية، نقول أن كثيرا من تلك الأعراف الأكاديمية ليست ذات حضور قوي في الأوساط العربية، إذ هي تخضع لفلسفة: من دخل الجامعة فهو آمن وساكن، أو وزِد عليها أحيانا: ومن أرضى الكبار فهو آمن، مهما انخفضت مسيرته الأكاديمية. ومع ذلك هناك فئة قليلة تحاول أن تسير حسب الأعراف الأكاديمية العالمية (وبالمناسبة، تقليد تلك الأعراف ليس تقليدًا ثقافيًا للغرب)، ثم إن الباحثين العرب يواجهون صعوبة ملحوظة في اختراق الأوساط العالمية وفي النشر العلمي في مجلاتها المرموقة.

ولدى المقارنة السريعة لهذه الأوساط المعاصرة مع أعراف العلماء السابقين، نجد أن البَوْن شاسع: فقد كان جلّ السابقين مدفوعين بحب المعرفة وخدمة مسيرة العلم، ومن باب فرض الكفاية على الأمة، ولذلك وُجد منهم من يُنفق ماله مقابل كشف معرفي لأسئلة أرّقته، وقد تمثّل ذلك في كثير من علماء المسلمين، ثم في علماء أوروبيين، قبل أن تُجسّد فيهم الرأسمالية تلك الأوساط العلمية التي لخّصناها أعلاه، فأين هو النمط الأكاديمي اليوم من أنماط العلماء السابقين! (ولا أبرّئ نفسي من التشوّه الأكاديمي المعاصر).

إذًا تلك خريطة متشابكة من التطلعات الأكاديمية والمصالح المهنية، تسيطر عليها جهات مختلفة. وفي كثير من الحالات فإن خيوط تلك التشابكات قد تجتمع بيد واحدة أو بأيد تنبثق عن قوة واحدة تتحكم في مصائر الأكاديميين، البارزين منهم خصوصًا. وهو ما قد يخلق في عقلية الباحث نوعًا من فلسفة استرضاء الجهات العليا (التي تتحكم في الخيوط وتحرّكها)، ثم يمكن أن تتحول تلك الفلسفة إلى نوع من الجبن الأكاديمي أو العلمي، ثم إلى العزوف عن ممارسة التفكير الناقد.

هذه التعقيدات تلتف حول الباحث، وقد تدفعه إلى سلوك النعامة ووضع رأسه داخل الصندوق، معتبرا أنه بذلك يُرضي الجهات، ويحفظ أمنه الوظيفي وديمومته الأكاديمية، التي يُدمن! عليها. وإذا أضفنا إلى ذلك تخوّفه من دفع تكاليف الخروج من الصندوق العلمي، مما نبيّنها في المقال التالي، نفهم أسباب صمت كثير من العلماء والأكاديميين على انتشار الخزعبلات العلمية، وسببَ تغافلهم عن ممارسة التفكير الناقد، وقعودهم عن كشف الفلسفات التي تسبح تلك الأطروحات العلمية في فضائها.

أضف إلى ذلك أن الباحثين في الأوساط العربية يعانون من الشعور بالنقص – الذي قد يصل لحد التقزّم – أمام الباحثين من ذوي البشرة البيضاء والغُرةِ الشقراء والسيرة الذاتية العصماء، وهذه المعاناة هي امتداد أو تجسيد لفلسفة تقليد المغلوب للغالب، التي تعاني منها الأمة منذ أن هُزمت عسكريا أمام الغرب، وهي ما تجعل كثيرًا من الأكاديميين تابعً للغربيين (ولا أتحدث هنا عن التبعية السياسية، بل التبعية الأكاديمية).

إذًا فلا تغرنّك ربطات الأعناق على رقاب الأكاديميين، ولا نَفَخاتهم، ولا القوائم المطوّلة من الأبحاث المنشورة على مواقعهم، ولا تطريز سِيَرِهم الذاتية؛ إذ لُقمة العيش يمكن أن تُغمّس بعرق الاسترضاء وتُلفّ ببرقع الاستكانة والاستمالة. ولكل دور وظيفي تبعات، وقيود مهنية، وحدود للحرية الفكرية، مهما تغنّى الناس كذبًا بالديمقراطية، ومهما تحدّث الأكاديميون عن الانفتاح العلمي، وعن مشروعية الشك العلمي.

لذلك كله لا تَستغرب أن تجد أكاديميًا يدافع عن غزوة أمريكا للقمر – وعن مثيلاتها – أكثر من دفاع موظفي ناسا أنفسهم، بل للأسف أكثر من دفاعه هو نفسه عن أطروحاته الدينية والعقدية! أو أن يَسْخر من مجرد الشك العلمي بتلك العقيدة الباطلة، ومن ثم فلا تُصغرّن من عنفوانك المعرفي وإن كنت لا تحمل أية شهادة، فالمعرفة شهوة وسعي، لا ورقة صفراء على لوحة صماء.

وسوم: العدد 797