الطبل خانة!
أ.د. حلمي محمد القاعود
في روايته الجميلة " السائرون نياما " يرصد الكاتب الراحل سعد مكاوي (1916 - 1985)، أحوال مصر التعيسة في عصر المماليك، ويكشف عن صراع العسكر حول السلطة والجواري والأموال العامة والغرق في المتع والملذات، بينما الشعب المصري البائس يحترق بنيران الفاقة والجوع ويراقب السطو على عرقه وكده من جانب الملتزمين الطغاة الذين أفسدوا الدين والدنيا معا دون قدرة على مواجهتهم .
سعد مكاوي كاتب يساري لديه أثارة من ضمير حيّ افتقده أغلب اليساريين المعاصرين الذين ماتت ضمائرهم واكتفوا بترديد مقولات جوفاء عن الكادحين والعدالة الاجتماعية ، وانتقلوا من عيش السطوح إلى سكنى القصور ، وركبوا السيارات المطهمة ، واستمتعوا بالحراسات الأمنية وعطايا الحكام الطغاة المستبدين الذين حرموا الناس الحرية والكرامة والخبز والعدل، ونهبوا خيرات الوطن وأوردوه الهوان والمذلة والهزائم ، واستسلموا لشراذم الغزاة الذين فرضوا إرادتهم وعملاءهم على البلاد والعباد .
في " السائرون نياما " يغدر المماليك ببعضهم بعضا ، ويجمع أتابك عسكر أو الدويدار أو الأستادار أو كبير البصاصين جنده وأتباعه لينقلب على السلطان الذين يكون عادة في جلسات أنس وشرب ، فيُعْمِلون فيه السيف ، ويسلبون منه خاتم السلطنة ، ويعلن المنادي عن سلطان جديد ، وتتبعه زفة يتقدمها الطبل خانة وهو فريق الطبالين الذين يدقون طبولهم الراعدة يرافقهم حملة الرايات أو السناجق دار؛ لجمْع الناس من التجاروالمشايخ والعامة والحرافيش والزعران والأوباش كي يشاهدوا سلطانهم الجديد في موكب مهيب ترفرف عليه الأعلام والشارات، قد لا يتم السلطان ليلة كاملة، وقد يستمر ثلاثين عاما إذا كان يتميز بالوحشية الأكبر واليقظة الساهرة والعيون المفتوحة والبصاصين الأوفياء، وفي كل الأحوال يدفع العامة ثمنا غاليا نتيجة سفك دمائهم وقهرهم في السجون والحياة العامة وسلب ممتلكاتهم وأموالهم .، ويبقى الطبل خانه في موقعه لتدشين موكب السلطان الجديد .
الشاهد في موضوعنا هو أهمية الطبل خانه الذي يعلن عن السلطان الجديد – أيا كان - ويتقدم مواكبه في انتصاره على السلطان القديم واحتفالاته وأفراحه التي لا ينال الشعب منها إلا دفع الإتاوة والقهر المرير!
الطبل خانة في زماننا هو الإعلام والصحافة والحظيرة الثقافية والحظيرة الحزبية الديكورية والفتاوى الحرام ! وهو ضرورة حيوية للحكام الانقلابيين لحشد الأتباع والأنصار ، وتبرير الجرائم وسفك الدماء ، وتشويه أبناء الشعب الرافضين للطغيان والاستبداد .
في العصر الحديث كان الجهاد ضد المستعمرين وأذنابهم يمثل شرف الوطنية والانتماء إلى الوطن ، وكان من يوالي المستعمرين والطغاة يوصم بالخيانة وعدم الوطنية ، ومن يقدم إليهم معلومات عن الأحرار والمجاهدين يسمونه مخبرا وبصاصا يستحق الازدراء والاحتقار .
اليوم نشاهد ونسمع هؤلاء الأوغاد يتفاخرون بقربهم من الحكام الظالمين ، وبجهودهم في الإيقاع بالأحرار والشرفاء عن طريق الوشاية أو الإبلاغ أو تدبير الكمائن للإيقاع بهم وتقديمهم إلى طاحونة الظلم المهلكة التي يديرها الطغاة .
رأيت وسمعت مذيعا في فريق الطبل خانة يفاخر أنه قدم ثلاثة من ضيوفه كانوا يتحدثون في برنامجه إلى جهات الأمن الفاشية بعد انتهاء البرنامج ، ولا يخجل أو يرى غضاضة في ذلك ، بل يعده – ياللمفارقة – وطنية وعملا جديرا بالثناء !
من قبله دبر رفيق له كمينا عن طريق مداخلة تلفزيونية لأحد الدعاة كي تقتنصه أجهزة القمع والدم ، ويلقي في قعر مظلمة لا يتوفر فيها أبسط حقوق الإنسان ، فيعيش مريضا ، وتلحقه الإصابة بجلطة فيفقد النطق والحركة معا !
ثالث كان أبوه كاتبا معارضا شجاعا في عهد جلاد هلك ، لا يجد حرجا في الإعلان عن فخره بدعم أتابك عسكر قائد الانقلاب ، وأنه "بيطبل" للانقلاب، ويضيف : "لو كان ده تطبيل أيوه إحنا بنطبل، وإنت عليك من ده بإيه، وإيه اللي مضايقكم، ايه اللي جايب ليكم هسهس في دماغكم محسورين إننا عندنا قناة السويس الجديدة، ومحسورين اننا هيكون عندنا عاصمة جديدة هو ده التبطيل من وجهة نظركم، لوسمحتم لموها شوية صدقوني لم يعد لكم مصداقية".
هذا الطبال كما يصف نفسه يتجاهل أن المصريين الشرفاء يتمنون أن تكون لمصر قناة سويس جديدة بحق ، وعاصمة جديدة بصدق ، ونيل محصن ضد السرقة حتى لايموت الناس عطشا ، ولكنهم مع ذلك يريدون الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية التي سُرقت والشرعية التي أهدرت ، كما يريدون القصاص لدماء آلاف الضحايا الذين قتلوا بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله ، وأن يسعوا لتحرير وطنهم من الاستبداد والطغيان والاستباحة .. !
نمط آخر ينتسب إلى الحظيرة الثقافية يطبل للانقلاب المعادي للإسلام والإنسان فيرى عام الديمقراطية الحقيقية التي عاشتها مصر تحت حكم الرئيس المنتخب بإرادة شعبية عامًا أسود، جربت فيه مصر مرارة الانتكاس الروحى والمعنوى عندما قفز على ثورتها ( كذا!) فريق لا يؤمن بنهضتها ولا يؤمن بمستقبلها ويسعى إليه.
رؤية الطبل خانة الآتية من الحظيرة الثقافية لاتخجل من الكذب ، ولا ترعوي أمام القيم الإنسانية التي تحبّذ الحرية والعدل والشورى بالمفهوم الإسلامي الذي يكرهه ، أو الديمقراطية بالمفهوم الغربي الذي ينضوي تحت لوائه ، فيكذب حين يرى من اختارهم الشعب قفزوا على الثورة ، ويكذب حين يتهم هؤلاء المختارين بمعرفة الشعب وليس بمعرفة البيادة بأنهم لايؤمنون بنهضة مصر ومستقبلها ولا يسعون إليه ، ويتجاهل الحظائري الطبال أن من لايؤمن بالنهضة ولا المستقبل يمكنه أن يعيش آمنا مطمئنا ، دون أن يتعرض للقتل في رابعة والنهضة وأخواتهما ، ودون أن يدخل سجن العقرب المشدد ، ودون أن تصادر أمواله وممتلكاته ومؤسساته ، ودون أن يخرج من عزوة الوطن وأهله !
إن الطبل خانة يمتد إلى كل الأجهزة التي تكذب وتدلس وتؤسس لتوحش السلطان الذي يطعمها ويسقيها ، وتتخذ في هذا السياق أخس الوسائل وأحطها بدءا من الكذب حتى النفاق الفج المفضوح ، وتأمل ما يقوله أحدهم في صحيفة سيارة وهويتساءل في استخفاف : ماذا لو لم يكن قائد العسكر قد أصبح رئيساً لمصر؟، ويجيب على نفسه : حقاً لقد كان منحة من الله! وتناسى الصحفي الطبال ، ما فعله قائد العسكر بعشرات الآلاف من الأبرياء حين سفك دماءهم وغيّبهم وراء الأسوار وشرّد أسرهم وذويهم وطارد مثلهم في الداخل والمنافي ، وروّع الشعب كله بالمداهمات والاقتحامات ؟
أراد هذا الصحفي الطبال أن يجاري معمّما جعل قائد الانقلاب ورفيقه مقدم درك من أنبياء الله . وهكذايقوم الطبل خانة بدوره في دولة المماليك الجديدة ، ولكن سعد مكاوي يجعل نهاية الرواية شيئا آخر !
الله مولانا . اللهم فرج كرب الظالمين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم.