مَن كَفّرنا فليس منا

مَن كَفّرنا فليس منا

مجاهد ديرانية

-1-

ما دخل التكفيرُ ساحةَ جهاد إلا أفسدها، ولا تسلّط أهلُ التكفير على مركب جهاد إلا أغرقوه. إن التكفير هو أول خطيئة ولغ فيها الغُلاة في تاريخ الأمة في أول الزمان وأعظمُ شر أحدثه الغلاة في أرض الشام في هذا الزمان، وهو أصل فساد الجهاد وأول خطوة في الطريق إلى الهزيمة، فإنه لا يكون بعدَه إلا هَرْجٌ ومَرْج. وما الهرج والمرج؟ إنه دماء وشقاء وفتنة ظلماء.

فمَن أحبّ أن يُحيل ساحةَ الجهاد في الشام إلى ساحة فتنة واقتتال فإن أضمن وأسرع الطرق إليهما هو فتح باب التكفير، ولئن رضيه فريق من الناس فإن عامة أهل الشام لا يرضونه، وإنهم ليهتفون ويقولون: ليس منّا وليس من ثورتنا من دعا إلى هرج ومرج، ليس منا وليس من ثورتنا من دعا إلى تكفير الناس.

إن هذا الباب لم يُفتَح قطّ إلا هَبّتْ منه ريحُ شر، وإن أهل الشام قد صمّموا على أنه باب موصَدٌ لن يسمحوا بأن يُفتَح عليهم أبداً إن شاء الله.

-2-

إن الحذر والتحذير والنقد والتشهير من لزوميات الثورة ومن أدواتها التي تحفظ لها عافيتها وتَقيها من الضياع؛ الحذر والتحذير من الأخطار، ونقد الأخطاء وأوجه التقصير، والتشهير بالفاسدين والمتسلقين الذين يَخفى أمرُهم على العامة، ليس تشفياً بهم وانتقاماً منهم وإنما حمايةً ووقايةً من شرورهم، فلا مجاملةَ لأحد على حساب الثورة، ولن نرضى بتقديم مصالح الأفراد على مصلحة العباد والبلاد.

ولكن الفرق كبير كبير بين التشهير والتكفير؛ الأول يشبه طلقات تحذيرية في الهواء، أما الثاني فإنه برميل متفجر أو صاروخ بالستيّ مدمر. إنه حكم باستحلال الدم في الدنيا وحكم بالحرمان من رحمة الله في الآخرة. ومَن يملك هذا الحق إلا الله؟

إن الحكم على أفراد الناس بالكفر والإيمان هو الذي سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم "تألّياً" على الله، وهو يكاد يكون من الكبائر، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث "أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك".

-3-

قد يُقال إن ما يطلقه البعض من أحكام يدخل في باب تكفير الأعمال وليس في باب تكفير الأعيان، ويقولون إن هذا التوضيح مطلوب لأنه من الدين. والجواب من وجهين، أولهما أن ميادين الجهاد تمتلئ بالشبّان الصغار الذين لا حَظَّ لهم من العلم إلا أقل القليل، ولئن فرّق العالِمُ المتمكّن بين الفعل وفاعله فإنهم لا يفرّقون، فعند عامتهم أنّ مرتكبَ الفعل المكفّر كافرٌ بإطلاق، ولم أسمع إلى اليوم أن من أولئك الشبّان مَن يحسن النظر والتدبّر في شروط التكفير وانتفاء الموانع، فإذا سمعوا أن الائتلاف والأركان وقعا في الكفر فإن النتيجة الفورية التلقائية عندهم أن كل عضو من أعضائهما كافر حتماً، وإذا كان كافراً فإن الحكم المترتب على كفره هو هدر دمه، فيتحول المجاهدون إلى قَتَلة ويصبح أعضاء الائتلاف والأركان أهدافاً مشروعة للاغتيال.

الوجه الثاني: إن أكثر ما يصدر من أحكام بالكفر في الفكر الجهادي المعاصر يرجع إلى أصلين، هما موالاة الكفار والحكم بغير ما أنزل الله، وقد وجدنا أن في قياس الفعل البشري على الأصل المكفّر في الحالتين عَنَتاً وتنطعاً لا يرضاهما الراسخون الثقات من علماء الأمة. فقد ذهبت طائفة من الجهاديين إلى اعتبار أدوات الديمقراطية (كالانتخابات العامة وتداول السلطة) شركاً بالله واعتبار نظام الدولة المدنية حكماً بغير شرع الله، واشتطّت طائفة حتى جعلت الاتصال بدول الكفر موالاة، وقَبول الدعم والسلاح منها موالاة، بل بلغ الأمر ببعضهم أن يجعلوا الصورة يتصوّرها المسلم مع الكافر موالاة مكفِّرة! وفي ذلك كله مقال وتفصيل وأخذ وردّ، فكيف تُبنى عليه أحكام قطعية هي من أخطر وأعظم الأحكام في الإسلام؟

-4-

قال صاحب "العقيدة الطحاوية" (وهي من أهمّ المتون المعتمَدة عند أهل السنة والجماعة): "الإيمانُ هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه، ولا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه". فالحكم بالكفر معقودٌ على نيّة الاستحلال ومترتّبٌ عليها، وإطلاقه على مرتكب الفعل المكفّر الذي لم يستصحِب نيّةَ الكفر لا يجوز، بل يوشك أن يوقع فاعلَه في الكفر والعياذ بالله، لأن مَن كفّرَ مؤمناً لا يستحق التكفير باءَ بالكفر كما ورد في الحديث الصحيح.

فلو أننا سلّمنا بأن الاتصال بالكفار والمنافقين كفر (ولا نسلّم) ولو أننا أفتينا بأن النظام المدني الديمقراطي شرك (ولا نفعل) فإن هذا إنما هو حكمٌ على الفعل، وربما كان الفاعل متأوّلاً أو جاهلاً أو مضطراً، فمن أين لنا أن نطلع على نيّته لنكفّره؟ أنّى لنا أن نشقّ الصدور ونحكم على النوايا؟

إن الحكم على النوايا من اختصاص الخالق فلا يطّلع على خفايا الصدور إلا هو، أما نحن فليس لنا أن نحاكم نوايا الناس ولا أن نحكم عليهم بجنّة ونار. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتّق الله، فقال: ويلك، أوَلستُ أحقّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ قال: ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا، لعلّه أن يكون يصلّي. قال خالد: وكم من مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهنا الشاهد): "إني لم أؤمَر بأن أنقب عن قلوب الناس ولا أشقّ بطونهم".

-5-

ما لنا وللتكفير؟ ألا يسعنا الأخذ على أيدي الفاسدين والتحذير من شرهم إلا بتكفيرهم؟ إننا نعلم أن في الائتلاف والأركان فاسدين وفيهم منتفعين متسلقين اتخذوا من المعارضة السياسية مِرقاةً لتحقيق المكاسب الشخصية، فلا يَرقُبون في الشعب السوري عهداً ولا قُربى، وهؤلاء يتوجب علينا أن نتعقبهم ونفضح كذبهم وفسادهم وأن ننزع عنهم صفة المعارضة الوطنية ونرفض أن يكونوا ممثلين للشعب السوري ولثورته وجهاده، ولكننا لا نكفّر المسلمَ منهم لأنه فاسد، ولا يلزمنا التكفير لنطلق عليه النفير ونشهّر بفساده غاية التشهير.

ثم إنّ في إطلاق الحكم بتكفير المجلس والائتلاف جنايةً على رجال من صالحي المسلمين، ما علمنا عليهم إلا خيراً ولا نشهد إلا أنهم مسلمون مخلصون يريدون الخير للأمة والبلاد، وإني أعرف فيهما بعض أفاضل الناس الذين يريدون (فيما أحسب، والله حسيبهم) وجه الله وصالح الثورة، وقد قلت لأحدهم مرة يومَ عُرض عليه مقعد في المجلس الوطني: أنصحك بالرفض لأنك تحرق نفسك، فالعمل السياسي محرقة لا ينجو منها أحد. فقال: "إن المجاهدين يحرقون أنفسهم في ميادين القتال، فلماذا أضنّ بنفسي عن الحرق في ميدان السياسة، ولماذا لا أجود بمستقبلي للهدف نفسه الذي جادوا من أجله بأنفسهم؟ إذا كنت سبباً في تحقيق بعض الخير وتخفيف بعض المعاناة فيكفيني هذا عزاءً عمّا ألقاه من أذى".

وقد عرفته من بعدُ صادقاً لم يغيره المجلس ولم تفسده المناصب، ومثلُه العددُ العديد من "المجلسيّين" و"الائتلافيّين"، فكيف يستقيم أن نقول إن المجلس والائتلاف كيانان كافران على الإطلاق؟

-6-

أيها السادة الكرام: إننا ندعو إلى محاسبة المخطئين وإلى كشف الفاسدين والتشهير بهم وإقصائهم من مواقع التأثير، فلنتعاهد على أن لا يسكت أحدٌ منّا عن خطأ وأن لا يجامل أحدٌ أحداً أبداً في الحق وفي الثورة، لا أخاً قريباً ولا خِلاً حبيباً، أما التكفير فدعونا منه جملة ولا تفتحوا علينا بابَه فإنه بابُ شرّ عظيم.

لقد رأينا كيف استهانت داعش بهذا الأمر الجلل حتى صار أُلعوبةً يلعب بها الغلمان، فيحكمون على الرجال بالكفر والردّة وأكثرُهم لا يحسنون حل مسألة في الفرائض ولا يميزون بين السنن والواجبات والأركان في أكثر العبادات. فمَن أراد أن يكون جزءاً من جهاد أهل الشام ويرجو لمشروعه القَبولَ بينهم فلا يتشبهنّ بداعش، وليغلق هذا الباب.

يا قادة الجهاد ويا أيها المجاهدون الكرام: أعيذكم بالله من فتنة التكفير.