تفعيل ياسر برهامي
محمد جلال القصاص
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:-
لكل حاضرٍ في المشهد قضية يصارع طلبًا لها ودفاعًا عنها، وقلَّ أن تظهر قضية الصراع في صريح المنطوق، وإنما يستدل عليها من مواقفهم ومن سياقهم!!
ومثلًا: ليس بين حكام العرب في فترة الثورات السابقة من تحدث بأن الحكم هو قضية الصراع الأولى بالنسبة لهم؛ بل كانوا جميعًا يتحدثون عن أشياء أخرى: تحرير فلسطين، الوحدة العربية، ولكن الدراسات الإمبريقية التي تناولت بالتفصيل تحليل المحتوى لمواقفهم وأفعالهم بينت أن هدفهم الرئيس هو "الحكم".. أن يحكموا هم بأنفسهم وتلك القضايا (فلسطين والوحدة) وسائل أو قضايا فرعية.
ويتحدثون للشعوب بأن خدمة الشعوب هدفهم ثم هم يأكلون أموال الناس بالباطل ويمنعون عنهم حقوقهم. ولذا لا تصدق كل من يتحدث، وفتش في مواقفه وأقواله عن قضيته الرئيسية.
وفي الفترة الماضية لاحظت حضورًا ملفتًا لياسر برهامي في الإعلام وخاصة القنوات المحسوبة على المنظومة الرافضة للإسلاميين، وفي البرامج التي تولت كبر التحريض على الإسلاميين حتى أزالتهم، ولما كنت مهتمًا بالخطاب السلفي وتأثره بالممارسة السياسية استدعى هذا الأمر استعراض حلقات برهامي ومحاولة القيام بتحليل مضمون ما جاء في حوارات برهامي، كمحاولة للوصول إلى القضية الرئيسية التي ينشدها في هذا الخروج المستمر، أو ينشدها من استخفه للخروج المستمر.
قضية برهامي الآن:
يؤكد برهامي على أن هدفه الآن هو محاصرة الفكر التكفيري التفجيري، وهنا عدة أمور:
أولها: أنه لم يقل أحد عن الإخوان ولا الجماعة الإسلامية ولا السلفية العلمية ولا أحدٍ ممن هم في "التحالف الوطني" اليوم أنهم أصحاب فكر تكفيري غير ياسر برهامي!!.
وبرهامي لا يقدم دليلًا على دعواه غير ادعاء أنهم هم الذين يفجرون الكنائس والمنشآت العامة؛ ثم يتخذ من التفجير أمارة على التكفير، يقول: يكفرون ويفجرون، ويقول: الإخوان اختاروا حمل السلاح والخروج على المجتمع. ولاحظ الألفاظ التي يستعملها (الخروج على المجتمع).
ومعلوم أن الإخوان لم يتبنوا عملية تفجير واحدة، ولا عملية قتل مسلح واحدة، ولا استطاعت الدولة أن تثبت عملية تفجير أو قتل مسلح واحدة لجماعة من الجماعات الإسلامية؛ بل جاءت تصريحاتهم مضحكة وواضحة الكذب، فهم ينسبونه لـجماعة بيت المقدس ويعاقبون الإخوان، وينسبونه للأموات والمسجونين، ويعلنون عنه قبل وقوعه بأيام، ويتعهدون بعدم حصوله أحيانًا. والقتلى كلهم ..كلهم من الإخوان ومن اصطف بجوارهم، والعسكر هم الذين يَقتلون وفي وضح النهار. ولكن برهامي يصرح بأن أغلب العسكر مفعول به وليس فاعلًا!!
هكذا يتكلم "الشيخ" "التقي" الذي لا تفوته تكبيرة الإحرام!!
ثانيها: ينادي على الدولة بأن تعينه بقوة للتصدي لهذا الفكر، يطالب بتكوين تيار كبير يمثل الإسلام المعتدل يتكون من جماعته والأزهر وبعض أنصار أهل السنة و"المعتدلين" من الإسلاميين عمومًا، يكون –هذا التيار- مرجعية لكل المسلمين في مصر. وفي ظني أن هذه هي قضية برهامي الرئيسية: تكوين تيار كبير في مصر على أنقاض الإخوان ومن تحالف معهم، يكون هو بيضة هذا التيار، يدل على ذلك السياق الذي يتحرك فيه برهامي و"الدعوة السلفية" بالأسكندرية، فقد حرصوا مذ ظهروا على التميز والتحدث كفصيلٍ مستقلٍ، فالذي يبدو أنه يستغل الحدث للتوسع على أنقاض الإخوان وعامة التيارات السلفية؛ وفي هذا السياق يناور بأمور؛ تارةً بالحديث عن أن المشكلة في قيادات الإخوان فقط وأن المراجعات سترجع عامتهم كما حصل مع الخوارج في عهد علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- حين أرسل لهم عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- ، ويطلب فرصة لتكوين تيار يتحدث لهم كي يرجعهم، ويقدم نفسه، ويذكر أن له تجربة استمرت عقدًا ونصف وانتهت بتراجع جماعات العنف في التسعينات، وهذا قوله هو لم أسمعه من غيره -، وتارة يحاول التحدث باسم التيار الإسلامي وأنه يريد سلامتهم، وتارة يطالب رفع يد العسكر عن أفراد التيار الإسلامي بدعوى أن القتل والتعذيب سيزيد من التكفيريين؛ ومرةً يثير قضية الوطنية والحفاظ على مصر من التقسيم ومن تنفيذ المشروع الشرق أوسطي، ولا أدري ما علاقة تقسيم مصر بالمشروع الشرق أوسطي، وعن أي مشروع شرق أوسطي يتحدث: ينسى أن الحديث المفتوح الذي يتلقاه مختصون في السياسة ليس كالحديث في المسجد يتلقاه المحبون الذين لا علاقة لهم بالسياسة؛ ومرةً يدافع عن الجيش بدعوى أن سلامة الوطن والأوطان المجاورة من سلامة الجيش، ومرةً يدافع عن الشرطة بدعوى أن الشرطة مفعول به وليست فاعلًا في الجملة (مجني عليهم وليسوا جناة)، وأن الإخوان هم الذين يحملون السلاح في وجه المجتمع كله وهم وحلفاؤهم الذين يفجرون، ومرة بالحديث عن أنها فتنة ولا قصاص، ومن عند نفسيه يؤكد بأن اعتصام رابعة والنهضة كانا مسلحين وأن العسكر يوم الفض فتحوا طريقًا آمنًا ولم يتعرضوا لمن خرج، وأنهم لم يقتلوا أحدًا حال فض اعتصام النهضة، وهو قوله هو، ومرة بالترحيب الحذر المتصاعد –حسب الظروف - بالسيسي رئيسًا لمصر وأنه "رجل المرحلة".
ياسر يتقافز بين ضدين: مرة يدعي أنه يقف أمام الإسلاميين "كحامي" لهم من بطش العسكر، ومرة يقف أمام العسكر كحامي لهم من الإسلاميين (التكفير والتفجير)، والهدف من هذا التقافز الخفيف بين الضدين أن يُفعل المتاح وصولًا إلى بناء كيان "دعوي".
ثالثها: قضية مَن يستضيف ياسر ليست التواصل مع الحركات الإسلامية للوصول لحل ثقافي أو التعايش المجتمعي فهم أنفسهم الذين يُقلِّبون الناس على الإسلاميين، وليست قضيتهم تلميع برهامي وحزبه، فقد أقر برهامي نفسه بأن هناك محاولات لإقصائه ومن معه، وأقر بأن الإعلام يثير أزمات من خلال ما يطرحه عليه من أسئلة، وذات مرة فوجئ بأن ما اتفق مع المذيع على عدم إثارته قبل الحلقة أثير في بدايتها، وكان حديثًا عن تولي غير المسلم الولاية العامة؛ هم يستغلون الظرف ويستضيفون ياسر لتفعيله، لطرح عددٍ من الأسئلة على الفكر الإسلامي والحصول على إجابة تخدمهم في أهدافهم: هذه الأسئلة تدور حول قضايا الخلاف بين العلمانية والحركات الإسلامية، مثل: شكل الدولة التي يريدوها الإسلاميون، وموقفهم من الدولة القومية الحالية، والموقف من الأقليات وبالتالي قضية المواطنة والولاية العامة والقبول بمرشح نصراني على قوائمهم، والموقف من المرأة حسب الرؤية الغربية، والموقف من الفن بوضعه الحالي.
وهذه الأسئلة أداة، وليست أسئلة عادية تبحث عن إجابة، وإنما أسئلة تُطرح على نوعية معينة من المنهزمين .. المتنازلين.. المتراجعين.. المتأولين- كما تشاء سمهم – من أجل الحصول على إجابة معينة تسوق في اتجاهين: الأول: داخل الصف الإسلامي نفسه للتفاعل معها وبالتالي شغل الداخل الإسلامي، والثاني: في صفوف المخالفين من أجل تثبيتهم على ما هم عليه وتغيير معالم الدعوة الإسلامية في حسهم.. فالإسلاميون ليسوا ضد الفن ويرون في الأفلام والأغاني جمالًا، والإسلاميون لا يعارضون ترشح المرأة على قوائمهم وبالتالي خروجها وكشف وجهها ومخالطتها للرجال، والإسلاميون ليسوا ضد تولي النصارى على قوائمهم. وإن وجدوا إجابة لا يرغبون فيها استعملوها في تخويف المخالفين من الإسلاميين، بدعوى التشدد وأن الإسلاميين خطر على غيرهم ويريدون إجبارهم على غير ما يعتقدون؛ والمقصود أن هذه الأسئلة أداة للطعن في الفكر الإسلامي عمومًا.
وربما كان هذا هو السبب في استدعاء ياسر نفسه، وعدم الاكتفاء بالمتحدثين الرسميين إذ أن الأمر يحتاج إلى "مرجعية" لتقرير الإجابة على تلك الأسئلة في هذا التوقيت بالذات.. توقيت الهزيمة للحركات الإسلامية في مصر؛ ويتأكد ذلك من الاصرار على طرح ذات الأسئلة في كل برنامج فكأن ياسر يعيد الإجابة خمس مرات أو أكثر لتتقرر في حس من يشاهد ويسمع.
ياسر له قضية، وهم لهم قضية، هو يحاول تفعيلهم لصالحه وهم يحاولون تفعيله تحصيلًا لأهدافهم؛ وهم المستفيدون من ياسر ولن يصل من خلالهم لقضيته هو، ببساطة لأن مساحة الصراع أكبر منه، فهو جزء من المشهد، وكثير من أطراف الصراع يعملون في مناطق لا يتواجد هو فيها وتخدم مصالح المخالف، كما النصارى، وكما الأزهر كمؤسسة رسمية بشيخه والمفتي السابق والحالي والأوقاف ومن يتبعونها من أئمة المساجد، وكما المستقلون من الدعاة المرتبطون بالخليج ك"الشيخ" محمد حسان و"الشيخ" الحويني، وكما "المرتشون الجدد" من جيل الوسط، فبرهامي يتواجد في جزء من ساحة الصراع مع المخالف، وبالتالي مهما يحصل من نتائج فإنه في الأخير جزء من المشهد والذي يدير المشهد كلية ليس هو، وبالتالي سيبقى محدودًا ومفعولًا به لا فاعلًا، يُستدعى متى شاءوا ليقول ما شاءوا. وهم يأخذون منه هو قبل غيره، وأول ذلك: توريطه في الكذب الصريح، وقد تكرر هذا منه عدة مرات، والله يقول:" إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ"[النحل:105]، وقد انفضَّ عنه عامَّة أتباعه، وصغَّروه عدة مرات، فلا يكاد يقول قولًا إلا ويتراجع عنه بعد قليل.قد اضطروه إلى منحدر لا يستطيع أن يتماسك إلا في قعره. وعليه أن يفهم أن ليس عند هؤلاء عزة، ولا رزقًا حسنًا، قال الله: { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً }[النساء: 139]، وقال الله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [العنكبوت:17]
رابعها: هناك حراك يهدف إلى الإفادة من ياسر، أسميهم بآكلي الجيف، فبعد أن سقط برهامي في المعركة القائمة بين الإسلاميين والعلمانيين، نزل عليه من حاول الإفادة منه وتفعيله.
هذا التوجه يحاول تطوير برهامي، أو تطوير الحالة السلفية في اتجاه علماني مستغلًا تراجع ياسر، ويمكن رصد هذا التوجه في الحراك الثقافي المتعلق بالإسلاميين على أرض دولة قطر، وخاصة ذلك الذي يتوسطه محمد الأحمري وعزمي بشارة، فكلاهما يفيد من المتساقطين في المعركة بين العلمانية والحركات الإسلامية، وإن اختلفا عن بعضهما، وأهم ما يخرج منهما هو الحديث عن أن الأدوات الديمقراطية تؤدي إلى تبني فلسفات الديمقراطية أو التعديل في الأيدلوجيات، وهو ما بشر به عزمي بشارة من قبل، وأن السلفية ضمن سياق المستبدين وضد الحريات، وهو ما يبشر به محمد الأحمري، وغير ذلك. قدم برهامي لهؤلاء مسوغًا للبقاء والنمو، وخطرهم خطر، فقد يكون هذا الحراك –وخاصة القريب من السلفيين – سببا في تطوير الخطاب السلفي أو جزء منه في اتجاه العلمانية، وبشائره بدت في مصر، وخامته موجودة بكثرة، والخبرات السابقة موجودة.
ولملمة للمقال: أنه في هذا الوقت الذي تجمع فيه المخالفون لاستئصال حركات التجديد الإسلامي تحرك ياسر لأهداف خاصة، تتمحور حول الحفاظ على أتباعه وتوسيع رقعة نفوذه، ويقدم عداوة الصف الإسلامي قربانًا، في مشهد لم ير التاريخ أسوأ منه، والمخالفون يتحركون لأهداف خاصة تتعلق بالقضاء على حركات التجديد الإسلامية أو تحجيمها، بأكثر من أداة، أحدها برهامي وفي أكثر من ساحة لا يتواجد فيها برهامي؛ وقد أفادوا منه ولم يفد منهم، فكل يومٍ يخسر ويكسبون.