نافذة من اسطنبول على معتقلات سوريا: صرخات على الجدران تطلب النجدة
يدخل فتى دون دراية بما يحصل، عمره حوالي ثمانية عشر عاماً، ولكن جسده الضخم لا يوحي بذلك، حين تراه تظن أنك أمام جبل بشري يتحرك، يدخل من الباب ويلتفت يميناً، تعود القدوم إلى مركز الدار حيث تقام نشاطات تعليمية وثقافية بشكل دوري، لكنه فوجئ هذه المرة بلوحات معلقة على الجدران، لوحات وبوسترات لمعتقلين يطلقون صرخات الألم ويتعرضون للتعذيب، وأخرى تحمل مئات الوجوه لمن جزرتهم الآلة الوحشية، يتنقل بين اللوحات مذهولاً ثم يخرج بعينين جاحظتين، ويبدأ بالبكاء على الدرج البارد، ثم يقول لمن جاء لمواساته أنه تذكر أخاه الذي يرجح مقتله تحت التعذيب بعد أن اعتقلته قوات النظام، وسلمت هويته لعائلته. يقول وهو يبكي بحرقة أنه لا يريد تصديق ذلك. أن ثمة صوتا داخله يدفعه للإيمان بأنه ما زال على قيد الحياة.
هذا هو حال مئات آلاف السوريين من ذوي المعتقلين، والذين يعيشون جحيماً مراً خلال السنوات الأخيرة ـ فضلاً عن أولئك الذين خاضوا التجربة خلال السنوات الخمسين الماضية ـ حيث تلوب الماكينة الوحشية خاطفة الأرواح والأجساد إلى ثقب أسود، وتترك أهالي المعتقلين أمام سيناريوهات قاسية، تجعل كثيراً منهم يتمنى الموت لأحبائه، علّ الموت يريحهم من الهراوات والعصي وكراسي الكهرباء ونزع الأظافر.
مركز “الدار” استقبل هذه الفعالية للتضامن مع المعتقلين وتسليط الضوء على مأساتهم، في مدينة اسطنبول في تركيا، إذ كانت الحملة قد بدأت في مدينة عينتاب بالجنوب التركية، وانتقلت إلى اسطنبول، وفي خطة القائمين عليها التحرك في أكثر من مدينة.
اللافت في هذا المعرض أن القائمين عليه ذاتهم من ضحايا التعذيب السابقين، وبوستراته أيضاً تم تصميمها واقتراح أفكارها من قبل أشخاص ناجين من التعذيب.
ياسمينا بنشي (أحد القائمين على المعرض ومعتقلة سابقة، وشقيقها قُتل تحت التعذيب) قالت لـ”القدس العربي” إن المعرض هو “ضمن أنشطة الحملة الدولية لإنقاذ المعتقلين، التي بدأت عام 2015، ولكن الآن تقوم بحملة جديدة، بعد أن أرسل النظام السوري قوائم بأسماء الآلاف ممن قضوا تحت التعذيب في سجونه. الحملة بدأت في عينتاب كان أهمها المعرض”.
وتضيف بنشي أن المعرض “يجب أن يكون رسالة متنقلة، لإيصال صوت هؤلاء المعتقلين والذين يتعرضون للتعذيب، الذين يجب أن نطالب بحقوقهم، ومحاسبة قتلتهم، والمطالبة بجثث من استشهد منهم”.
ياسمينا تشير إلى أن فكرة إقامة المعرض في اسطنبول جاءت بسبب تواجد السوريين بأعداد كبيرة في هذه المدينة، إضافة لوجود عرب أتراك وأجانب مهتمين بالشأن السوري، ويجب اطلاعهم على تفاصيل هذه القضية. لافتة إلى أن الأسبوع المقبل سيكون المعرض موجوداً في مدينة هاتاي (جنوب تركيا)، قبل أن يتم إرسال اللوحات إلى العاصمة الفرنسية باريس، لإقامة معرض فيها.
حاول القائمون على هذ المعرض الخروج من حالة التركيز على أشخاص معينين دوناً عن سواهم، حرصاً على أن لا يؤثر ذلك على كون القضية جماعية يتعرض فيها الآلاف للقسوة، ففضلوا عدم التمييز بين الضحايا.
عند سؤال بنشي عن مدى تجاوب الجهات الرسمية والمنظمات الحقوقية مع المعرض أو مع قضية المعتقلين، أجابت بالقول إنه “مع الأسف، هذه الجهات تناست قضية المغيبين قسرياً، وسلاحنا الوحيد في مواجهة هذا الألم هو حملات المناصرة والحملات الإعلامية، بهدف التذكير بهذه القضايا، في ظل التهميش الكبير لها من قبل المجتمع الدولي”.
المعرض كان فيه العديد من اللوحات الرقمية والصور، التي توثق بعض المشاهد في المعتقلات، حيث يظهر في بعضها أشخاص يتعرضون للتعذيب، وآخرون نائمون بشكل متراص في الزنزانة الضيقة، أو يصرخون من خلف القضبان الحديدية، فيما كان هناك أيضاً لوحات فنية لها بعد رمزي.
أكثر ما كان يثير الحزن في هذا المعرض هو صور الأمهات وأقارب المفقودين والمعتقلين، الذين يطالبون بمعرفة مصير أبنائهم، هناك صورة لأم دامعة ومكسورة تتساءل عن مصير ابنها الذي لا تعرف إن كان قد قتل أم ما زال على قيد الحياة.
ضم المعرض أيضاً لوحة كبيرة تضم صوراً لخمسة آلاف شخص ممن قضوا في المعتقلات تحت التعذيب، جلهم من الشبان والرجال، لوحة كبيرة تقول للناظرين إليها، إن سوريا هذه الأيام، هي محرقة العصر والشباب والطاقات والعيون اللامعة والابتسامات على الوجوه. تقول إن البلاد هذه إن لم يمت فيها الشاب تحت ضربات عناصر الفرع والصواعق الكهربائية، فإنه سيُساق بالسلاسل إلى الجبهات ليدفن أيام شبابه في خنادق القتال، أو يدوس على قلبه بالحذاء العسكري وهو يقصف القرية المجاورة.
يعتبر ملف المعتقلين والمغيبين قسرياً في سجون النظام السوري أحد أكثر الملفات الشائكة في القضية السورية، ذلك أن كل التحركات السياسية والمبادرات الدولية لتحقيق حل في البلاد، يكون فيها هذا الملف حاضراً ويزيد من تعقيد المسألة، فالنظام يستطيع إيقاف القصف والحملات العسكرية، يستطيع سحب الدبابات وإعادة إعمار المدن المهدومة، لكنه لا يستطيع إعادة الأرواح لأصحابها الذين قتلوا في الأقبية، ما يدفعه دوماً للمماطلة في المفاوضات حول هذه النقطة، ويدفع أيضاً الوسطاء الدوليين لتوخي التركيز عليها حتى لا يتم الوصول إلى نفق مسدود، والدفع نحو مسائل أخرى كالدستور والانتخابات وإجراء “حوارات وطنية”.
ذوو المعتقلين اليوم مطالبون بنسيان وجود أبنائهم وآبائهم في السجون. والوطن المحطم والكسيح، ثمة جهود كبيرة لإبداله بوطن آخر عن طريق المصافحة ونسيان الماضي، وكتم الأفواه المطالبة بالعدالة والحقوق والحيوات المهدورة على أعواد المشانق.
منظمة العفو الدولية قالت في تقرير صادم لها إن ثلاثة عشر ألف شخص تم إعدامهم في سجن صيدنايا بريف دمشق، فيما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل عدد مشابه أثناء التعذيب وانتزاع الاعترافات، بينهم 59 سيدة، و167 طفلاً.
إضافة إلى ذلك، سرب عسكري منشق عن النظام السوري عشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب من المدنيين السوريين، اعتمدت عليها لجنة التحقيق الدولية المكلفة ببحث جرائم الحرب في سوريا لإثبات جرائم مروعة على يد قوات النظام.
وأظهرت الصور التي سربها تقرير “قيصر” مشاهد للجثث عليها رقم التوقيف والفرع الأمني، وتتضح فيها آثار الضرب والتعذيب والخنق والأمراض، وهي تمثل أطفالاً وشيوخاً.
وتقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان إن أرقام المعتقلين تتجاوز 220 ألفاً، بينهم تسعة آلاف طفل دون سن الـ18، وما يقارب 4500 امرأة.
ليس أمام ملايين السوريين اليوم خيارات كثيرة، العالم يغلق في وجوههم الأبواب ويترصدهم بالقناصة وخفر السواحل والأسلاك الشائكة. العائلات التي فقدت ابناً تخاف على الآخر في هذا السجن الكبير، وأصوات المطالبين بالعدالة تتكسر أمام الأسوار العالية.
وسوم: العدد 803