بين الاجتهاد والتقوّل على الله

[باختصار (من مقال منشور في مجلة الفرقان – العدد 45 – تشرين الأول 2005م) مع تعقيب عليه]

كثُرت الصيحات وتعالت الأصوات بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد لكل من هبّ ودبّ، بلا حدود ولا قيود... باعتبار الاجتهاد حقّاً لكل الناس يقولون ما يحلو لهم ويُفْتُون حسب أهوائهم، حتى سمعنا من الاجتهادات ما تهتز لها القلوب وتشمئز منها النفوس، فمنهم من رفض حجاب المرأة المسلمة بدعوى الاجتهاد والتجديد، ومنهم من رفض القوامة بحجة أنها تنقص من كرامة المرأة وقدرتها الإبداعية، ومنهم مَن حرّم تعدد الزوجات، ومنهم من دعا إلى تقليد الغربيين في كل شيء بحجة التجديد والحداثة وتصحيح المفاهيم وتحقيق الحريات إلى آخر هذه الافتراءات. وصدق الله تبارك وتعالى القائل: (ومَن أظلم ممن افترى على الله كذباً).

وإن القول في القرآن بغير دليل: تقوّلٌ على الله وافتراءٌ عليه. من هنا وجبت الحيطة والحذر من الوقوع فيما يُغضب الله ويَجلب سخطه.

الاجتهاد يقتضي سبْرَ معاني النص، واستخلاصَ دُرره العجيبة وجواهره النفيسة لاستجلاب الفهوم المتعددة من عبارة النص وسياقه، بغية الاسترشاد والاهتداء بنوره المشرق الوضّاء، ولعل النص يتفتح عن رخصة ورحمة عميت عن أقوام، أو بقيت مهملة بين ثنايا النص شاردة تبرز تارة وتختفي تارة كأنها صيد الخاطر.

وبين التقوّل على الله، واستخلاص ريح طيّب وفهم جديد للنص، مع الخضوع لجلال الله، والفهم عنه... بُعْدُ المشرقين. فَشتّان بين مَن يعتدي على الحرمات، ويقول زوراً وكذباً، وبين خاشع بيد الله سبحانه، وقانتٍ يطلب المزيد من فضله وكرمه الواسع.

والمتقوّل على الله معتدٍ على الحدود، آثمٌ وظالم لنفسه مبين، تبيّن له سبيل الهدى وعنه زاغ وزاغ، وتبيّن له سبيل الضلال وإليه مال وانقلب، استعجل العاجلة ففرّت من بين يديه، وطرق باباً غير باب الله فانسدّت عليه الأبواب وأذلّته الأعتاب.

والساجد الراكع بباب مولاه اصطفاه واجتباه، وبالإنعام أمَدَّه، فتارة يكشف له مستوراً، وتارة يكشف له باباً من الفهم السديد لم يُفتح لمن قبله.

وخلاصة المرام في تحقيق المقام:

- إن الاجتهاد مفتوح لكنْ لأهله، وفي محلّه، وبضوابطه التي حدّدها علماء الشريعة، وهي مبثوثة في كتب الأصول.

- لقد أصبح الاجتهاد المنفلت زورق جهنم ومطية الأهواء والطموحات الشخصية.

- إن هذه الدعوات التي نسمعها صباح مساء في وسائل الإعلام المريبة هدفها تحطيم الشريعة وتشكيك المسلمين بدينهم، فخاب والله من كانت هذه بضاعته وذاك سعيه. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!.

* * *

تعقيب: لقد أغلق العلماء باب الاجتهاد، في بعض العصور. وسواء كانت مسوّغاتهم في ذلك مقبولة أو لم تكن مقبولة، فإن المستجدات في حياة المسلم تقتضي فتح باب الاجتهاد. وحين نقول ذلك، فإن الذين يحقّ لهم ولوج هذا الباب إنما هم المجتهدون، أي الذين تحققوا بشروط المجتهد، من تقوى لله تعالى، وسلامة في العقيدة، ومن إخلاص لدين الله وغيرة عليه، ومن معرفة بمعاني كتاب الله تعالى وتفسيره، ونصوص السنّة النبوية وأقوال المجتهدين من الصحابة فمن بَعْدَهم، ومن معرفة بأصول الاجتهاد وما يسمى بعلم أصول الفقه...

والعجب أن جميع الناس يقرّون أنه لا تجوز ممارسة مهنة الطب إلا لمن تخرّج في كليات الطب، وكذا لمهن الهندسة والصيدلة وغيرها... فهل الاجتهاد في دين الله هو المباح لكل إنسان؟!.

[محمد عادل فارس]

وسوم: العدد 804