ليس بسخاء الرثاء والتعاطف... بل بالعدل
د. سماح هدايا
لم تكن تلك لحظات تذكارية عذبة حتى تعلّقها المرأة في ملف الذكريات والصور ...كانت عذابا شديداً وقهراً، وقد تستمر كابوساً مرعبا. وربما من الصعب نسيانها.
كيف يمكن التعويض عن التعذيب؟ كيف يمكن التعويض عن الآلام؟
كيف يمكن تعويض المرأة عن آثار المهانة والإذلال والاحتقار؟
وبسؤال أدق ..: كيف يمكن تعويض المرأة عن إنسانيتها المسلوبة عندما يصبح الاغتصاب في الحروب وانتهاك جسدها سلاحا فتاكا بالانتهاك الفردي والتّحطيم الاجتماعي والتدمير الإنساني؟
كيف يمكن التعايش مع الحدث ونتائجه وما رافقه من أضرار جسيمة...في شريط طويل من جرائم مروّعة سجلتها على الواقع وفي الذاكرة وحشيّة العصابات الأمنية وعصابات الحقد بتفويض النظام الطاغي على امتداد خارطة الثورة؟
حقوق المغتصبة وحقوق عائلتها أمر في غاية الأهميّة، والعمل عليه جزء حيوي من حماية المجتمع والإنسان والمرأة ة في مسعى العدالة والحق الكرامة. لكنْ، لا يكفي أن تعمل المرأة بمفردها عليه، أو يقتصر على منظمات حقوقية إنسانية؛ لأن جمعيات المجتمع المدني والهيئات الحقوقية، على الرغم من دورها الكبير في هذا المجال؛ لا تستطيع، منعزلة، تغيير الواقع أو إصلاحه وبناء العدالة والسلم الأهلي وإنجاح المصالحة. كذلك لا يستطيع الفقهاء فعل ذلك وحدهم. لأنّ المسائل الفقهية معقدة وتحتاج إلى اجتهادات علماء الدين وطريق عمل طويل مرتبط بالإصلاح الديني قبل الاجتماعي . صحيح أن بعض الفقهاء يحاولون الخروج بفتاوى جيدة لدعم حقوق المغتصبة؛ لكنها لا تكفي؛ فهي محدودة ومرتبطة بمزاج رجال الدين ورؤاهم ومواقفهم غير الثابتة؛ فالدولة السلطوية تستخدم المؤسسة الدينيّة لحماية مصالحها. موضوع الاغتصاب يرتبط بشراكات أخرى واسعة؛ فلابد من التعاون المجتمعي والتشارك الثقافي واعتماد إصلاح القانون المدني كمدخل لعملية التغيير وإدخاله في حالة الثورة، لإلغاء كل الفصول القانونية الظالمة للمرأة.
لا يكفي تقديم سخاء الرثاء والتعاطف اللفظي والوجداني مع المغتصبات والنساء المظلومات، ولا تكفي المكرمات الاستثنائية للرجال الأحرار القادمين إلى الحكم بعد الثورات؛ فرد اعتبار المرأة، خصوصا المغتصبة، أو المعرضة لعنف جنسي قهري في الحرب الدائرة. هو إلزامي. رد الحق للنساء كضحايا حرب أولا، وكضحايا جرائم إنسانية ثانيا، ثم كنساء في منظومة المطالبة بحقوق المرأة. إنّ العدل هو أساس الشرع والقانون ومنظومة الحقوق؛ فلا يكفي الاستناد إلى الرحمة البشرية العابرة وطمأنة المرأة بصحوة الضمير. لابد من وضع خطة عمل قانونية واجتماعية لحل القضايا المتعلقة بالاغتصاب وإعلاء صوت الحق والعدل.
هناك معوقات كثيرة تقف في وجه التعاطي مع إنصاف المغتصبات ورد حقهنّ. ليس الدين الإسلامي، كما يعتقد بعض المثقفين والمثقفات الاستشراقيين، هو المعوق الحقيقي لهذا الأمر، وإنما القوانين الحاكمة في أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، التي يسهم فيها موروث التشريعات المستندة إلى الدين وإلى العادات والتقاليد وإلى الأفكار الراسخة التقليدية الوافدة والمحليّة. قضية الاغتصاب السياسي مرتبطة بالوعي الإنساني والاجتماعي وبإدراك مفاهيم العدل وتطبيقاتها؛ فحتى المجتمع الدولي المتقدم مدنيا وقانونيا في منظومة حقوق المرأة، لم يقم بتطوير قانون تاريخي جدي في في موضوع ضحايا الاغتصاب في الحروب ، إلا في نهاية القرن العشرين .
الأمر بحاجة لرؤيته من عدة جوانب: القانوني والاجتماعي والمجتمعي والإنساني. إنّ تطوير الثقافة الاجتماعية وتحويلها من تلقائية إلى إنتاجية وإصلاح المجتمع، والتغيير القانوني والدستوري كيان واحد لايتجزّأ. القانون ينتج العلاقة وهذه العلاقة تتبلور لتتحكم بالقوانين. ولعل التغيير الجذري في مفاهيم قانون الأحوال الشخصية هو نقطة مهمة في بداية مسيرة التغيير وتطوير المفاهيم الاجتماعية وترقية الأدوار المطلوبة من الجميع. وهذا سينعكس، حتماً، إيجابا على كرامة المرأة وإنسانيتها، وعلى تمكينها وتعزيز دورها سياسا واجتماعيا. إذن المعركة هي معركة اجتماعية وقانونية وسياسية. والمسألة في جوهرها معركة حق وتحرر وعدالة.
البداية تكون من التشريعات....فعلى المرأة أن تكون جزءا من عملية التشريع، وإلا فستستمر عقلية المشرع مرتبطة بعقلية المتسلّط الناظم للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي ، التي تستغل المرأة، بهدف تعزيز مواقعها السلطوية ومصالحها الامتيازيّة. وبالمقابل على الجمعيات النسائية والحركات الناشطة لحقوق المرأة متابعة النضال لإصلاح الثقافة الاجتماعية وتبديد المفاهيم الرجعية والمطالبة بالتغيير القانوني. وإلا سيستمرّ اضهاد المرأة بتسويغات اجتماعيّة.
قضية الاغتصاب متعلقة بالقمع والعنف والإرهاب بكل أشكالها المجتمعية والثقافية والتاريخيّة. وفي أجواء غير سويّة، يمكن تزوير أي قضية شخصية للمرأة تحت اسم الشرف والعار، لتسويغ إبقاء الهميمنة وقمع المرأة، ثم قمع المجتمع واضطهاده... كثيرة هي القضايا التي كانت مائعة قبل الثورة، وذلك بسبب غوغائية الدولة وفسادها وعدم شرعيتها المستقلة. أما الآن بعد نضال الشرعية الثوريّة وبعد دفع الثمن الكبير لاستحقاق المطالب التحرّريّة، فلن يعود التقاعس مقبولا في استمرار الوضع المهين للمرأة. الأمر ليس قضية شخصية وفردية وفئوية، بل قضية اجتماعية ومجتمعية تنال الجميع، ومع أنّ المرأة تعاني أكثر وتتحمل الثقل الأكبر لشخصها ولرمزيتها الاجتماعية والأسرية ، وبالتحديد بما يتعلق بمفاهيم العار، خصوصا في البيئات الجاهلة التي تمارس القتل تحت عنوان الحفاظ على الشرف، لكنّ الاغتصاب كسلاح مخيف استخدمه العدو لقهرها وإهانتها وتعذيبها واعتقالها، هو إهانة لأهلها وللرجال المقاتلين للحرية، و للمجتمع والوطن والدولة. ولم يعد ينفع مع تطور الوعي التحرري، تطبيق الحلول الترقيعيّة بحجة الأمن الاجتماعي؛ كتزويج المغتصبة من المغتصب الذي ألحق بها الإهانة. أو إخفاء عارها بعزلها أو تزويجها. صحيح أن هناك سوريين يتعهدون بالزواج من فتيات تعرضن للاغتصاب؛ لكنّ الموضوع ليس مجرد شفقة. وصحيح أنّ الرحمة خلق عظيم، لكنّ عصر الحرية ليس لأفراده البقاء ضمن منظومة العبودية، حتى لوكانت بأقفاص من ذهب.
ماهو السياق المفروض أن توضع فيه قضايا المغتصبات؛ سواء فيما يتعلق برد الظلم عنهن أو رد اعتبارعن أو فيما يتعلق بحالات الإنجاب أو حالات الحمل أو الزواج؟ السياق هو تغيير القوانين ووضع وسائل التنفيذ بجوارها. الاغتصاب ليس مجرد أمر عشوائي فردي. هو حالة ممتدة ممنهجة عسكريا وأمنيا مشحونة بالكراهية والحقد والاحتقار والانتقام والثأر وله آثار طويلة المدى. الموضوع ليس امرأة عابرة تعرّضت للاغتصاب وتُركت حاملا، أو قتلت. هو أكبر من ذلك؛ لذلك يجب القيام بخطوات جريئة، لكي تكون الحلول القانونية تاريخية. يجب مراجعة القوانين....يجب تحديث النصوص التشريعية الدينية والنصوص المدنية، وتتنويرالعقلية؛ لكي نرفع الظلم عن المرأة والمجتمع. وخصوصا فيما يتعلق بقضية الاغتصاب وما يدور حول مفاهيم الشرف والعار.
سيكون لقضية المغتصاب متعلقات كثيرة بحاجة إلى متابعة وحلول: أعداد كبيرة من المغتصبات المريضات نفسيا وجسديا. أحيانا لا معيل. أطفال حرب مولودون قسرا نتيجة الاغتصاب.. الأمراض المنقولة جنسيا. حالات تهميش. حالات ثأر. وبالتالي هناك مطالب التعويضات والرعاية الصحية والمالية والنفسية.. ملاحقة رجال ميليشيات الحروب الأهلية. رد الاعتبار رمزيا وواقعيا. العدالة والمصالحة. كله يصب في مفاهيم تحصين المرأة وتمكينها؛ لكي تمتلك الثقة بنفسها وبأدائها وتندمج في المجتمع الجديد إيجابيّا.
بعد كل ما حصل في سوريا من ظلم وانتهاك واضطهاد ومقاومة لن تعود المرأة إلى الوراء. لكنّ عملية الاستشفاء من الاغتصاب مهمة صعبة وبحاجة لتوحيد جهود الجميع: لها بعد اجتماعي متعلق بالإرهاب الاجتماعي، وبعد نفسي في الدعم، وبعد تربوي وقيمي في تغيير الرؤى ومناهج التفكير والتعليم، وبعد سياسي في التسلط والاستبداد والقمع. وبعد قانوني في إيجاد الحلول القانونية، ثم في البعد التوثيقي..وهو مهم جدا لتحديد الضحايا والجناة من أجل إحلال الأمن والعدل.
أخيرا صحيح أن العالم يحتفل بعيد المرأة العالمي لكن احتفاله مزيف؛ لأنّ من التناقض الأخلاقي والإنساني أن يحتفل العالم بعيد المرأة ويقف عاجزا عن نصرة المرأة السورية التي تواجه عبر حرب إبادة جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ومجازر تنالها وتنال أطفالها ورجالها. لا يكفي إنصاف المرأة اعتذاريا وعاطفيا بالمدح والإطراء والطبل والتزمير والشعارات، يكون الإنصاف عمليا وواقعيا بإنجازه واقعيا ونجدتها. ولا يكون رد اعتبارها بتقديم مساعدات إغاثية والتباكي عليها والرثاء ولثم الجراح، بل بتغيير المفاهيم من خلال تغيير القوانين وسن قوانين جديدة.