التجربة في مناهضة الانقسام
تندلع اليوم ما يُشبه الحرب بين فتح وحماس، وذلك في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات، بل الأناشيد، التي تطالب بالمصالحة. فلكأن المعادلة بين الانقسام والمصالحة تقوم على أساس معادلة طردية تأتي معاكسة لما يُراد. فكلما ازداد الإلحاح على المصالحة ازداد الانقسام، وانتقل التناقض إلى ما يشبه الحرب.
ومع ذلك، أصبح هنالك من الفلسطينيين، ومن العرب والمسلمين أيضاً، من أدمنوا على المطالبة بتجريب المجرّب، ولم يعد ثمة سبيل لإقناعهم بعدم تكرار الأسلوب نفسه، أو بالبحث عن بديل آخر قد يحقق الغرض.
التفسير الذي يشيعه البعض حول سبب الانقسام باعتباره صراعاً على سلطة. وفي هذا تفسير تبسيطي مخل، وفيه إساءة للطرفين، وذلك بالرغم من وجود سلطتين في كلٍ من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكنهما تختلفان في السياسة، وتشكل كل منهما وضعاً مختلفاً جذرياً عن وضع الآخر. فجوهر الانقسام سياسي لا يحل إلاّ بتغلب أحدهما على الآخر، والمصالحة غير ممكنة بالجمع التلفيقي، فلا مفر من الانحياز إلى أحدهما. ولا مجال للمساواة بين الطرفين الواقفين على رأس الانقسام.
فالسلطتان تختلفان في السياسة والاستراتيجية، وشكلت كل منهما وضعاً مختلفاً جذرياً عن الوضع الآخر. فجوهر الانقسام سياسي- استراتيجي؛ لا يحل إلاّ يتغلب أحدهما على الآخر وكذلك جوهر المصالحة بين الوضعين.
عبّر طرف السلطة في رام الله وممثلو فتح، وأساساً الرئيس محمود عباس، أن لا حل للانقسام، ولا مصالحة، إلاّ على أساس سياسة واحدة واستراتيجية واحدة ("قرار واحد في السلم والحرب")، ولا مصالحة إلاّ إذا تسلمت سلطة رام الله الوضع كله في قطاع غزة، مؤكدين أن يشمل ذلك "كل ما فوق الأرض وما تحت الأرض"، يعني سلاح المقاومة والأنفاق، وبالطبع أن يطبق على قطاع غزة سياسة التنسيق الأمني حتى لا يبقى هناك انقسام بين ضفة وقطاع.
أما حماس فقد قبلت بإجراء مصالحة على أساس تسليم كل الوزارات والدوائر، وفي المقدمة المعابر، وامتنعت عن أن تشمل المصالحة تسليم السلاح والأنفاق، أي الجانب الأمني المتعلق بهذا البُعد، وهذا من دون التطرق إلى البعد السياسي.
هنا، على كل من يطالب بإنهاء الانقسام وإجراء مصالحة أن يحدد موقفاً صريحاً لا التواء فيه بتأييد مصالحة مشروطة بتسليم سلاح قطاع غزة وأنفاقه، ومشروطة بتبني سياسة محمود عباس، أو يحدد موقفاً معترضاً عليه، مخالفاً له، مؤكداً على ضرورة حماية المقاومة وأنفاقها في قطاع غزة. فالحياد المبهم والملتبس من خلال تناول موضوع الانقسام والمصالحة باعتباره خلافاً على سلطة، أو باعتبار الطرفين مسؤولين عنه بالتساوي يصلح موقفاً لمن يؤيد موقف محمود عباس، أو يتهرب من رفضه ومعارضته، أو يناصِب حماس العداء أيديولوجياً، ولكنه والحالة هذه لا يخدم تمسكه المبدئي ضد الانقسام؛ لأنه بهذا يضع الحَبّ، موضوعياً، في طاحونة موقف محمود عباس.
والدليل أن هذا ما طبق طوال الصراع الذي دار حول الانقسام والمصالحة موقف "حيادي" يدين موقف الطرفين عموماً، فيما الموضوع محدد وليس عاماً. فجوهر الموضوع هو إشكال السلاح والأنفاق وأمنهما، ومن ثم سياسة واستراتيجية المواجهة مع العدو. وهذا الموقف لم يساعد، عملياً، على ممارسة الضغط لإنهاء الانقسام وإجراء المصالحة. بل ساعد موضوعياً على المضي في إفشال كل محاولات إنهاء الانقسام وإجراء المصالحة، وفقاً لشروط محمود عباس.
أما الذين أخذوا موقف الحياد، وفي جوهر موقفهم معارضة المصالحة التي تقوم على وضع أسلحة المقاومة وأنفاقها في أيدي سلطة رام الله، ويرفضون أن يعمم الوضع في الضفة الغربية (لا سيما التنسيق الأمني) على قطاع غزة، فلم يجربوا إعلان معارضتهم لسياسة محمود عباس، ووفد فتح، وتحميلهما مسؤولية استمرار الانقسام، الأمر الذي كان سيشدد الخناق على السبب الذي يفاقم الانقسام، ولا يسمح بعلاج بديل يخفف من سلبياته، ويساعد على تأسيس وحدة وطنية حتى بوجود الانقسام.
مشكلة قطاع غزة تكمن بالدرجة الأولى في الحصار، وفي ضرورة فك الحصار من جهة، وكمنت، من جهة أخرى، في مشكلة قيادة حماس للسلطة في قطاع غزة، بالنسبة إلى الفصائل الفلسطينية الأخرى. وقد حلت هذه المشكلة إلى حد بعيد، أو فلنقل، مبدئياً، وكخطوة أولى، بعد تشكيل الهيئة العليا لقيادة مسيرة العودة الكبرى، كما تشكيل الغرفة المشتركة لقيادة العمل المقاوم العسكري، ومن ثم ضرورة الذهاب في هذا الاتجاه إلى شراكة شاملة حقيقية.
أما المشكلة الملحة، وذات الأولوية، فهي مشكلة الضفة الغربية والقدس، حيث يستشري الاستيطان والتهويد بلا حدود، ويتحكم بلا رادع، والأنكى، يمارس التنسيق الأمني الذي يحمي، عملياً، الاحتلال والاستيطان، وذلك بالرغم من الإجماع الفلسطيني على رفضه والمطالبة بوقفه (عدا موقف عباس المنفرد منه حتى الآن).
هنا يكمن الخلل في تناول موضوع الانقسام والمصالحة، حيث ذهب التركيز إلى الوضع في قطاع غزة، وعودة حكومة رام الله إليه، وما نشأ فيه من حالة مقاومة مسلحة وأنفاق، فضلاً عن التغميس خارج الصحن، وهو معالجة الموضوع من خلال إجراء انتخابات للمجلسين التشريعي والوطني وللرئاسة، وهي التجربة التي ولدت الانقسام، فكان الدواء "بالتي كانت هي الداء".
بكلمة، كان الخلل الأشد، والذي لم يزل مستمراً، هو التركيز على الوضع في قطاع غزة، بدلاً من التركيز على الوضع في الضفة الغربية والقدس، حيث الاحتلال والاستيطان، وحيث التنسيق الأمني.
هذا التناول المقلوب على رأسه لموضوع الانقسام والمصالحة هو السبب في كل ما جرى من فشل لمفاوضات إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة. فهو سبب الإدمان على تجريب المجرّب، فقد كان حفراً في الحفرة التي مثلت الانقسام، الأمر الذي جعل المصالحة غير ممكنة، ولم يسمح بطرح بديل إيجابي تعويضي عنها.
إن التركيز على مشكلة الاحتلال والاستيطان في القدس والضفة الغربية وإعطائها الأولوية على ما نشأ من انقسام، سوف يطرح ضرورة تشكل وحدة وطنية تشمل كل الفصائل، وتشمل قطاع غزة والضفة والقدس، وتوحد كل الشعب الفلسطيني، والرأي العام العربي والإسلامي والعالمي لدعم انتفاضة شعبية سلمية؛ لا تتوقف حتى دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط.
وسوم: العدد 807