محاولاتُ الغرب لنَزْع أسنان الإسلام(3 – 3)
رأينا في الحلقة الماضية كيف أن الوجه الاستعماري للغرب ما فتئ يعمل بكل ما أوتي من قوة وإمكانات وبكل ما يُخبِّئ من مكر وحقد، وذلك من أجل نَزْع أسنان الإسلام ولا سيما ما يتعلق بأسنان الدولة والجهاد والقوة والمال؛ حتى يسهل عليه استرقاق المسلمين واستذلال كرامتهم، بعد أن أذاقوا الأوروبيين الويلات والمرارات في ساحات الوغى وبعد أن انتزعوا منهم بلداناً واسعة وعبروا إليهم في بلاد الأندلس التي ظلوا فيها أكثر من ثمانية قرون، وحتى ينجحوا في السيطرة على أراضيهم التي تحتل قلب الكرة الأرضية وتزخَر بأنفَس الخيرات وأثمن الهِبات الربانية، وسنواصل في هذه الحلقة مَخْرَ عُباب هذه الأمواج من المحاولات لتطويع الإسلام واستعباد المسلمين، لنطل على محاولات استئصال الحركات الإسلامية واستبدالها بتيارات تصنع الوهن وتُعزِّز الغثائية.
5 – سِنُّ الحركات الإسلامية:
يمتلك الإسلام قوة ذاتية هائلة، حيث تثوي هذه القوة في خصائصه المميز العديدة وفي تركيبته ذات المصدر الرباني والتنزيل البشري بما يوافق مصالح الناس في كل زمان ومكان، وقد ظلت هذه الفعالية محل إعجاب بعض الغربيين وصارت سبب مخاوف الكثيرين منهم.
ومن مقوّمات هذه الفاعلية امتلاك القدرة على الانبعاث من بين ركام العوائد والأعراف البالية والتمرد على كافة القوالب الجامدة، وعلى التجدُّد في وجه الزمان والتلاؤم مع جغرافية المكان، حيث يؤدي التفاعل بين قيم الإسلام الكُلّية وثوابته المعلومة من جهة وبين متغيرات العصر وتحديات الواقع من جهة أخرى، إلى انبثاق تيارات وحركات تجديدية في كل عصر، وفقاً لما عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ” لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم..”، وقوله: ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدّد لها دينها”.
وفي العصر الحديث تكثّفت التحديات الداخلية والخارجية، فأنتجت بتفاعلها مع بعضها صورا جديدة من صور التخلف والاستعمار، وارتقى أعداء الأمة مرتقًى صعباً في معاداة الإسلام ومحاربة المسلمين، ووفقاً لقانون”لكل فعل رَدّ فعل مُساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه” فقد بلغت الاستجابات شأواً بعيداً، حيث ظهرت تيارات وحركات إسلامية بعضها غير مسبوقة في التأريخ الإسلامي.
ولا شكّ بأن الحركات الوسطية هي الاستجابة الأكثر شمولاً لتحديات التخلف الداخلي والهيمنة الخارجية، حيث عملت على التصدي لعوامل صناعة القابلية للاستعمار وواجهت الاستعمار بكافة أشكاله الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت الأكثر إيجابيةً في التفاعل الخلّاق مع متغيرات العصر، والأقدر على إصلاح الأخطاء الذاتية المزمنة ومجابهة الأخطار الوافدة من وراء البحار، والأكثر فاعلية في إيقاظ الجماهير المسلمة وفي إيقاف موجات الغزو الفكري؛ مما أظهر صحوة إسلامية وسط الملايين من نُخَب المسلمين في شتى بقاع العالم، انخرط فيها مئات الآلاف من الأطباء والمهندسين والحقوقيين وأساتذة الجامعات والإعلاميين ورجال المال والأعمال وملايين الطلاب، مما يشي بتغيير كبير في المستقبل إن نجحت القيادات في توظيف الطاقات بشكل أمثل، وفي تجنّب الكمائن والفتن بصورة حكيمة.
وقد حاولت هذه الحركات نقل هذه التغيّرات من النُّخَب الصفَوية إلى عامة الجماهير، حتى تتّسِع حجم الطائفة القائمة على الحق وتكتمل الكتلة الحرجة التي تستطيع إحداث التغيير المطلوب بصورة كاملة وفي زمن قياسي، وقد تمت محاولات نقل التغيير من الصفوة إلى الجماهير عبر عديد من الجسور:
– جسر التعبئة الوعظية التي تتم من خلال المساجد.
– جسر التوعية السياسية، وذلك من خلال أواني عديدة وأهمها بالطبع الأحزاب السياسية.
– جسر التربية الفكرية، وذلك من خلال الكتاب ووسائط المعرفة.
– جسر التثقيف الاجتماعي والذي يتم من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
وعندما بدأ هذا التحول قرّر الاستعمار الغربي مواجهة هذه الحركات بدون هوادة، من خلال مخالبه المحلية المتمثلة بالأنظمة الخانعة والمنظمات السائرة في ركب التغريب بأبعاده وصوره المختلفة، حيث تجري الآن معارك سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وأمنية بل وعسكرية في بعض البلدان؛ من أجل اجتثاث الإسلاميين واستئصال حركاتهم العاملة في الميدان، والتي نجحت في تحجيم التمدد الثقافي الغربي وصنعت قدرا معقولاً من الوعي بالذات وبالآخر، ذلك الوعي الذي يمتلك القدرة على صناعة التغيير المنشود.
ويبدو أن الحرب العالمية على الحركات الإسلامية الوسطية، كانت تستحضر النموذجين الفلسطيني والتركي، النموذج الفلسطيني في المقاومة الفعالة والذي انغرس في الواقع الفلسطيني حتى عجز الصهاينة عن استئصاله بكل ما أوتوا من قوة ودهاء، ورغم انخراط الكثير من أنظمة ومنظمات العرب في المؤامرة، والنموذج التركي في البناء الحضاري والذي نهض بتركيا بقوة وحقق خلال عقد من الزمن ما لم تُحقِّقه الأنظمة العلمانية خلال سبعة عقود من الحكم المنفرد، لقد استفاد الغربيون من عبرة هذين النموذجين وجوب العمل بكل السُّبُل من أجل منع الإسلاميين من الانغراس وسط الجماهير والحيلولة دون وصولهم إلى السلطة، ومن هنا وجدنا المؤامرة على الديمقراطيات الناشئة ومدّ النُّخب العسكرية بكل مبررات وأسلحة الانقلاب على الشرعيات الدستورية، وهذا ما حدث في مصر وتونس واليمن وليبيا وإن اختلفت الأشكال والتفاصيل، فكأن لسان حال هؤلاء يقول: إن لم تأتِ الديمقراطية بعملائنا فالأنظمة الشمولية خير لنا!
وزادت حدّة الحرب على الإسلاميين بشكل كبير بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، فقد أظهرت قدرة الإسلاميين على تعبئة الجماهير ضد جلّاديها وعلى إنجاز التغييرات المطلوبة بسرعة عالية، مع امتلاك مؤهلات صناعة الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية وسط الشعوب العربية، مقارنةً بالتيارات اليمينية واليسارية. ولقد رأت مراكز الأبحاث وصناعة القرار في الدوائر التغريبية كيف استطاع الإسلام البروز كالعنقاء أو طائر الفينيق من بين ركام أحجار الحرب ومن بين رحى المعارك، وكيف نجح الإسلاميون في التقدم بسرعة مذهلة في بلدان ظلت سلطاتها تصنع لهم الأخاديد لتقبرهم فيها، كتونس التي حصلوا فيها على المركز الأول في أول انتخابات ديمقراطية تشريعية، وليبيا التي حصلوا فيها على المركز الثاني بعد عقود من الاستئصال الممنهج، حيث اندفع الإسلاميون من بين رماد المحارق ليساهموا في رسم خارطة ليبيا الجديدة بكل اقتدار.
ورغم عدم إجراء أي انتخابات في اليمن وسوريا بعد ثورتيهما فقد كان من الواضح بجلاء أن الإسلاميين يتقدمون الصفوف في الجهاد الناعم الأبيض وفي المقاومة العسكرية المسلحة لسقف الاستبداد الذي وقع على رأسي الشعبين اليمني والسوري، وأما في مصر وبعد عقود من ضربات الشّلل وجهود تجفيف المنابع، فقد اندفع الإسلاميون بقوة خارج القوالب التي صُنعت لتحجيمهم طيلة سنوات طويلة، ليحتلوا مركز الصدارة في صفوف العمل السياسي والثقافي والاجتماعي، وليصلوا إلى صهوة البرلمان وسدّة الحكم.
6 – تشجيع صُنّاع الوَهْن:
عندما قام الغرب بتشجيع أنظمة الجور والفساد على ضرب الإسلاميين، سعى ليمنع قيام فراغ نتيجة هذا الأمر؛ وذلك من خلال تشجيع أو إيجاد تيارات الوهن التي ستملأ الفراغ وتستهلك عواطف الشعوب الإسلامية في سفاسف لا تزيد المسلمين إلا رهَقَاً، بل واستثمارها في عملية اجتثاث حركات النهوض الحضاري. وقد ظهر هذا الأمر في الواقع جلياً في دعم الأنظمة العربية للتيارات الصوفية وبعض الحركات السلفية التي تستهلك طاقات أبنائها في قضايا ما أنزل الله بها من سلطان، وبرز أيضاً في مخططات الاستخبارات الأمريكية التي تسرّبت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث أوصت بتشجيع التيارات الصوفية والسلفية ذات التدين المغشوش أو المنقوص!
ويَحكي واقع الحال أن العديد من التيارات المحسوبة على التصوف والسلفية تقوم بحَقْن جسد الأمة العليل بالمزيد من قابليات الوهن وبكتيريا الانقسام، حيث يغرس هؤلاء في عقول المسلمين الفكر الجَبْري الذي يجعل المرء يتفانى في سلبيته كلما زادت طاقته الإيمانية، ويتفلّت عن الأخذ بالأسباب كلما ارتفع توكله على الله، معتقداً بأن سياط الظالمين ومَوجات الفاسدين إنما هي مشيئة الله التي لا ينبغي أن تُقاوم بل يجب أن تُقابَل بالاستسلام الكامل والرضى التام، ولا شكّ أن هذا الأمر يساعد على تجذّر الظلم وعُتُوّ الطغاة، ويتسبب في استفحال مظاهر السلبية وشيوع كافّة ظواهر الفساد، بجانب تشجيع هؤلاء على المضي قُدُما في تخريب مشاريع التيارات الوسطية والبناء الحضاري بحسن نية أو بدونها!
وها هي تيارات التدين المغشوش يتم رفدها بأموال وإمكانات ضخمة؛ حتى تُتم مهمتها في تطويع الشعوب لجلّاديها الذين يَمتطون ظهورَها، وذلك بتزهيد الجماهير بالدنيا بالصورة المَرَضية، وتصوير التواكل على أنه توكل، وتقديم إهمال الأسباب في صورة التوحيد الخالص، وتصوير السلبية أمام كافة الظواهر السيئة على أنه إيمان بالأقدار، وتصوير السكوت عن مظالم الطغاة على أنه امتثال لأوامر الله وأنه حكمة خالصة وسيرٌ في طريق تَجَنُّب الفتنة!
وفي هذا الإطار تمت محاربة كل المُكوِّنات العُلَمائية بأبعادها الوطنية والقومية والأممية، وإيجاد كيانات بديلة تملأ الفراغ من تيارات الوهن، ورأينا في هذا الاتجاه قنوات تغلق أبوابها أمام العلماء العاملين، ورأينا حَلّ العديد من المكونات مثل جبهة علماء الأزهر في مصر، ووصل الأمر إلى حد وَصْم عدد من الدول للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالإرهاب والمطالبة برئيسه السابق د. يوسف القرضاوي كإرهابي عبر الأنتربول، وفي المقابل تم عقد مؤتمرات دولية لملئ الفراغ ومنها مؤتمر (أهل السنة والجماعة) في جُرُزْني بالشيشان، وتَمّ تأسيس ما يسمى بمجلس حكماء المسلمين، وتم تنشيط المكونات الصوفية ورفدها بالإمكانات الضخمة، ودُعمت الطرق الصوفية حتى صارت أشبه بالدولة داخل بعض المجتمعات المسلمة، وفتحت وسائل الإعلام أبوابها لرموز تيارات الوهن، وصار كل من يبحث عن مكانة رفيعة يجد طريقاً سريعاً، وذلك من خلال تسفيه الإسلاميين الوسطيين وتشويه صورتهم الوضيئة والقيام بشيطنتهم بصورة غير مسبوقة!!
ووصلت رحى هذه المعركة إلى الغرب رغم حرصه الذكي على أن تظهر كمعركة داخلية بين المسلمين، فقد تم التضييق على عديد من المكونات الوسطية في بعض البلدان، مع فتح الأذرع للمكونات الصوفية وبعض التيارات السلفية، بجانب إتاحة هامش واسع من الحرية بالطبع للتيارات الشيعية، رغم تبادل العداء بين إيران والغرب على المستوى الإعلامي، بجانب إتاحة الفرص لتيارات العنف للقيام بخطايا يتم توظيفها في عمليات تجفيف منابع التدين الوسطي، كل ذلك يجري بالطبع من أجل امتصاص آثار الصحوة الوسطية ودفع الجانب الأكبر منها للانكماش ودفع جانب للذهاب نحو العنف وممارسة الانتحار في محرقة الإرهاب!
هذا ما يجري في الواقع من حرب لنَزْع أسنان الإسلام من قبل رموز الهيمنة الغربية، غير أن حركات إسلامية تعي ما يحدث، وهي تعمل بجد من أجل تحويل التحديات العريضة إلى فرص حقيقية؛ من أجل استفزاز الطاقات الإسلامية وتحريضها على الانبثاق والتّفتُّق، ومن أجل تحويل الصحوة العاطفية إلى صحوة عقلانية، وفي سبيل نقل أنشطة الدعوة والإصلاح من دائرة الانفعالات إلى ساحات الفاعلية وصناعة الحياة وإنجاز العروج الحضاري المنشود.
وسوم: العدد 804